المزادات الخاصة… هوس الأثرياء

الولوج إليها مرتبط ببطاقات توصية ذهبية ومنافسة شرسة على اقتناء اللوحات والتحف الفنية وإعادة بيعها لطالما ارتبطت صورة المزادات في مخيال المغاربة بمشاهد من أفلام مصرية. نوستالجيا السينما تحيل دائما، على عجوز يرتدي بزة سوداء أنيقة، في أغلب الأحيان "خواجة"، أجنبي مستعرب، يحفز الجمهور على طرح أعلى سعر لقاء لوحة أو تحفة، قبل أن يبادر من على منضدته الخشبية، حين تستقر المزايدات عند مبلغ معين، إلى تسمية المشتري الفائز، بضربة واحدة من مطرقته، بعد عد عكسي بالإيطالية، "ألا أونو ألا دوي ألا تري"، وينتهي المزاد. المشهد في حد ذاته، مغر بالتعرف على نوعية الفئة المجتمعية التي يستقطبها هذا النوع من المزادات، وكواليس تدبيرها، وكذا الفضاءات التي تحتضنها. يتعلق الأمر باستكشاف عالم "المزادات الخاصة" الخفي، الذي تطلع على مفاتنه قلة من الناس، ينعتون مجازا بـ"زبدة المجتمع"، عبارة عن أثرياء جدد وقدامى، أصبحت المزادات هوسهم. بدر الدين عتيقي ربيع هذه السنة ينبئ بصيف حار، فألسنة الشمس الحارقة تلفح البشر والحجر منذ ساعات الصباح الأولى. يستسلم سعيد الخباط، خبير أعمال فنية، لرغبة كبيرة في الركض بين فيلات عين الذئاب، استعدادا للانطلاق لحضور حدث اليوم. مزاد خاص، اختار أحد الفضاءات المغلقة بحي "سيال" القريب. الدعوة تم تعميمها على مدعوين معينين منذ أيام، الأمر يشبه إلى حد ما "ناد خاص" أو "أخوية سرية"، فمحبو الأعمال الفنية وكبار جامعيها "لي كوليكسيونور" يعرفون بعضهم البعض، ودائمو اللقاء والتواصل، يوضح الخبير، الذي يفترض أن يدير مزادا لبيع سبع قطع فنية، منها خمس لوحات وقطعتا أثاث فنيتان مساء اليوم ذاته. تمر ساعات الصباح سريعا، ويواصل الخبير إجراء اتصالاته الهاتفية مع منظمي المزاد، شركة فرنسية خاصة، نقلت جزءا من أنشطتها إلى المغرب منذ سنوات، شرعت في تنظيم مزادات خاصة لفائدة أعمال فنية لفنانين فرنسيين ومغاربة، إلى جانب قطع الأثاث والتحف النادرة. تشير الساعة إلى السابعة مساء، يبدأ المدعوون في التوافد على فيلا خاصة في "السيال"، بعد الانتهاء من تجهيز الفضاء، إذ عمد فنيو "الكروشاج" قبل ساعات، إلى تعليق اللوحات وتثبيت التحف في أماكن مناسبة للعرض، وتوزيع الإضاءة بشكل ملائم. تنطلق أمسية المزاد بحصة تعارف ودردشة بين المدعوين، على أنغام موسيقى هادئة. "زبدة المجتمع" الشخصيات المدعوة إلى المزاد الخاص، بعضها معروف في عالم السياسة والمال والأعمال، إلا أنهم يتكتمون حول مشاركاتهم في هذه المزادات، فالحضور مرتبط بالحصول على بطاقات توصية ذهبية، يوضح خالد سفاجي، وكيل أعمال فنانين تشكيليين، مشددا على أن المزادات منظمة بشكل جيد، ولا يمثل اقتناء لوحة أو قطعة فنيتين السبب الرئيسي لاستقطاب "زبدة المجتمع"، وإنما تعتبر فرصة للقاء وتبادل الأفكار والآراء حول قضايا السياسة والمال والأعمال والمجتمع. يواصل المدعوون تجاذب أطراف الحديث، قبل أن ينبري أحد أطر الشركة المنظمة، للإعلان عن انطلاق المزاد، إذ يطالبهم بلباقة باتخاذ مقاعدهم في مكان خاص بحديقة الفيلا، ثم يتحرك نحو زميل له للتأكد من ملئهم لاستثمارات خاصة، بمثابة طلب المشاركة في المزاد، لا تصح العملية دونها، تتضمن مجموعة من المعطيات الشخصية، من اسم ورقم هاتف وعنوان، وكذا رقم حساب بنكي وغيرها من المعلومات. يجمع المسؤول الاستمارات متجولا بين المدعوين، الذي تجمعوا حول طاولات دائرية الشكل، وأذناه تحاولان عبثا التقاط ما يدور بينهم من أحاديث، إذ يهمسون في آذان بعضهم البعض، حول تركيز كبار جامعي الأعمال الفنية على هذه اللوحة أو تلك، وكذا إمكانية تجاوز أسعار بعض المعروضات السقف المعلن عنه. تنتهي آخر الترتيبات ليعتلي منظم المزاد والخبير منصة خشبية صغيرة، ثم يشرع في استعراض موضوع المزاد الخاص، الأعمال وأصحابها ومواصفاتها. هذه اللوحة للفنان الفلاني، أنجزت في السنة الفلانية، وتنطلق المزايدة عليها ابتداء من سعر افتتاحي، إلى غاية السعر المتوقع، علما أن بعض القطع الفنية تكون موضوع مزايدة مفتوحة، ولا ترتبط بسقف مالي معين. شروط اللعبة ينقسم المشاركون في المزادات الخاصة إلى ثلاثة أنواع، الفضوليون وهواة جمع الأعمال الفنية والمنافسون، والمقصود هنا بهذه الفئة من الحاضرين، شركات تنظيم المزادات وإدارة الأروقة الفنية، إذ يسعون إلى الاطلاع على جديد المعروضات من اللوحات والقطع الفنية، وكذا تقييم أعمال الفنانين وتوجهاتهم التجارية. يبدأ المزاد بلوحة فنية لفنان إسباني غير معروف، إلا أن المدرسة الفنية التي ينتمي إليها، أصبحت "موضة" لدى جامعي اللوحات، يتعلق الأمر بمدرسة "البورتريه"، التي تحظى بإقبال كبير من قبل عشاق الفن، تركزت أغلب المزادات حولها أخيرا. تتواصل المزايدات حول اللوحة الأولى، إلا أنها لم تبلغ السعر المتوقع 300 ألف درهم (30 مليون سنتيم)، ليرسو المزاد على من تشجع أخيرا من جامعي الأعمال الفنية، إذ قدم مبلغ 25 مليون سنتيم، الأمر الذي يعتبره سعيد الخباط، خبير أعمال فنية، عاديا في هذا النوع من المزادات، بالنظر إلى صغر حجمها ونوعية المشاركين فيها، موضحا أنه شارك في مزادات في فرنسا، تعتمد المزايدات المباشرة وغير المباشرة في القاعة، وعبر الأنترنت في الوقت نفسه، منبها إلى أن سقف المزايدات يظل مفتوحا على بعض الأعمال الثمينة. وشروط اللعبة في المزادات الخاصة، تتركز بيد مندوب المزاد أو "Commissaire-Priseur"، الذي يضطلع بمهمة التنظيم من الألف إلى الياء، ويملك كلمة الفصل في البيوعات، إلى جانب الخبير الذي يمنح شهادة خاصة لكل لوحة فنية أو تحفة، فيما يتم ينجز صاحب المزاد عند نهاية الحدث، تقريرا خاصا، يتضمن القطع الفنية المباعة وقيمتها المالية، وكذا هوية البائعين، فيما يتحفظ بشكل كبير على ذكر هوية المشترين، استنادا إلى عرف ترسخ في هذا الشأن منذ عقود. بورصة الفن استقر المزاد على بيع أربع قطع فقط، فيما تم سحب الباقي، يتعلق الأمر بلوحتين وطاولة صغيرة، انتقلت ملكيتهما إلى جامعي أعمال فنية مغربيين. انتهى الحدث مثلما بدء بهدوء، وفسح المجال أمام الحاضرين للحديث عن مستقبل المزادات والمعارض، التي ينظم أحدها في اليوم الموالي بفندق "كزابلانكا" بشارع مولاي رشيد في منطقة أنفا. المناسبة عبارة عن معرض فني في سياق حدث يحمل اسم "آرث ويك"، ينظم من قبل رواق "تنظيم"، الذي يديره كل من "أوليفيا بروني" و"غيوفري شابوي"، إذ تستهدف هذه المبادرة تشجيع الفن المعاصر في المغرب. اللوحات المعروضة في بهو الفندق، تحمل سحرا خاصا، إذ تهـم "بورتريهات" خاصة للملك الراحل الحسن الثاني، من إنجاز الفنان الفرنسي "إيثيان كايل"، فيما يروج الرواق، الجهة المنظمة، إلى جانب قطع الأثاث والتحف الفنية، لوحات لفنانين آخرين، يتعلق الأمر بـ"أوليفييه ماسمونتيل" و"ثيري بيش". يلاحق جامعوا الأعمال الفنية لوحات كايل، التي تم بيع عدد منها سلفا، تؤكد بروني، موضحة أن أسعار البيع تراوحت بين ثمانية ملايين سنتيم و15 مليونا، مشددة على أن السعر مرتبط ببورصة الفن، التي تحدد سعر أعمال كل فنان مدرج بها. ويتحدث شابوي عن أهمية تنظيم المعارض الفنية، لغاية جذب اهتمام الناس إلى الفن المعاصر، باستغلال تنامي الطلب على اللوحات الفنية، التي لم تعد تشكل جزءا من الديكور المنزلي، وتحولت إلى قيمة في حد ذاتها، مشددا على وجود مشاريع لاستقطاب فنانين تشكيليين مغاربة إلى رواق "تنظيم"، الذي يركز على تحفيز الفنانين على الإبداع، من خلال تخصيص فضاء عمل خاص بهم في إحدى الفيلات بالرباط، وعدم تقييدهم بإنجاز أعمال معينة، مثل حالة الفنان الفرنسي كايل، الذي استلهم لوحات "البورتريه" الملكية، والحمامات المغربية، خلال تجوله بالمغرب طيلة ثلاثة أشهر. "المزايدة" المغربية لوحات فنانين مغاربة، أمثال الجيلالي الغرباوي وميلود الأبيض، وكذا أحمد الشرقاوي وفريد بلكاهية، إضافة إلى أسماء أخرى، من قبيل محمد المليحي ومحمد شبعة وآخرين، أصبحت بين ليلة وضحاها ذات قيمة مالية عالية، وتحولت إلى موضوع "مزايدة" بالمفهوم الشعبي للكلمة، التي تحيل أيضا، على منافسة بين جامعي أعمال فنية مغاربة وأجانب في المزادات الخاصة. ليس من قبيل المفاجأة أن يصل سعر إحداها إلى مليار سنتيم، يوضح سعيد جلالي، جامع لوحات "كوليكسيونور". ويؤكد جلالي أن المزادات الخاصة، أصبحت تستقطب خلال السنوات الماضية، نوعيات مختلفة من الأشخاص، على رأسها المستثمرون أو "مول الشكارة"، حسب وصفه، يتجولون في الأروقة ويلتقون بالفنانين، ويحضرون المزادات، لغاية اقتناء لوحات فنية، تمثل بالنسبة إليهم فرصا استثمارية، عند إعادة بيعها، دون الالتفات إلى ما يختزله الطلاء من قيم ومعان فنية، تشير إلى مدارس تشكيليــة عالميـــة مختلفـة، موضحا أن هذه النوعية من رواد المزادات، غالبا ما تكون معاملاتهم المالية موضوع شبهة "تبييض" للأموال، وهو نوع من الممارسات الإجرامية شائع خارج المغرب، ويستقطب أباطرة الجريمة المنظمة. من الذي يصدق أن لوحة مطلية بألوان لا تتجاوز تكلفة إنجازها عشرات الدراهم، ستقفز قيمتها خلال فترة وجيزة إلى مئات الملايين في بلد مثل المغرب، إنها باختصار، بوادر وعي حفزته "البراغماتية"، بأهمية اللوحات الفنية وقيمتها المادية. يجوب الباحثون عن "الهمزة" أروقة العرض في مختلف المدن بحثا عن صفقة جيدة، وينتظمون في مجموعات تتبادل المعلومات والأخبار الإستراتيجية عن جديد اللوحات في السوق. ناد مخملي صغير، ينخرط فيه الأعضاء الجدد بتوصيات خاصة، والسرية والجرأة مفتاحا النجاح، والمزاد أرض منافسة لا يجرؤ على دخولها إلا الراسخون في اقتصاد الفن. الاستثمار الذكي يصنف الادخار في اللوحات الفنية ضمن الاستثمارات الذكية، ذلك أن المستثمر الفني، يجمع إلى جانب الرغبة في الربح، شغفا غير ظاهر بالأعمال الفنية واللوحات، خصوصا الفنانين المغاربة، الذين فرضوا حضورهم في أغلب المزادات الخاصة، الأمر الذي يؤكده سعيد جلالي، جامع لوحات، بالقول مستغربا، "لا أدري لم يندهش الناس عند سماع خبر بيع لوحات لفنانين مغاربة بالملايير"، مؤكدا أن لوحات أحمد اليعقوبي الذي توفي في 1985، اقتنيت من قبل فنانين كبار، مثل "مارلون براندو"و"مادونا"، تباع بسعر 20 مليون سنتيم أو 43 مليون سنتيم، فيما تباع أعمال أصدقائه من الفنانين العالميين بالملايير، وهو الأمر الذي فسره بتقليل المغاربة من قيمة فنانيهم وأعمالهم. ويحكي جلالي كيف أن الأذكياء من المستثمرين، الذين اقتنوا لوحات "الشعيبية" والغرباوي منذ 15 سنة مضت بسعر يتراوح بين 20 ألف درهم و30 ألفا، تضاعف سعرها اليوم بشكل كبير، مؤكدا أن الاستثمار في اللوحات الفنية يضاهي الاستثمار في الأصول العقارية، إذ تتطور قيمة العمل الفني المالية كل سنة.

المزادات الخاصة… هوس الأثرياء

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

بنكيران: المواطنون لم يقبلوا إعفائي

الوردي يصب الزيت على نار انتفاضة الممرضين

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات