مستشفى سعادة … “زنزانة” مرحلي بويا عمر

معاناة النزلاء والأطر الطبية ولا مبالاة من الوزارة الوصية كان لنزلاء مستشفى" سعادة" للأمراض العقلية بمراكش، الذين تم ترحيلهم من "بويا عمر" في إطار ما عرف بقافلة " الكرامة " التي أطلقها وزير الصحة الحسين الوردي قبل سنة ونصف، موعد مع" سجن" جديد، حيث لا مجال للحديث عن مغادرة المريض النزيل للمستشفى، بل إن الخروج منه بات حلما صعب المنال. إنجاز: رجاء خيرات (مراكش) كان مستشفى"سعادة " للأمراض العقلية بضواحي مراكش مركزا اجتماعيا صمم خصيصا من أجل إيواء و إعادة تأهيل أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة (إعاقات ذهنية) من طرف أحد أغنياء المنطقة، قبل أن تضع إحدى جمعيات المجتمع المدني يدها عليه وتعمل فيه تحت إشراف أحد رجالات الدولة آنذاك في المجال الاجتماعي. بعد سنوات توقفت جمعية "الإنصاف"عن مزاولة نشاطاتها بعد أن فقدت دعم الرجل، لينتقل المركز إلى منظمة محمد الخامس للتضامن التي ضخت في ميزانيته مبلغا بمليارات السنتيمات، وتم توسيعه و تجهيزه بمعدات طبية، ليصبح بعد ذلك مستشفى للأمراض العقلية تابع لوزارة الصحة، بعد أن تم تدشينه خلال 2009 من طرف الملك محمد السادس. مع أن المركز أصبح مستشفى إلا أن العديد من مرافقه ظلت مغلقة إلى غاية اليوم، منها بنايات طبية، وحمامان واحد للرجال و آخر للنساء، و14 محلا، بالإضافة لمكاتب ومرآبين للسيارات و سكن وظيفي. وهي المرافق التي باتت الحاجة إليها ملحة اليوم، بسبب النقص المهول في المرافق الصحية و قاعات التمريض والأجهزة وغيرها. رغم كل المراسلات التي بعث بها المكتب النقابي من أجل استعادة المرافق المغلقة والأجهزة التي طالها النسيان وأصابها التلف، إلا أن المسؤولين لم يحركوا ساكنا، وظلت البنايات المغلقة على حالها، لا المستشفى استفادت، ولا تم استغلالها في خدمات اجتماعية لتفي بالغرض الذي أنشئت من أجله. مؤسسة غير مهيكلة 117 نزيلا، من بينهم 100 رجل و17 امرأة، تم استقدامهم من ضريح " بويا عمر" لمؤسسة استشفائية لا تتسع لأكثر من 60 مريضا فقط بتجهيزات بسيطة ووسائل طبية محدودة جدا، ويتم الزج بهم هناك دون رعاية طبية كافية. لم يقم المسؤولون أثناء اتخاذ هذا القرار بالاستعدادات اللازمة لتوفير ظروف ملائمة لاستقبال عدد هائل من النزلاء في مستشفى تجهيزات محدودة، و أصوات العاملين الذين لم يتم إشراكهم في هذه العملية بحت من المطالبة بإعادة هيكلة المستشفى ليكون قادرا على استيعاب العملية دون جدوى. إخلاء الضريح من نزلاء كانوا محتجزين في ظروف لا إنسانية، كان الهدف الرئيس، إذا افترضنا وجود حسن النية، لكن الأطر الطبية بمستشفى سعادة لهم رأي آخر في الموضوع، فقد سبق أن وجهوا رسائل عديدة للمسؤولين يستفسرون عن مآل النزلاء "المحتجزين" بشكل لا إنساني في مستشفى وضع أساسا لاستشفاء المرضى. في البداية، أي مباشرة بعد ترحيل ال117 نزيل كان المستشفى يضم 8 ممرضين و طبيبين فقط، ليصبح بذلك ممرض واحد مسؤول عن خمسين مريضا، قبل أن يصبح ممرضان لكل خمسين مريضا، ومع ذلك يبقى الخصاص مهولا في الموارد البشرية و اللوجستيكية، وكذا تهييء الأجنحة الخاصة بالمرضى بشكل يتوافق و طبيعة الأمراض العقلية. حيث يصم كل جناح 40 مريضا رغم أنه لا يتسع لكل هذا العدد. حسب العاملين في المستشفى فان الجدران و الأجنحة تمثل خطرا على حياة المرضى، لأنها عادية وليست مكسوة بمواد مطاطية كما هو متعارف عليه حسب المعايير الوطنية و الدولية، بالإضافة إلى أن النوافذ تشكل خطرا بدورها على سلامة النزلاء و المرضى. دون الحديث طبعا على سلامة الممرضين الذين لا يفصلهم عن المرضى الخطرين سوى باب خشبي (كونطر بلاكي) في غرف الاستراحة، علما أن تلك الأبواب لم يكن لها وجود لولا مجهودات العاملين الذي دفعوا ثمنها من جيوبهم، كذلك الشأن بالنسبة إلى المراحيض التي لا تتوفر على أبواب و إن وجدت فإنها بدون أقفال، مما يعرض سلامة الممرضين خاصة النساء منهم للخطر. أطر طبية تحتج رسائل عديدة وجهها العاملون بمستشفى سعادة لوزير الصحة الحسين الوردي، من أجل اتخاذ التدابير اللازمة قبل استقدام 117 نزيلا من بويا عمر، لكن "الصفقة" التي يصفها بعض العاملين في مجال الصحة ب "السياسية" و التي لم تراع ظروف الاشتغال التي يعمل فيها الممرض والطبيب على حد سواء، جعلت الأطر الطبية بالمستشفى تتجرع لوحدها مرارة العملية وتؤدي ثمنها. يشتغل الممرضون داخل المستشفى في ظروف صعبة، وأمام انعدام شروط السلامة و الأمن يجدون أنفسهم في ورطة كبيرة لتدبير تتبع المرضى والنزلاء، خاصة إذا تعلق الأمر بمرضى عقليين يتطلبون عناية خاصة. يحكي أحد العاملين أن بعض المرضى يصابون بحالات من الهيجان تستدعي شد وثاقهم بأحزمة مخصصة لهذا الغرض، ويصل ثمن الحزام الواحد 12 ألف درهم، و لا يوفر المستشفى أي نوع من هذه الأحزمة، و أمام هذه الوضعية يجد الممرضون أنفسهم مضطرين لمنح المرضى "الهائجين" أدوية مهدئة وأحيانا جرعات من حقن لها المفعول نفسه، من آثارها الجانبية أنها تخفض ضغط المريض وقد تعرض حياته للخطر، لكن الممرض ليس أمامه من خيار آخر إلا خوض المغامرة بعد استشارة الطبيب المعالج، خاصة أمام حالة الهيجان التي تعد، حسب أهل الاختصاص، معدية لبقية المرضى. معاناة الأطر الطبية لا تنتهي عند هذا الحد، بل إن الممرضين أحيانا، وأمام نفاد الأدوية، يجدون أنفسهم مجبرين على اقتناء بعضها من جيوبهم، لإسعاف بعض الحالات، وما أكثرها. رغم الرسائل الكثيرة التي وجهها المكتب المحلي التابع للفدرالية الديمقراطية للشغل للنقابة الوطنية للصحة للمسؤولين، لتنبيههم لخطورة الوضع الذي آل إليه مستشفى سعادة للأمراض العقلية، إلا أن هؤلاء فضلوا نهج سياسة "النعامة" و صموا آذانهم ولم يعودوا يلتفتوا لوضعية نزلاء بويا عمر المرحلين للمستشفى. بعد أن أصبح ترحيل نزلاء بويا عمر لمستشفى سعادة أمرا واقعا ولا مفر منه، سيجد العاملون أنفسهم هذه المرة أمام المطالبة بتحسين ظروف عيش النزلاء/السجناء و كذا الخدمات المقدمة لهم، بالإضافة إلى تحسين ظروف اشتغال العاملين والأطر الطبية وشبه الطبية كأضعف الإيمان. آخر تلك الرسائل ، كان بلاغا وجهه المكتب المحلي للنقابة الوطنية للصحة، بعد الاجتماع الذي انعقد يوم الخميس 05 يناير الجاري للتنبيه بتطورات الأوضاع التي وصفها بالكارثية بالمستشفى. وذكر المكتب أن الحالة التي يعيشها المستشفى باتت مزرية، منها غياب الصيانة، حيث تتعرض بعض التجهيزات للتلف من قبل المرضى، دون أن تتم صيانتها و استبدالها، ناهيك عن انسداد قنوات الصرف الصحي، مما يجعل فضلات المرضى تنتشر في الممرات، بالإضافة إلى تشقق الجدران وعدم توفير غرف انفرادية للحالات الصعبة، مما يشكل خطرا على المرضى و الممرضين على حد سواء، وكذا رداءة الوجبات الغذائية المقدمة للمرضى. لا يتوفر المستشفى إلا على موظف واحد في مصلحة الاستقبال والدخول، مما يعطل المصلحة في حال تغيبه لظروف ما عن عمله. وحمل المكتب النقابي المندوب والمدير الجهوي كامل المسؤولية لما وصفه بالوضع الكارثي بالمستشفى، كما طالب في الاعتصام الذي نظمه يوم 10 يناير الجاري بإدارة المستشفى، بفك العقدة مع الشركة المكلفة بالتغذية نظرا لرداءة الوجبات المقدمة، بالإضافة لتسوية تعويضات الحراسة للممرضات و الممرضين. صفقة الترحيل من بين القضايا الشائكة التي يعيشها المرضى والنزلاء على حد سواء، وجود مرضى يعانون أمراض القلب والشرايين، وأمراضا صدرية معدية و أخرى جلدية، ضمن مرضى عقليين بمستشفى سعادة. لا أحد يعرف لما يحتجز هؤلاء المرضى هناك، وما الداعي لوضعهم بمصحة للأمراض العقلية. كل ما يعرف عنهم أنهم كانوا ضمن المرحلين من جحيم بويا عمر وجاؤوا مع من جاء للمستشفى. كم سيمكثون هناك و لأي سبب، و أي علاج يتلقون؟ لا أحد يمكنه تقديم إجابات شافية. هؤلاء المرضى و آخرون ترفض عائلاتهم عودتهم لحضنها، بل إن الأقرباء قبلوا بصفقة الترحيل بعد أن أعطيت لهم وعود بأن أبناءهم سيمكثون في مستشفى للأمراض العقلية تابع للدولة، كما قدمت لهم ضمانات من بينها أن النزلاء سيستفيدون من علاجات مجانية، وهنا تكمن صعوبة الأمر. من بين المرضى النزلاء هناك أشخاص من عائلات ميسورة فضل أقرباؤهم وضعهم بالمستشفى بدل التكفل برعايتهم. يحكي أحد العاملين أن من بين النزلاء، شاب كانت عائلته تؤدي مبلغ 3500 درهم شهريا لاكتراء بيت بضريح بويا عمر، حيث يعيش الإبن "المريض"مما جعلها تتنفس الصعداء أمام عملية الترحيل التي لم تعد تكلفها إلا زيارات نادرة وجلب بعض الأدوية. يعيش أغلب المرضى والنزلاء على هبات المحسنين الذين يجلبون الأغطية و الألبسة والأدوية، فيما قلة قليلة من العائلات من تلتزم بزيارات منتظمة مصحوبة بالأدوية، بل إن من بين النزلاء من لم يغادر المستشفى منذ سنة و نصف سنة ولم يحظ بزيارة واحدة من أهله. ولأن بعض العائلات تدرك جيدا أن المكلفين بضريح بويا عمر لن يقبلوا بالابن دون أداء مبالغ مالية بشكل منتظم في وقت سابق، فإنهم اليوم قد نفضوا أيديهم من مشكل لطالما شكل عبئا كبيرا عليهم، وكأنهم تنفسوا الصعداء بعد سنوات من العذاب و المعاناة. وفي كل الأحوال لا يمكن توجيه اللوم للعائلات التي لن يكون في استطاعتها أن تتحمل مصاريف وأعباء الابن المريض. صــرخــة الـنـزلاء الطبيب المتتبع لحالة المرضى والنزلاء وحده المسموح له بمنح هؤلاء الإذن بمغادرة المستشفى، لكن عندما يتعلق الأمر بنزلاء بويا عمر فإن المسألة تصبح معقدة أكثر لأنها تتطلب موافقة العائلة التي وحدها يمكنها استقبال الابن المغادر، وهو الأمر الذي لن يتسنى لكثيرين من المرضى بالرغم من إبداء رغبتهم في بدء حياتهم بعيدا عن لعنة "بويا عمر ". في مكان منزو جلس أحد المرضى وهو يفكر، ولما سأله أحد الممرضين، كما حكى هذا الأخير ل "الصباح " عن سبب انطوائه وحزنه، قال إنه مضى عليه وقت طويل لم ير فيه أطفالا يلعبون، لقد نسي كيف يعيش الناس خارج أسوار المبنى الذي زج فيه عنوة، بل إنه نسي الكثير من تفاصيل حياته السابقة. متى جيء به لضريح بويا عمر، وكيف عاش هناك ولم الآن هو هنا في مستشفى للأمراض العقلية، بعد أن تخلص كليا من تبعات المخدرات؟ عندما يتحدث العاملون بمستشفى سعادة عن الفرق بين بويا عمر و الوضع الجديد، تصب أجوبتهم في منحى واحد ووحيد، هو أن الوزير الوردي قدم للعائلات خدمة مجانية، بعد أن كانت تدفع المال للتخلص من أبنائها، أما التتبع الذي ما فتئت وزارة الصحة تتحدث عنه قبيل إخلاء بويا عمر فليس أكثر من شعار رفعه الوزير حتى يتسنى له إنجاح العملية، و ما أحوجنا اليوم لتلك الصورة التي بدا فيها الوردي وهو يرفع يديه ولسان حاله بقول « إما أنا أو بويا عمر ». أياد يرفعها العاملون والنزلاء وليصرخوا ملء حناجرهم : مستشفى سعادة يحتاج لالتفاتة عاجلة و نزلاء بويا عمر ليسوا سجناء محكومين بالمؤبد.

مستشفى سعادة … “زنزانة” مرحلي بويا عمر

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

المصادقة بالإجماع على العودة للاتحاد الإفريقي

جائزة "ليكونوميست"... البحث في خدمة الاقتصاد

مقالات ذات صلة