المشردون … أجساد بلا روح

الصباح قضت ليلة رفقة أمهات عازبات وأطفال يتامى ومجازين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء الساعة تشير إلى منتصف الليل، المكان درب عمر بالبيضاء، أشهر سوق تجاري في المغرب، صمت مطبق يسيطر على الفضاء، يأبى إلا أن يكسره منظر أجساد متناثرة هنا وهناك، قد يخيل للمرء في البداية أنها جثث لفظتها ساحات معركة ما، لكن الحقيقة تؤكد أنها مجموعة من ضحايا لفظهم المجتمع بعد أن تنكر لهم المحيطون وذوو القربى. إنجاز : محمد بها - تصوير : (عبد اللطيف مفيق) "مشاكل العائلة بعدما خرجت من الخدمة سبابي فهاد حياة التشرد، اللهم حياة الشارع ولا مشاكيل الدار" جملة تكشف السبب الحقيقي وراء ترك أحمد لبيته وأسرته وتفضيله حياة التشرد على مواجهة وضعه الجديد بعدما فقد عمله. وأضاف المتحدث ذاته بتحسر شديد "الوالدة جرات عليا من الدار بعدما كبرت على الخدمة، كنت ميكانيكيا بالقنيطرة وأملك وأتقاضى 6000 درهم في الشهر، لكن بعدما فقدت القدرة على العمل تخلى عني الجميع، حتى والدتي لم تعد ترغب في رؤيتي بجانبها، خصوصا أنه لم يعد لي مورد رزق، مفضلة أبناءها الآخرين علي، رغم أنني من ساعدتها على بناء البيت الذي تقطن فيه". وكشف المتحدث نفسه أنه متزوج ولديه أبناء منهم فنان في ميدان الراب، قرر تركهم والسفر إلى البيضاء بحثا عن حياة جديدة في عالم التشرد، مشيرا إلى أنه لا يأبه بما يعانيه في الشارع رفقة المتشردين خصوصا من جبروت بعض المنحرفين لكونه يعتبر أن الموت مصيره ولم تعد تهمه حياته. "حي وميت ملخص لوضعي الجديد، ورغم ذلك لا أرغب في الانتحار رغم أن الفكرة تراودني مرات عديدة، مفضلا العيش في الشارع والصبر على استفزازات بعض المنحرفين لأن حياة التشرد مهما كانت قاسية فإنها أرحم من جحيم ظلم الأسرة وقلة ذات اليد". يحكي أحمد بنبرة حزينة. انتهى أحمد من سرد قصته المأساوية ليعاود الاستلقاء في مكانه المتواضع مفترشا "الكارطون" ومغطى بغطاء رث ووسخ، باحثا عن لحظة زمن يظفر بها في عالم النوم. تركنا أحمد، وتوجهنا إلى شارع آخر ببنجدية، شاحنات مركونة على طول الشارع، المكان مظلم وموحش، فجأة يظهر حارس مكلف بتأمين المنطقة من أيدي اللصوص والعابثين بممتلكات التجار. يبدو الوضع عاديا في البداية لكن بمجرد معاينة المكان والبحث وراء الشاحنات يفاجأ المرء بأجساد مصطفة على طول الرصيف منها التي حظيت بغطاء يستر جسدها النحيل ومنها من لم يجد سوى افتراش الأرض والتحاف السماء مستسلما لوضعه المأساوي بعد أن تخلى عنه الجميع. وبينما اختار الطاقم الاقتراب أكثر من فئة ينعتها المجتمع بأقبح الأوصاف، والمناداة على أحدهم هب الآخرون من مكانهم معلنين حالة استنفار معتقدين أن الأمر يتعلق بدورية أمن أو مكلفين في قافلة المساعدة الاجتماعية التي تقلهم إلى مركز تيط مليل. نظر الجميع إلى طاقم "الصباح"، نظرات حادة يملؤها الخوف وأسئلة الشك، لكن ما إن علموا بهويتنا حتى اطمأنوا وقرروا فتح قلوبهم، لعلهم يتنفسون الصعداء ولو لبرهة من الزمن. صابر ابن مكناس، اختار الحديث بعفوية مشيرا إلى أنه ترك عائلته الصغيرة بعدما فقد عمله ولم يعد باستطاعته تأدية مصاريف كراء البيت وحاجيات زوجته وأطفاله. وكشف المتحدث ذاته أنه أصبح يقطن شارع العاصمة الاقتصادية قبل عيد الأضحى، مفضلا البقاء في شوارع البيضاء لأنه لم يعد قادرا على مواجهة عائلته بسب الأزمة المالية التي يعيشها. وعن تكيفه مع وضعه الجديد خصوصا أن حياة الشارع تمتاز بمخاطر السرقة والعنف