تفاصيل ليالي نهب وتخريب حديقة سندباد

خمس ليال من النهب والسرقة ومصالح الأمن تغط في سبات عميق واشتباه في تدبير جهات داخل مجلس المدينة لعمليات النهب دمار وخراب في كل مكان. قطع حديد وأخشاب متناثرة في كل مكان. زجاج مقاه مهشم. نار تلتهم واحدة من قطع ألعاب أكبر حدائق الدار البيضاء وتحولها إلى عمود دخان يتصاعد نحو السماء. موقوفون. عربات مجرورة وسيارات وشاحنات ودرجات نارية ثلاثية العجلات تبحث عن نصيب من «الغنيمة». رجال أمن بسياراتهم ودراجاتهم النارية يطاردون أولئك الذين لم يحالفهم الحظ في الفرار بما وضعوا أيديهم عليه. مقاه هُشم زجاجها ونُهبت معداتها وخُربت بالكامل... «الصباح» تعيد في هذا الربورتاج سرد تفاصيل أكبر عملية نهب تتعرض لها أكبر حديقة ألعاب في أكبر مدينة مليونية بالمملكة...المشهد لا يفرق كثيرا عن صور الخراب والدمار التي تتواتر على شاشات القنوات التلفزيونية العالمية منذ مطلع العام الماضي في المنطقة العربية. إنها تعيد إلى الأذهان مشاهد بعض المصريين الذين استغلوا حالة الانفلات الأمني ليستولوا على كل ما يقع تحت أيديهم، وتذكر أيضا بما حصل في عدد من المدن الليبية، خلال وعقب، أطوار الثورة التي أطاحت بالعقيد معمر القذافي... لكن هذا المشهد ليس آتيا لا من ليبيا ولا من مصر ولا حتى من سوريا أو اليمن أو البحرين... إنه مشهد من قلب مدينة الدار البيضاء ومن قلب حديقة سندباد، كبرى حدائق البيضاء. أرض الغنائم يروي حارس بإحدى مقاهي الحديقة الثلاث أن عمليات النهب والتخريب التي طالت معدات وتجهيزات الحديقة والمرافق الموجودة بها بدأت ليلة السبت الماضي. ليلتها حلت جيوش من حزام البؤس المحيط بهذه الحديقة إلى موقع أحد الأوراش لجمع قطع الحديد والأخشاب والأسلاك والأبواب والقضبان الفولاذية وكل ما يدخل ضمن خانة الخردوات.«كانت أعدادهم في الأول قليلة، لكنها ما لبثت أن ارتفعت حتى صاروا بالمئات»، يستحضر الحارس الذي يعمل بفضاء البحيرة الذي تعرضت مقاهيه بدورها لعمليات تخريب شاملة. فبمجرد أن ذاع خبر العثور على «منجم» للخردوات في أوساط أطفال وشباب ورجال ونساء دواوير السي غانم، وشنيدر، والحاجة فاطمة، والمسعودي وعكاشة، ودوار الزفت.. حتى كانت جحافل من البشر تجر أو تمتطي عربات مجرورة بدواب أو على متن دراجات نارية ثلاثية العجلات أو «هوندات» تقصد أرض الغنائم.لم ينس هؤلاء أن يحملوا معهم أدوات قوية وصلبة للتكسير والتحطيم. منهم أيضا من أحضر أدوات تعمل بالكهرباء. «أدوات القطع الكهربائية سريعة وتسهل عملية تقطيع الحديد والأخشاب في وقت وجيز»، يوضح الحارس، الذي تلقى تهديدات حقيقية بتثبيت أحجار كبيرة في قدميه ورميه في قعر البحيرة التي تتوسط فضاء سندباد للألعاب، الواقع على كورنيش عين الذئاب. «كانوا بالمئات وعندما توسلت إليهم أن يبتعدوا هددوا برميي في البحيرة».بجوار مقهى «أنموكار»، حيث يعمل الحارس الذي تحدث إلينا، كانت إحدى الأدوات التي استعملت في «غزوة السندباد» ما تزال بادية للعيان.مطرقة من الحجم الكبير تستعمل في دك أركان الأبنية الصلبة. «عندما اعترضت سبيل إحدى العصابات التي خربت ونهبت بالحديقة ومقاهيها قذف أحد أفرادها بتلك المطرقة في وجهي»، يتذكر محمد مخليص، مالك المقهى، مصورا مشهد رمي «الماصة» (المطرقة) بدقة متناهية. أسر كاملة تنهب منذ السبت الماضي وعمليات النهب والتخريب والسرقة تتكرر. «كانوا يأتون عند ساعة الإفطار وكذلك بعد آذان الفجر»، يحكي الحارس الذي رفض كشف هويته خشية أن يلحقه تهديد ما. في الأول كان عددهم بضع عشرات، لكن خبر الأطنان الكبيرة من «الخردوات» الموجودة في الحديقة أسال لعاب المئات، حتى إن هناك من جاء من الكاريانات الواقعة بالحي الحسني والألفة والرحمة. لكن ذروة عمليات النهب، التي تواصلت منذ السبت الماضي وإلى ليلة الأربعاء الماضي دون أن تحرك مصالح الأمن ساكنا كما لم تبادر مصالح مجلس مدينة البيضاء إلى اتخاذ أي إجراء لوقف هذه «الكارثة»، بتعبير مخليص، كانت ليلة الأربعاء الماضي. ليلتها، تحكي مصادر «الصباح»، أن أسرا كاملة كانت تتدفق من الدواوير المذكورة بعضها يحمل المطارق وآخرون يحملون المناشير وشرعوا في تقطع وتحطيم كل ما يصادفونه. «لقد قسموا الحديقة إلى مناطق نفوذ، فكل عائلة تحصن منطقة نهبها وتحول دون أن يطأها أي شخص آخر»، تضيف المصادر ذاتها.لم يُحضر «الغزاة» أدوات القطع والاجتثاث والتكسير فقط، بل جلبوا معهم أسلحة «ليحموا بها أنفسهم وليحصنوا بها مناطق نفوذهم». فإلى جانب كل مطرقة أو منشار كان هناك سلاح أبيض. «بعضهم كان يحمل سيوفا وسكاكين كبيرة الحجم، وآخرون يحملون عصيا وهروات»، يؤكد حارس المقهى. لم يتركوا أي شيء إلا ونهبوه. حطموا الهيكل الحديدي للعبة «الهوليود» الدوارة. فككوه إلى قطع وشرعوا في حملها على متن العربات، ومنهم من لم يحتج إلى عربة لنقل ما كان بحوزته، بل اعتمد فقط على أكتافه لنقله إلى أقرب سوق خردوات. «هاد الشي بحلا ولينا ف سوريا»، يعلق أحد عناصر الأمن وهو يعاين حجم الخراب الذي طال مرافق الحديقة وكذلك الفضاءات الموجودة بها، خاصة المقاهي. أما مقر «الكارتينغ»، الذي كان مخصصا لسباق السيارات يوم كانت حديقة الألعاب السندباد في أوج ازدهارها، فإنه تحول إلى أرض خراب. حُطم زجاجه. نهبت معداته. عاثت عصابات النهب والتخريب تحطيما وتكسيرا في كل أرجائه.زوال أول أمس الخميس كان بعض عناصر العصابات المذكورة مازالوا يحاولون الإفلات والفرار بما نهبوا، رغم الإنزال المتأخر لقوات الأمن.بعضهم اقتلع مجالس المراحيض وراح يعدو بها نحو أقرب منفذ. آخرون اجتثوا أحواض غسل اليدين وبدورهم كانوا «يكافحون» من أجل نقلها أو الفرار بها. كثيرون تمكنوا من الفرار بما غنموا وقليلون كان حظهم عاثرا لأنهم حضروا إلى المكان في الوقت الميت، ولأن عناصر الأمن، التي يستغرب مخليص سبب تأخرها رغم أنه وأحد زملائه وجها إليها عددا من النداءات، كانت لهم بالمرصاد. بعضهم ضبط فقط بشبهة محاولة السرقة وآخرون، قدرت مصادر أمنية عددهم ب 16 شخصا، فضبطوا متلبسين بحيازة المسروقات التي تعرضت للنهب. لماذا تأخر الأمن؟ السؤال الذي مازال يحير مصطفى مالك مقهى انموكار وكذلك طه، مسير مقهى آخر بفضاء البحيرة، هو لماذا تأخرت عناصر الأمن في التدخل لإخماد هذا الانفلات الأمني في مهده؟ «أنا مشيت للدائرة ديال البوليس وكلت ليهم رحنا كانتسرقوا أعباد الله، والله ما تسوقوا ليا»، يقول طه وهو شاب في مقتبل العمر. «ملي عاودت رجعت لعندهم كال ليا الكوميسير حنا داك الشي ماشي شغلنا .. كال ليا خاصك تشوف مع الناس ديال مجلس المدينة»، يضيف المتحدث نفسه باستنكار كبير.يقول محمد مخليص إن هناك «مؤامرة تطبخ داخل مجلس مدينة الدار البيضاء من أجل إخلائنا بالقوة، خاصة بعد إبرام صفقة تفويت الحديقة إلى إحدى الشركات من أجل تدبيرها وخلق فضاءات ترفيه»، ويعزز مخليص شكه بالقول إن «المجلس يرفض أن يجدد معنا عقدة كراء المقهى، كما يرفض أن يعوضنا عنها سواء ماديا أو بفضاء آخر». وفي السياق ذاته يستغرب المصدر السرعة التي تطورت بها الأمور بين رفض تجديد عقدة الكراء والنهب الذي تعرضت له حديقة السندباد، وأيضا «تأخر قوات الأمن في القيام بواجبها»، ثم يضيف «هاد الشي كايحير»، وفي صوته نبرة حزن وأسى كبيرين على مقهاه التي كانت أول مقهى تفتتح بفضاء الحديقة سنة 1975. «كم من الأطر والقضاة والمحامين وضباط الشرطة اليوم في مدينة الدار البيضاء كانوا يأتون إلى هنا من أجل المراجعة والاستعداد لامتحاناتهم».. لكنها اليوم استحالت إلى أطلال وخراب. إلى أسواق الخردوات وإلى زوال أول أمس الخميس كانت العربات المجرورة بدواب والهوندات والشاحنات تأتي إلى فضاء الحديقة وتنقل حمولات كبيرة من أجهزة التكييف (مازالت في علبها الكارتونية) والحديد والأخشاب والأسلاك والأبواب الخشبية والحديدية ودعامات حديدية وقطع الألمينيوم وتجهيزات المقاهي والفضاءات التي تعرضت للنهب، صوب سوق السعادة المعروف باسم «سوق ولد مينة»، وكذلك سوق دلاص للخردوات وسوق ليساسفة وآخر بطريق مدينة الرحمة. عشرات القاصرين والشباب يدفعون بعربات أو يقودون أخرى تجرها دواب وعلى متنها قطع حديدية كبيرة ومتوسطة الأحجام. مخلوقات تظهر هيآتها حجم البؤس الذي تعيش فيه. أجسام متسخة. بعضهم يمشي حافيا. آخرون يسترون أجسادهم الهزيلة بقطع قماش قذرة ومتهلهلة وممزقة. مشهد شبيه بتلك الصور التي تنقلها تلفزيونات العالم من بعض مناطق البؤس والنزاع والتوتر حول العالم. «هادو إلى عطيتيهم غير سيمانا غادين كشطو كازا كلها»، يقول مخليص باستسلام كبير وهو يتطلع إلى إحدى قطع الألعاب تحترق. «هادي غادين يحرقوها باش يخرجو منها النحاس والحديد».ليست وحدها مرافق وتجهيزات فضاء السندباد التي تعرضت للتخريب والنهب، بل إن مصادر أمنية قالت إن بعض منازل رجال القوات المساعدة التي تقع في محيط الحديقة تعرضت بدورها للغزو والنهب، كما عاش قاطنوها حالة من الرعب والترهيب فاقت كل حجم، خاصة أن «الغزاة» كان عددهم يرتفع في بعض الغارات إلى مئات الأشخاص.«كون هزيتي شي حاجة كنتي غادي تمشي الحبس، ولكن عندك الزهر غادي نديو ليك التريبورتور للفوريان»، يقول عنصر أمن مخاطبا شابا حضر على متن دراجته النارية ثلاثية العجلات وبها منشار متوسط الطول من أجل أن يحصل على نصيبه من الغنائم، لكن سوء طالعه قاده إلى أيدي رجال الشرطة، الذين حضروا بأعداد قليلة وظلوا في حالة كر وفر مع عصابات القاصرين التي ظلت تترصد ابتعادهم لتعود إلى النهب والاستحواذ على معدات حديقة ظل البيضاويون يأملون أن ترى النور ويُصلح حالها لتكون حقا أكبر فضاء ألعاب وترفيه بالمتروبول.. محمد ارحمني وتصوير : عبداللطيف مفيق

تفاصيل ليالي نهب وتخريب حديقة سندباد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

المخيمات الصيفية... نفق مظلم لـ200 ألف طفل

الداودي: رفع معدلات اجتياز المباريات طبيعي

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات