رحيل الجيراري مكتشف “المواهب”

كان أول من أسس جوقا عصريا صرف عليه من مال عائلته أيام كان الغناء بدعة منكرة وخطيئة كبرى غيب الموت، أمس (الخميس)، وجها فنيا قاوم الزمن والجحود والنكران، وظل حيا حتى عاين «الحالة» التي وصلت إليها الأغنية المغربية التي كان واحدا من مؤسسيها ومخرجيها من عدم، قبل أن يرحل وفي نفسه شيء من حتى. إنه الفنان المخضرم عبد النبي الجيراري، الذي غادرنا فجر أمس (الخميس). فقبل أن يهب الكل من رقاده، كان الجيراري قد اختار «رقدته الأخيرة»، بعيدا عن الضجيج، وتركنا نعاين بأسى رحيل اسم يذكرنا بزمن تألق الأغنية المغربية ووفائها لقيم الأصالة والرقي. الفنان عبد النبي الجيراري، الذي رحل عن سن 87 سنة، كان فعلا عظيما من عظماء الفن في المغرب والعالم العربي، دون أدنى مبالغة أو مزايدة. كان رجل سبق بامتياز، فهو أول من أسس جوقا عصريا بالمعنى الدقيق للكلمة، خلال أواسط الأربعينات من القرن الماضي، أي خلال الفترة التي كان فيها الفن، والغناء على وجه التحديد، بدعة منكرة وخطيئة كبرى في نظر العديد من الأوساط الأسرية المحافظة.كان جوق «الاتحاد الفني الرباطي» الذي أسسه الجيراري، بمثابة نواة للأجواق العصرية المغربية، ولم يكن ليتأتى له ذلك لولا تشبعه بحب الموسيقى وإدراكه لأسرارها التي اكتشف بعضا منها بشكل مباشر بالمعهد الوطني للطرب الأندلسي حيث تلقى أصول النوبات، كما تعلم العزف على البيانو على يد فرنسي اسمه «دادي» الذي لقنه كذلك مبادئ «الصولفيج».ضمت الفرقة الموسيقية التي أسسها الجيراري عددا من الأسماء التي سيصير لها شأن كبير في مجال الموسيقى، منهم الراحل عبد القادر الراشدي وإسماعيل أحمد والحبيب الشراف وغيرهم.وغامر الجيراري كثيرا لدى تأسيسه هذا الجوق، إذ كاد يبدد ثروة العائلة التي كانت واحدة من أعرق العائلات السلاوية، في سبيل تحقيق هذا المشروع الفني، إذ كان يتكلف باقتناء البذلات لأعضاء الفرقة الموسيقية ويساعد بعض أفرادها ماديا من ماله الخاص.وعندما نتحدث عن النصف الثاني لعقد الأربعينات، ففي تلك الفترة لم يكن هناك شيء اسمه أغنية مغربية بمفهومها العصري والمحدث، وما كانت تألفه الأسماع في تلك المرحلة هو الآلة الأندلسية والملحون والأهازيج الشعبية. لكن الجيراري، وبفضل تشبعه بروح التجديد والمبادرة، كان أول من سجل للإذاعة أغاني عصرية كان يأخذ كلماتها التي يلحنها من الجرائد والمجلات الواردة من الشرق. فقد غنى قصائد لابن زيدون وجميل بثينة وأبي القاسم الشابي وغيرهم.ارتبط اسم الجيراري كذلك باكتشاف المواهب، ولم يقتصر الأمر على ذلك من خلال البرنامج التلفزيوني الشهير الذي يحمل هذا الاسم والذي كان يعده، بل قدم، قبل ذلك، العديد من الألحان التي ساهمت في بروز أسماء من قبيل عبد الوهاب الدكالي الذي غنى له رائعة «أنت» وعبد الهادي بلخياط في «حسبتك» وإسماعيل أحمد في «ابتسم يا غزال» أو المعطي بنقاسم في قطعة «كان قلبي هاني» واللائحة الطويلة. هذا دون الحديث عن إغراق عبد النبي الجيراري المشهد الغنائي بأحسن الأصوات وأجودها، وكان مكتشفها الأول دون منازع. ويكفي استحضار أسماء مثل عزيزة جلال وسميرة بنسعيد ورجاء بلمليح ومحمود الإدريسي وعماد عبد الكبير ومحمد الغاوي وعزيزة ملاك وغيرهم.من غريب الصدف أنه، منذ توقف تجربة «مواهب» أواسط الثمانينات بقرار أخرق على عهد البصري، والساحة الفنية تبدو وكأن العقم أصابها ولم تعد قادرة على إنجاب أسماء بإمكانها معانقة المجد نفسه الذي عانقه هؤلاء. عزيز المجدوب

رحيل الجيراري مكتشف “المواهب”

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

انطلاق أشغال القطار فائق السرعة من طنجة

تحركات استخباراتية إيرانية ضد المغرب

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات