إسطنبول … سحر الخلافة بنكهة أوربية

مآثر عثمانية تتعايش مع جمال مضيق البوسفور والعمران الأوربي اسطنبول، العاصمة التاريخية والدينية لتركيا. من هذه الرقعة الجغرافية على مضيق البوسفور، حكم السلاطين العثمانيون ثلاث قارات بيد من حديد إلى أواخر القرن 19. مدينة جمعت كل مآثر حضارات العالم، من اليونان ومرورا بالبزنطيين، إلى أن صارت عثمانية خالصة. مدينة سياحية بامتياز، نجح المسؤولون الأتراك في تحويلها إلى أيقونة المدن الأوربية بمشاريع ضخمة على مستوى البنية التحتية والتعمير. مصطفى لطفي (موفد الصباح إلى إسطنبول) كانت الرحلة إلى اسطنبول من مطار محمد الخامس بالبيضاء، والتي أشرفت عليها الخطوط الجوية التركية لفائدة إعلاميين مغاربة، ومسيري وكالات أسفار، لمناسبة مهرجان "التوليب" السنوي. تشعر لحظة مغادرة البوابة الرئيسية لمطار أتاتورك، أنك ما زلت في المغرب. وجوه كأنك سبق أن ألفتها في مكان ما، خصوصا عندما صادفنا "كورتي" سيارات أجرة ، كان يرتدي سترة وقبعة، شبيهة بتلك التي يرتديها حراس السيارات المغاربة. ثورة عمرانية في الطريق إلى الفندق، تشعر بمدى التقدم الكبير الذي شهدته المدينة على مستوى العمران والبنية التحتية. طرق سريعة داخل المدينة وأنفاق وقناطر معلقة، تقودك إلى أحياء شهيرة بالمدينة. شبكة الطرق صنعت بإتقان كبير، لا تشعر وأنت على متن السيارة أو الحافلة بأي تشقق أو ارتجاج في السيارة. الكل يقود بسرعة كبيرة، ولمناسبات تصادف خلافات بين السائقين، أغلبها بسبب تهور أحدهم لتفادي الازدحام. إلى جانب شبكة الطرق، اصطفت بنايات عالية، تنوعت بين عمارات سكنية ومقرات شركات وفنادق فخمة، شكلها الهندسي الفاتن، وهب لإسطنبول أناقة خاصة، جعلتها تنافس أرقى العواصم العالمية. كشف مسؤول تركي رافقنا في الرحلة أن إسطنبول احتاجت فقط لسنوات معدودات لتحقيق هذه القفزة، فالمسؤولون الأتراك يراهنون عليها بقوة لجذب السياح من مختلف الجنسيات، وفي الوقت نفسه محطة عبور سواء عبر الجو أو البر والبحر صوب مدن سياحية شهيرة، خصوصا تلك التي تطل على البحر الأسود، كأن في حديث المسؤول التركي رسالة أو لنقل حكمة، مفادها أنه لو كانت للمسؤولين إرادة حقيقية و"وطنية" لصنعوا المعجزات. في الطريق إلى الفندق، توشحت العديد من البنايات بملصقات كبيرة ومتوسطة، تتوسطها صور الرئيس التركي أردغان يدعو فيها الشعب إلى التصويت بنعم على تمتيعه بصلاحيات أوسع في الاستفتاء الدستوري المقبل، في حين انعدمت ملصقات خصومه، الرافضة لهذا التعديل، هذا الغياب، برره تركي كان برفقتنا أن الشعب مع أردوغان، خصوصا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة. إسطنبول المقدسة اسطنبول ليست مدينة عادية للأتراك، بل هي رمز الانتصار التاريخي على العالم المسيحي، فقيمة هذا الحدث بالنسبة إليهم شبيه بسقوط بلاد فارس على يد المسلمين وفتح الأندلس، سيما أن الأمر يتعلق بنبوءة الرسول محمد حول سقوط القسطنطينية على يد قائد مسلم يحمل اسم نبي، تنافس لتحقيقها عدد من الخلفاء الأمويين والعباسيين وحتى العثمانيين، تطابقت أسماؤهم مع أسماء الأنبياء، لكنهم انهزموا أمام أسوار القسطنطينية العظيمة، إلى أن نجحت خطة ماكرة من السلطان محمد الفاتح، الذي كان سنه لا يتجاوز 21 سنة، في فتحها وتحويلها عاصمة للخلافة العثمانية في 1453. تنقسم اسطنبول إلى منطقة أوربية، والتي تشهد معظم الآثار التاريخية المهمة، والمنطقة الأسيوية، يفصل بينهما مضيق البوسفور. يحدها من الجانبين البحر الأسود وبحر مرمرة. موقعها الجغرافي الهام، جعل البزنطيين بعد خلاف مذهبي مع الكنسية بروما، يختارونها عاصمة لدولتهم بيزنطة، وديانتهم الأورتوذكسية، ومن أجل حمايتها من الغزاة، سيجت بأسوار عالية وصعبة الاختراق. بالجانب الأوربي يبقى مسجد آية صوفيا ببنايته العملاقة وصوامعه والمسجد الأزرق أو السلطان أحمد، وقصر الباب العالي من أبزر المآثر التاريخية. اجتمعت هذه المعلمات الثلاث في رقعة ضيقة، تقف شامخة ببناياتها الضخمة وصوامعها تركية الهندسة العالية، كاشفة أسرارها وعبقرية مهندسيها منذ قرون عديدة. كان وقت الظهيرة أثناء زيارة هذه المآثر. دوى صوت المؤذن بمسجد آية صوفيا، تم تلاه مؤذن المسجد الأزرق، كان المشهد رائعا، كأن المسجدين معا يردان على بعضهما البعض بالأذان. بعد نهاية الأذان، ترى الجمع من مختلف الجنسيات المسلمة، يسارع الخطى لأداء الصلاة بالمسجد الأزرق. بحكم أن آية صوفيا مخصص لزيارة السياح. سمي بالمسجد الأزرق لأنه بني بالكامل بالرخام الأزرق على يد السلطان العثماني أحمد، ما جعل لونه يميل للزرقة. وراجت إشاعات عديدة أن السلطان أجهز على جزيرة بكاملها ببحر مرمرة، كان بها الرخام والمرمر، وخصصهما لبناء المسجد. تظل آية صوفيا من أبهر الآثار التاريخية، فهذه الكنيسة التي كانت قبلة الأرثوذكس في القرون الوسطى، تحولت بعد الفتح إلى أيقونة التسامح بين المسلمين والمسيحيين، ففيها احتمى المئات من مواطنيها المسحيين والرهبان بعد سقوط القسطنطينية، خوفا من الجيش العثماني، فدخلها السلطان محمد الفاتح، وعيون المواطنين العزل تترقب بخوف قراره، قبل أن يخبرهم أنهم أمناء على حياتهم وديانتهم وأموالهم، قبل أن يغادرها. ما زالت الكنيسة تحمل نفحات مسيحية رغم أنها حولت إلى مسجد، إذ حافظ السلاطين العثمانيون على صور المسيح والصلبان وجداريات المسيحية المزينة بإتقان، وبجانبها لوحات كتبت عليها آيات قرآنية واسم الرسول والسبطين الحسن والحسين والصحابة، في تعايش قل نظيره بين الأديان. ديمقراطية الموت بأمتار قليلة من آية صوفيا، ينتصب قصر الباب العالي بأبراجه العالية، هذا المكان كان مصدر خوف ليس فقط للرعايا العثمانيين، بل حتى الأباطرة وملوك العالم، وقتها كان مصيرهم مرهونا بقرار السلطان داخل هذه الرقعة التي تتجاوز مساحتها أربعة آلاف متر. على مدخل القصر كتب على لوحة تعلو الباب عبارة "السلطان ظل الله في الأرض"، في إشارة إلى مدى السلطات الواسعة التي كانت يتمتع بها السلطان العثماني. بني هذا القصر من قبل السلطان محمد الفاتح بعد ثلاث سنوات من سقوط القسطنطينية، فنقل عاصمة الدولة من أدرنة إليها. عاش في هذا القصر أزيد من 20 سلطانا، من بينهم العظيم سليمان القانوني، إلى حدود القرن 18، وقتها قرر السلطان عبد المجيد الأول بناء قصر جديد على ضفاف مضيق البوسفور، صار مقرا للخلافة العثمانية إلى حين سقوطها في بداية العشرينات من القرن الماضي. بمجرد أن تتجاوز هذه البوابة، تصادف على يمينها بناية طويلة عليها عدة مدخنات غريبة الشكل. فهذا المكان هو مطبخ القصر، كان يضم وقتها عددا كبيرا من الطباخين المهرة، مهمتهم إعداد الطعام للسلطان وعائلته ومستشاريه، وكل العاملين في القصر الذين يصل عددهم أزيد من 4000 شخص يوميا. بجانب المطبخ انتصبت صخرتان متقابلتان، سرهما حير الزوار في البداية، قبل أن يتضح أنهما خصصتا لإعدام الطباخين الخونة. تكشف مرشدة سياحية أن الدسائس التي كانت تتم في هذا القصر ضد السلطان وعائلته، دفعت المشرفين على أمن السلطان بتكليف شخص بتذوق طعام السلطان قبل نقله إلى جناحه الخاص، فإن فارق الحياة بسبب السم، يعدم الطباخ بطريقة، قالتها وهي تبتسم، ديمقراطية إذ له كامل الحرية لاختيار إحدى الصخرتين لفصل رأسه عليها. تنامي محاولات تسميم السلطان وحاشيته، دفعت المكلفين بحمايته إلى ابتكار طريقة جديدة لكشف السم، بعد أن فقدوا العشرات من المكلفين بتذوق طعام السلطان، إذ اقتنوا أواني زجاجية يتغير لونها إن كان الطعام مسموما، وبعدها يعدم الطباخ. في الجهة المقابلة لتلك المطابخ، يوجد مقر الصدر الأعظم، فهذا الرجل يعد الثاني في هرم السلطة من بعد السلطان، إلا أن اختيار مقر إقامته في هذا المكان، البعيد عن جناح السلطان لم يكن اعتباطيا من قبل السلاطين العثمانيين، بل يسمح لهم عبر غرف سرية بمراقبة أعماله، وحتى التجسس على حديثه، للتأكد من مدى ولائه للدولة العثمانية. تبقى أهم معلمة داخل القصر، جناح الأمانات المقدسة، والتي تضم مقتنيات خاصة للرسول الكريم وسيوفه وقوسه، إضافة إلى تحف مقدسة أخرى خاصة بالأنبياء، أبرزها عصا موسى التي بها شق البحر، وبقايا جمجمة النبي يحيى، وقبعة النبي يوسف وإناء سيدنا إبراهيم، وفي جناح آخر، وضعت سيوف الخلفاء الراشدين الأربعة وعدد من الصحابة، وبحكم، قدسيتها منع المسؤولون الزوار من تصويرها. الوحدة العربية تعتبر منطقة محمود باشا و"تقسيم" أهم المناطق التجارية والسياحية باسطنبول، بها انتشرت المحلات التجارية المتخصصة في بيع جميع السلع، من ملابس وحلويات وأحذية. لكن أهم إشكال يصادفه السائح، هو عدم إتقان الأتراك، خصوصا الشباب، لأي لغة أجنبية، ما يجعل التواصل معهم صعب جدا. عزا مسؤول هذا الأمر إلى أن الحكومات التركية اعتمدت تعليما قوميا، إذ راهنت على اللغة التركية في كل مراحل التعليم، وبعد أن يبلغ الطالب سن 23 سنة، وقتها يمكنه تعلم أي لغة يختارها، وغالبا ما يكون الأمر على نفقته الخاصة. وكما يقول المثل العربي "رب ضارة نافعة"، إذ ساهم هذا الوضع، في تأسيس وحدة عربية على أرض الواقع، فبمجرد أن يتحدث سائح بالعربية، حتى يفاجأ بسياح عرب يلتفون حوله، كأنهم عثروا على كنز ثمين، طالبين منه المساعدة، وهي فرصة تستغل للتعارف وتوطيد الصداقات، قبل أن ينصرف الجميع إلى حال سبيله. أسواق شعبية التوجه من ساحة محمود باشا إلى منطقة تقسيم التجارية، يتطلب مسيرة على الأقدام تتجاوز نصف ساعة. صحيح أن جميع وسائل النقل متوفرة، لكن للمشي على الأقدام نكهته الخاصة، خصوصا عبور قنطرة على مضيق البوسفور. على ضفاف هذا المضيق، رست عبارات كبيرة، أمام محطاتها، يتنافس العاملون فيها في استقطاب الركاب للقيام بجولة بحرية داخل المضيق أو لنقلهم إلى مكان آخر. تشعرك هذه المنافسة والإلحاح على اقتناء التذكرة، أنك وسط المحطة الطرقية أولاد زيان. في الطريق إلى منطقة تقسيم تصادفك مساجد عريقة، تزينها قبابها وصوامعها العثمانية، وبعد مسافة تتجاوز أميالا، تجد نفسك في شارع الاستقلال الشهير. شارع طوله ثلاثة كيلومترات، يضم العديد من المحلات التجارية المتخصصة في بيع جميع المنتوجات. تتكدس المحلات التجارية على جانبي الشارع، من بينها ماركات عاليـة شهيرة، بمجرد التحدث بالعربيــة يوقفــك شخص بشكل مفاجئ، سريعا تكشف لكنتــه أنه ســوري، يعــرض عليك زيــارة محله التجاري بطريقة ماكرة، في البداية يطلب منك مرافقتــه لتسليمك بطاقته الشخصية على أمل زيارته في ما بعد، لكن ما أن تلج المحل، حتى يجبرك على اقتناء منتوج معين، تصل لمناسبات إلى حد الوقاحة. في الطريق، استوقفنا سوري آخر، وعرض علينا "مساج" وحماما تركيا، اعتذرنا بلطف متحججين أننا تأخرنا عن رفاقنا، لكنه ألح علينا على مرافقته لاختيار الفتاة التي ستتكلف بـ"المساج"، على أن تلحق بنا في الفندق، ومن أجل المزيد من الإغراء، كشف السوري أن الفتيات من جنسيات مختلفة، من بينهن روسيات وأوكرانيات وأوزبكستانيات. فارقنا السوري بمشقة الأنفس، بسبب إلحاحه المبالغ فيه، فاعترض طريقنا سوري ثالث، اقترح علينا المنتوج نفسه، وعندما اعتذرنا، خاطبنا دون خوف إن كنا في حاجة إلى "حشيش". يقودك الشارع إلى ساحة الاستقلال الشهيرة، يتوسطها تمثال، به شخصيات سياسية وعسكرية تركية على رأسهم، مؤسس تركيا الحديثة مصطفى أتاتورك. يثير انتشار آليات أمنية انتباه السياح، فهذه الساحة شهدت سقوط قتلى أثناء عملية الانقلاب، عندما خرجوا مع الآلاف من سكان المدينة للتنديد بالانقلاب، فتعرضوا لإطلاق النار. جولة على البوسفور الأجمل في اسطنبول، رحلة في مضيق البوسفور، فهذه الرحلة تمكنك من مشاهدة عدد من المآثر التاريخية، خصوصا بالمنطقة الأوربية، إضافة إلى الوقوف على "عظمة" القنطرتين العملاقتين، اللتين تربطان بين اسطنبول الأوربية والأسيوية، هندسة تثير دهشة السياح، وتكشف عن عبقرية الألمان، الذين فازوا بصفقة بنائهما في 1973 و1996. مر المركب على عدد من المآثر التاريخية الهامة، من بينها القصر السلطاني والمساجد العتيقة، لكن يبقى أهم مكان وإن كان يشكل خطورة على الملاحة البحرية، هو "قرن الشيطان"، من هذا الموقع المرتفع، نقل السلطان الفاتح سفنه برا إلى البحر، بعد أن عجز عن اختراق مدخل البوسفور، الذي كان محميا بسلسلة حديدية عملاقة، فعجلت هذه الفكرة العبقرية بسقوط القسطنطينية.

إسطنبول … سحر الخلافة بنكهة أوربية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

بلاغ مهم للوزارة بخصوص امتحانات البكالوريا

اعتداءات جسدية تطول أمنيين

مقالات ذات صلة