التغيير الثقافي‏…‏ التحدي الأكبر لثورة مصر

الأزمات الاجتماعية جعلت الخطاب السياسي يطغى على الثقافي هل الثقافة ضرورة للشعب، أم ترف يستطيع أن يعيش بدونه،‏ لو تحققت لأبنائه العدالة الاجتماعية والحرية السياسية‏،‏ اللتان جعلتهما ثورة ‏25‏ يناير على رأس أهدافها؟الحقيقة أنه لا يمكن الاختيار بين هذين الهدفين وبين الثقافة، ذلك أن كلا من الطرفين يكمل الآخر. فتحقيق الأولين مرتبط بدرجة الوعي بأسباب الظلم والاستبداد وبقوة الإرادة للتغيير، وامتلاك هذا الوعي لا يتم إلا بالثقافة, كما أن التغيير لا يتم إلا بطلائع مثقفة (ليس من بين النخب الاجتماعية العليا في المجتمع فحسب، بل من شتى الفئات والطبقات)، تمتلك الوعي الكافي بأسباب الظلم والفقر والاستبداد التي ينادي الثوار باقتلاعها.الوعي ابن الثقافة، وأبوه هو الواقع، الذي يحتوي بدوره على ثقافة تحتية تشكل فكر المجتمع ووجدانه، وهي ما نسميها الثقافة الشعبية. وقد تكون هذه الثقافة رافدا لوعي ثوري، أو لوعي معوق للثورة. إنها ثقافة جامعة للقيم والتقاليد والأعراف، وحاملة للحكمة الشعبية والتاريخ الحضاري الممتد، وجميعها يرتبط بالعقائد الدينية والأخلاقية والأوضاع الطبقية في المجتمع ونظم الحكم التي خضع لها الشعب، فأنتج من خلالها أساليبه في التكييف او التواكل او الاستسلام او الصراع معها. ومثلما تملك الطبقات العليا والحكام ثقافتهم التي يسوسون بها الشعب ويكرسون من خلالها للطاعة والامتثال للأمر الواقع، ويبثونها تحت غطاء ديني او أخلاقي في عروق المحكومين، فإن للفقراء ثقافتهم وغذاءهم المعنوي وإبداعاتهم في الفنون والآداب والحكم والأمثال, التي قد يتسلل اليها الكثير من ثقافة الامتثال للأقدار والحكام.وقد عاشت مصر آلاف السنين بهذه الثقافة التحتية، فكانت سر بقائها واستمرارها، بقدرتها على امتصاص موجات الاستعمار والاستبداد والقهر. لذلك، فإن مهمة دعاة التغيير والثورة في مصر كانت أصعب من أي بلد آخر،لأنهم لا يواجهون النظام الاستبدادي الظالم وحده، بل يواجهون معه الجوانب السلبية للثقافة التحتية، التي تشكل عاملا خطيرا في مقاومة التغيير، خاصة أن نسبة الأمية الهجائية بمصر لا تزال من أعلى نسب الأمية في العالم. أما الأمية الثقافية بالمفهوم الحديث للثقافة، القائم على إعلاء العقل بالقدرة على النظر والمساءلة والاختيار، إلى جانب صقل حواس التذوق الجمالي، فهي متفشية بشدة حتى بين خريجي الجامعات وبين أعلى المستويات الاجتماعية، وكل من النوعين من الأمية يشكل أرضا خصبة لزرع الثقافة التي يبثها النظام الحاكم, بكل مؤسساته التعليمية والإعلامية والدينية، فتؤدي، ليس فقط الي تغييب الوعي، بل إلى إنتاج وعي زائف لدى الشعب، يزيد من الحواجز و الصعاب أمام أي دعوة للتغيير والثورة. غير أن أهمية الثقافة لا تقتصر على بناء الوعي السياسي والحقوقي للمواطن، فقد تشاركها في تلك المهمة هيات سياسية أو منظمات حقوقية أو صحافة وإعلام مستقل، وإنما هناك ما لا يمكن لغير الثقافة القيام به... وهو بناء الانسان ذاته، بإشباع وجدانه عبر الارتقاء بحواسه العليا لتذوق الفنون والآداب وثمار الخبرة الإنسانية، واستكشاف مواهبه الخلاقة كمبدع للفن او الأدب أو الفكر، ولو قارنا بين مشتغل بالسياسة توافرت لديه هذه الذائقة وتشبع وجدانه بالفنون والآداب الرفيعة، وبين سياسي آخر ينطلق في ممارسته من الفكر السياسي البحت، فسوف ترجح كفة الأول بالتأكيد، لأن قلبه عامر بالحس المرهف للجوانب الجمالية والإبداعية، ومن ثم... يصبح أكثر إنسانية، ويصبح عمله السياسي أكثر إبداعا وانفتاحا، وأكثر إدراكا لمبادئ الحق والخير والجمال.وخلال الأعوام الثلاثين من حكم مبارك، أضف اليها عشر سنوات من حكم السادات، تم تجريف النظام القيمي للمجتمع المصري، وتشويه وعيه السياسي والثقافي والجمالي جميعا، فضلا عن إفقار وعيه المعرفي، ومن ثم امتلأ هذا الفراغ بالثقافة السلبية ( التحتية)، فازدادت درجة المقاومة للتغيير مع ازدياد جرعات الوعي الزائف، الذي كان النظام يكرسه عبر قنواته التي أشرنا اليها، وتواكب ذلك مع تصاعد أوجه الفساد و الاستبداد والظلم الاجتماعي والقهر السياسي، ومع انزواء النخبة المثقفة في فنادق منعزلة عن الجماهير، سواء اختياريا أو بما تفرضه عليها السلطة من انزواء، أو بشراء صمت المثقفين مقابل مكاسب هزيلة أو سمينة، وبقبولهم الانضواء في حظيرة وزارة الثقافة، كما سماها الوزير السابق فاروق حسني نفسه.ومن ثم، فإن تأثير هذه النخبة المثقفة على المجتمع طوال هذه السنين كان محصورا في دوائر المثقفين على رقعة صغيرة بوسط القاهرة، وتخلت الدولة عن مسؤوليتها التي كانت تلتزم بها خلال الستينات من القرن الماضي نحو ضخ منتجات الثقافة الرفيعة في شرايين المجتمع، والوصول بها حتى أبعد اطراف البلاد، في القرى والنجوع. تبدد الكثير من المحاولات والجهود الثقافية الجادة والمحترمة لعدد كبير من المثقفين والمبدعين والمفكرين والسياسيين.لكن كل تلك الجهود والمحاولات الثقافية الجادة لم تذهب هباء، بل كانت تتسلل في صمت رويدا رويدا داخل وعي النشطاء السياسيين الجدد، أولئك الشباب الغض الذي انضم إلي الحركات السياسية منذ أواسط العقد الأول من الألفية الثالثة، واستقطبت تلك الحركات موجات متزايدة من الشباب تباعا، مؤمنين بضرورة التغيير، دون أن يمتلكوا الخبرة العملية أو خريطة الطريق لبلوغه، وإن تسلحوا بخبرات بعض القادة السياسيين والمثقفين الثوريين، الذين تولوا قيادة الحركات الاحتجاجية والدعوات المنادية بالتغيير، حتى استيقظت الأمة يوم 25 يناير 2011 على هدير الجموع بميدان التحرير، يتصدرهم هؤلاء الشباب الشجعان بصدورهم وحناجرهم، وتحولت المظاهرات في أيام معدودة إلى ثورة شعبية كاسحة وقف العالم كله على أطراف أصابعه يتابعها مبهورا... هكذا التحمت القاطرة بالقطار... القاطرة التي تقل الشباب المشبع بثقافة المعرفة والتغيير, عبر أجهزة التواصل الاجتماعي, والقطار الذي التحقت به الجماهير، وانفتح أمامه الطريق لإكمال مسيرة الثورة. بقلم: عز الدين نجيب, عن جريدة «الشروق المصرية»

التغيير الثقافي‏…‏ التحدي الأكبر لثورة مصر

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تتويج ديوان "أذى كالحب" انتصار لقيم الشعر

خروقات في توزيع شقق بخريبكة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات