تحتفظ البيضاء في ذاكرتها بملامح شخصيات فريدة، استطاعت أن تترك بصمتها على حياة سكان هذه المدينة، وأرخت لتحولات حضرية عميقة وتطور في السلوك المجتمعي بفضاء متعدد الأجناس والأعراق. لا يتعلق الأمر هنا بشخصية «الفتوة» كما صورتها روايات نجيب محفوظ في السينما المصرية، أو ما ارتبط منها بمصطلح «البلطجة» حاليا، وإنما برجال كانوا بمثابة رموز للعامة، تشير إلى العدل ونصرة الضعيف، وفرض الاحترام وحراسة الأعراف والتقاليد، في شخصيات أقرب إلى «الأخ الأكبر»، مع خصوصية مغربية يتمازج فيها الجد بالهزل، والأسطورة في أحيان كثيرة. بدر الدين عتيقي الحلقة الخامسة: "البـادرة"... مـروض البحـارة بسط سيطرته على ״عرصة لاجودان״ وكلف بحماية المنتخب الإسباني لكرة القدم في زيارة للمغرب يحتفظ المسبح البلدي بالمدينة القديمة بذكريات خاصة لأحمد الشافعي، الملقب بـ"البادرة"، كناية عن تكوينه الجسماني الرياضي وقوته الجسدية، التي وضعته على عرش "فتوات" البيضاء خلال فترة من تاريخ المدينة، ظهر خلالها هذا الفتى الذي تعود أصول أسرته إلى قبيلة بني مسكين إقليم سطات. وجد الفتى في نفسه رغبة في العراك وتتبع كل النزالات والمعارك التي كانت تشهدها المدينة القديمة خلال فترة الحماية، بين "الفتوات" المغاربة، وكذا بين رجال البحرية الفرنسيين والأفارقة، الذين كانوا يعيثون فسادا في المنطقة، ويرتادون الخمارات ودور الدعارة باستمرار. تأخر وعي أحمد "البادرة" بقدراته الجسدية القوية، إذ طرق باب كرة القدم في البداية، وفشل بسبب ضخامة بنيته في حجز مقعد بين أقرانه في فرق "الراك" و"ليديال" و"اليوسا". شكلت نصيحة مدرب فرنسي نقطة تحول في حياة "البادرة"، حين وجهه إلى ممارسة رياضات أخرى تتناسب مع بنيته، فقصد نادي المغرب العربي، الذي كان يتردد عليه أبطال الملاكمة المغاربة والمصارعون المعروفون حينها، ولكن ليس لممارسة هذه الرياضات، وإنما لصقل جسده وتقوية عضلاته، خصوصا أنه كان يعمل في الوقت نفسه، أجيرا بـ"الجوطون" في الشحن والتفريغ بالميناء، ما ساهم في مده بعضلات مفتولة وجسم متناسق، أكسبه شهرة وصيتا مرعبين داخل المدينة القديمة وخارجها. اشتهر أحمد "البادرة"، أو حميدة كما يحلو لأصدقائه المقربين مناداته، بقدرته على ترويض رجال البحرية الفرنسيين والأفارقة، الذين أصبح متخصصا في منازلتهم والتغلب عليهم، وسلبهم ما بحوزتهم من ملابس وممتلكات، ثم بيعها. كان يترك ضحاياه ينازعون الموت في "عرصة لاجودان"، التي أصبحت تحمل اسم "عرصة" الزرقطوني بعد الاستقلال. بعد أن بسط "الفتوة" نفوذه على مناطق كثيرة في المدينة القديمة، قرر ترك عمله مياوما في الميناء، والانتقال إلى العمل حارسا للخمارات، بعد أن كون فريقا، لا يتردد في هزم أي وافد جديد أو معربد، إلا أن ذاكرة المدينة تحتفظ له بحادثة فريدة، حين واجه وحده عددا كبيرا من المشجعين الإسبان وأجبرهم على التراجع، بعد محاولتهم الاقتراب من لاعبي المنتخب الإسباني، الذي كان في زيارة لكنيسة في البيضاء في الستينات، إذ كلف من قبل أحد القيادة بحماية وفد للرياضيين، لم يكن يدرك أنه منتخب إسبانيا الشهير لكرة القدم، الذي كان يضم حينها لاعبين كبارا، مثل "خينطو" و"أمانسيو" و"بيريرا". كان "البادرة" نموذجا آخر من "الفتوات" بشراسته وقوته، إذ فتح باب الحوار مع السلطات، التي كان تستعين به وغيره، لغاية إحكام سيطرتها على الأحياء والشوارع، وضمان استتباب الأمن فيها، باعتبار أنه عاصر فترة انتقالية من الحماية إلى الاستقلال، حين بدأ "المخزن" في بسط نفوذه وإعمال القانون مرة أخرى في المجتمع، والقضاء على صور "البلطجة" والعربدة تحت مظلة "القرنصة"، أي الاستفادة من حماية جهات أجنبية أو نافذة في المغرب. عايش "الفتوة" بعد الاستقلال، عصر نهاية القوة وسطوة العضلات، بعد إخضاع الجميع لسلطة القانون، إذ تحولت المشاجرات والمعارك من صور لإثبات الجدارة وتعزيز النفوذ على الأحياء، إلى جريمة قائمة الأركان، سرعان ما تم تحرير محاضر بشأنها من قبل الأمن الوطني، حديث التأسيس حينها.