والمرض، قال ابن مكناس "واجهتني مشاكل عديدة منها دخولي في مناوشات مع بعض المنحرفين الذين يتطفلون على حياة من يبيت في الشارع ورغبتهم في الاستحواذ على ما يملك، وهذه المناوشات تجعلني أتعرض للعنف والتهديد، لكن رغم ذلك اعتدت على حياتي الجديدة لأنني لا أملك حلا آخر سوى التكيف مع عالم الشارع". مجازون وموظفون سابقون من بين الحالات الصادمة التي تمت مصادفتها أثناء قضاء ليلة كاملة في شوارع البيضاء مع المتشردين العثور على مجموعة من الأشخاص الذين لم يشفع لهم مركزهم الاجتماعي الكبير في النجاة من التشرد، من بينهم موظف سابق في البحرية الملكية الذي بعد مغادرته منصبه لأسباب لم يكشف عنها وبعد دخوله السجن تفاجأ بطرد عائلته من البيت الذي نشأ فيه. وقال محمد أكناو موظف سابق في البحرية الملكية في حديث مع "الصباح"، إن المشاكل التي صادفته سواء بعد ضياع منصبه وكذا المتعلقة بفشل زواجه الذي تكرر ثلاث مرات هي التي جعلته يضطر إلى العيش في الشارع. ونفى المتحدث ذاته تعرضه لمخاطر الأذى من قبل المنحرفين مشيرا إلى أن عيشه بشوارع الحي الذي نشأ فيه يجعل محميا من أي خطر قد يتهدده لأن الجيران يعطفون عليه. وطالب الموظف السابق بالبحرية الملكية بنقله إلى إحدى دور العجزة لأنه لم يعد يحتمل حياة الشارع خصوصا أن تقدمه في السن يجعله منهك القوى وغير قادر على تحمل البرد المبيت على الأرض رغم المساعدات التي يتلقاها من أبناء حيه، مشيرا إلى أنه لم يعد يستطيع النوم إلا بعد تناول المشروبات الكحولية عله ينسى مشاكله التي تؤرقه. وصادف حديثنا مع الرجل المتشرد وجود أحد أبناء الجيران الذي تدخل ليدلي بشهادة في حق رجل خانته الظروف ليتحول من موظف إلى متشرد منبوذ في المجتمع، مشيرا إلى أن الرجل الطاعن في السن يحظى بمعاملة خاصة في درب السلطان منذ 15 سنة. وإضافة إلى محمد أكناو المنتمي إلى البحرية الملكية عثر الطاقم رفقة شباب القافلة الإنسانية على رجل أربعيني يسكن منزلا مهجورا آيلا للسقوط وبعد أن طرق أحد شباب المجموعة الفيسبوكية خرج إليهم رجل وقور يتكلم بفصاحة مستعملا بعض كلمات اللغة الفرنسية مشيرا إلى أنه رغم حياة التشرد التي يعيشها إلا أنه ليس منحرفا ولا يستجدي أحدا بل يعمل على تدبر أمره بواسطة تقديم خدمات مقابل دريهمات. شباب الإيثار بينما كان طاقم "الصباح" يقوم بربورتاج حول عالم المتشردين، التقى قافلة سيارات تتكون من شباب في عمر الزهور، إذ شرعوا في توزيع مساعدات عينية تتكون من أغطية وملابس وأطعمة على المعنيين بالمبادرة. بعد تنسيق معهم، تبين أنهم شباب ينتمي إلى مجموعة "أوسم بيبل" وهي مجموعة فيسبوكية اختارت الانتقال من العالم الافتراضي إلى الواقع لترجمة مشاريعها المبتكرة في ميدان العمل الإنساني. وكشف أعضاء مجموعة "أوسم بيبل" في حديث مع "الصباح"، أن فكرة تنظيم قافلة إنسانية تجوب شوارع العاصمة الاقتصادية جاءت بعد إطلاق الحملة على صفحات موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" وبعد أن تحمس أفراد المجموعة للفكرة قرر المشرفون عليها ترجمتها إلى أرض الواقع عن طريق تنظيم قافلتين نظمت الأولى الخميس الماضي مع فريق والثانية مع فريق آخر وهو الذي صادفه طاقم "الصباح". وأضاف المتحدثون أنفسهم، أن مجموعة "أوسم بيبل" رغم مبادراتها العديدة في ميدان الخير إلا أنها هذه المرة حرصت على تغيير عملياتها وعدم الاقتصار على زيارات ميدانية إلى الخيريات ودور العجزة بل ارتأت قضاء ليال بيضاء رفقة المتشردين للاقتراب أكثر منهم ومدهم بالمساعدات التي يحتاجونها إضافة إلى إدخال الفرحة على قلوبهم سواء من خلال المساعدات العينية أو الاستماع إلى مشاكلهم وقصصهم المأساوية. وكشف أعضاء المجموعة الفيسبوكية أن الهدف من تنظيم القافلة الخيرية إضافة إلى الإحسان إلى فئة منبوذة في المجتمع يكمن في الرغبة في أخذ العبرة والموعظة من قصصهم المأساوية، وترسيخ قيم التضامن والمحبة وسط أفراد المجتمع التي ينتمي أفرادها إلى فئة الشباب المعول عليهم في المجتمع المغربي. ومن بين السلوكات التي أثارت انتباه طاقم "الصباح" إصرار شباب القافلة الفيسبوكية على خلع معاطفهم التي يرتدونها ومنحها لبعض أطفال الشوارع من أجل إرضاء خواطرهم خصوصا بعدما نفدت المساعدات التي حملوها معهم في سياراتهم، وهو الموقف الإنساني الذي يجعلهم يستحقون لقب شباب الإيثار لأنهم تجاوزوا حدود الكرم إلى مسألة تفضيل الآخر على ذواتهم. ضحايا الإدمان لم يكن يدور بخلد عائشة (اسم مستعار) أن يؤدي بها الإدمان على الكحول إلى قرار أسرتها رميها بالشارع بعد أن عجزوا عن إقناعها بالإقلاع عنه. وكشفت المرأة المتحدثة نفسها أنها تعيش حياة التشرد منذ أربع سنوات مشيرة إلى أنها متزوجة وأم لأطفال إلا أنهم تخلوا عنها نتيجة عدم قدرتها على الانصياع إلى نصائحهم بعدم تناول الكحول. أمهات عازبات بالمحطة الطرقية أولاد زيان، تفترش شابة الأرض رفقة طفلها الصغير، رفقة امرأة أخرى، وبعدما أيقظها شباب القافلة الإنسانية، لمنحها ملابس وأغطية، كشفت ل"الصباح"، أنها قدمت من مديونة واختارت الاستقرار بالشارع منذ 15 يوما، بعدما لم تعد قادرة على تحمل مصاريف كراء غرفة اكترتها بعد مغادرتها بيت العائلة نتيجة حملها وعدم رغبة والد طفلها الزواج منها والاعتراف بابنه. وأضافت الأم العازب وهي تحكي بألم أنها اضطرت للمبيت في الشارع قرب باب مسجد رغم ما يشكله الأمر من خطر على صحتها هي وطفلها نتيجة البرد القارس وكذا أثناء هطول الأمطار مشيرة إلى أن المطر لا يمنعها من المبيت لأنه لم يعد لها خيار آخر. ووجهت بشرى نداء للجمعيات النسائية مساعدتها بانتشالها من الوضعية التي توجد فيها رفقة طفلها حتى ينقذ ابنها من الضياع وسط عالم التشرد رغم ما آل إليه حاله نتيجة عدم رغبة والده في الاعتراف به. وأبى الطفل آدم إلا أن يختم قصة والدته عبر البكاء واحتضانه لها كأنه يرغب في حمايتها خصوصا بعد اقترابنا منها تعبيرا عن خوفه على أغلى ما يملك وهو المنظر الذي جعل بعضا من شباب القافلة يستسلمون لدموعهم. بالمحطة ذاتها وعلى إيقاع الأصوات المزعجة لسماسرة حافلات نقل المسافرين بمحطة أولاد زيان، استيقظت امرأتان تبين بعد منحهما المساعدات الإنسانية والحديث إليهما أنهما أبكمتان لكنهما كانتا سعيدتين بمبادرة الشباب، وشوهد إلى جانبهما طفل صغير، تبين في ما بعد أنه ابن إحداهما وأنه ليس له أب ما جعل الأم وشقيقتها تستقران بالشارع هربا من بطش العائلة وفضيحة كلمة "أم عازب". بأي حال عدت يا عيد؟ "حتى أنا باغي نتكسا وناكل الحلوى مع عائلتي" عبارة صرح بها الطفل محمد ذو العشر سنوات القادم إلى بوشنتوف من منطقة الهراويين الذي كشف رغبته ومتمنياته في أن يكون رفقة عائلته الصغيرة للاحتفال بذكرى عيد المولد النبوي الشريف. وهي العبارة التي رددها وراءه زملاؤه في حياة التشرد مشيرين إلى أنهم يمنون النفس يوما ما بالعودة إلى عائلاتهم بعد انقضاء المشاكل التي جعلتهم يفترقون معهم، مشيرين إلى أن حياة التشرد لم تنسهم الأعياد التي تشكل مناسبة يلتئم فيها شمل العائلات المغربية باستثناء فئة يطلق عليها المتشردون. شبح الاغتصاب حياة التشرد لا تخلو من مصائب ومعاناة وأخطار تتهدد صاحبها في كل لحظة وحين، ومن بين المخاطر التي تجعل المتشرد خصوصا الأطفال منهم يعيشون في خوف دائم، شبح الاغتصاب. وكشف أسامة أحد الأطفال فـي حــديث مــع "الصبـاح"، أنــه تعرض لمحاولات الاغتصاب مرات عـديدة، لكنــه ظـــل يقــاوم من تسول له نفســه المســاس بشرفــه والعبــث بــرجــولته التي تبقــت له بعـد ضياع الاستقرار النفسي والاجتمــاعي، مشيــرا إلى أن ثلاث سنــوات التي قضـاها بالشارع ومبيته بأحد الأقفـــاص المخصصة لحصير وزرابي المساجد جعله عرضة لمحاولات الاغتصاب إلا أنه يدافع عن نفسه باعتماده على "هراوة". ويحرص أطفال الشارع الذين التقتهم "الصباح" على التحرك والنوم جماعة من أجل حماية بعضهم البعض من خطر الاغتصاب خصوصا من قبل الوحوش الآدمية التي تتربص بهم مستغلة سنهم الصغير وأجسادهم النحيلة لاغتصابهم بالقوة. ضحية زوج والدته "باش حسن مني الدراري لوخرين" صرخة أطلقها واحد من أطفال الشوارع بعدما انتهى من سرد قصته المأساوية التي كشف فيها الأسباب الحقيقية لهروبه نحو الشارع. الطفل سمير كشف وهو يبكي أن زوج والدته المتوفية هو من دفعه لمعانقة الشارع بعدما طرده من البيت، مشيرا إلى أنه أصبح يعيش حياة التشرد منذ ثلاث سنوات ويتحمل الصراع مع أقرانه نافيا أن يكون قد تعرض لمحاولة اغتصاب. وأضاف الطفل اليتيم أنه لنسيان مشاكله والتعود على حياة الشارع اضطر إلى تدخين السجائر واستعمال مخدر "الدوليو"، ورغم رغبته في تسلم مساعدات القافلة الشبابية من ملابس وأغطية إلا أنه رفضها مشيرا إلى أنه ليس بحاجة لمساعدة الآخرين، معتبرا أن الأطفال الذين يتمتعون بحنان آبائهم ليسوا أفضل منه وإنما الظروف هي التي جعلته من أطفال الشوارع. ومن بين الدروس والعبر التي استخلصها طاقم "الصباح" وكذا أعضاء القافلة الإنسانية لشباب فيسبوك أن المتشردين رغم حاجتهم الشديدة لمساعدة الآخرين إلا أن الجانب الإنساني ظل يسكنهم بل الأكثر من ذلك لم تنل منهم الأنانية أثناء تلقيهم المساعدات العينية والدليل على ذلك حينما اكتفى البعض منهم بأخذ الملابس وفضل إعطاء الأغطية والأكل للآخرين فيما حرصت فئات أخرى من المتشردين على رفض تلقي المساعدات مقترحة على الموزعين إعطاءها لزملائها لأنهم أكثر حاجة إليها. مساكن الموت الساعة تشير إلى الرابعة صباحا، وبينما يقوم شباب القافلة الإنسانية بجولاتهم بشوارع البيضاء، تفاجأ طاقم "الصباح" بوجود رجل خمسيني يعيش وسط منزل مهجور آيل للسقوط وهو ما يهدد حياته في كل لحظة وحين. ورغم بشاعة الصورة إلا أن الرجل مازال متشبثا بالعيش داخل البيت المهدد لحياته، مشيرا إلى أنه يفضل الموت على أن يذهب لتسول عائلاته التي تخلت عنه بعدما لم يجد وظيفة تليق به رغم إتقانه لأكثر من لغة أجنبية وحرصه على تثقيف نفسه وإغناء مداركه. ومن بين مساكن الموت التي صادفها الطاقم أثناء الربورتاج، حرص أحد المتشردين على لف جسمه بكيس بلاستيكي كبير الحجم ما جعله يظهر كأنه جثة مرمية في الشارع، وهي العملية التي يهدف من رائها صاحب الفكرة إلى التدفئة واتقاء شر البرد القارس إلا أنه لا يدري أنه يعرض حياته لخطر الاختناق.

المشردون … أجساد بلا روح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

73 % من مكاتب التصويت استعصت على "معاقين"

مسيرات رفاق الأموي بـ 12 جهة ضد إلغاء مجانية التعليم

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات