40 ألف مصل يحجون إلى مسجد الأندلس بسيدي مومن للاستمتاع بمدود سليل عبدة تتوقف الحركة، كل مساء، بالفضاءات المحيطة بمسجد "الأندلس" بحي أناسي بسيدي مومن، حيث لا صوت يعلو على شذو العيون الكوشي، وهو يعلو بمدارج قراءته التي تشد أنفاس أكثر من 40 ألف مصل يواظبون منذ 2005 على أداء صلاة التراويح بهذا المسجد.مزيج من الرهبة والخشوع يسري في أوصال عشرات الصفوف المتراصة وسط المسجد وخارجه، إذ تحمل مكبرات الصوت "المدود" الطويلة إلى أبعد نقطة يستطيع مصل أن يضع فيها سجادته ويستقيم منتصبا وباكيا ومنتحبا من خشية الله.آلاف المصلين والمصليات يشدون الرحال، كل ليلة، إلى المكان نفسه. أغلبهم من أحياء ومقاطعات البيضاء، لكن عددا منهم يأتون في مواكب سيارات وحافلات من المدن القريبة، أو البعيدة أحيانا، خصوصا في العشر الأواخر من رمضان، إذ يكثر الطلب على الدعاء والتهجد. الكثير من هؤلاء لا يعرف وجه وملامح العيون الكوشي، وأغلبهم لا يتبين أحكام وقواعد ومدود قراءة متميزة اسمها "رواية ورش عن نافع من طريق الأزرق"، لكنهم يعرفون نبرات وحبال صوته وطريقة تجويده، وبينهما صدقه وخشوعه الذي يتسرب سلسا إلى الأفئدة وتصدر الصدور تنهيدات رضى تسمع على مسافات قريبة.يقول الكوشي لـ"الصباح" إنه يستشعر هذه الرهبة كل ليلة يقف فيها في المحراب، رغم السنوات الطويلة التي قضاها في إمامة الناس في صلاة التراويح. ينفي أن تكون له طقوس معينة قبيل الصلاة، "لكني أحرص بعد صلاة العصر على مراجعة الحزب الذي سأصلي به تفاديا لأي سهو أو خطأ لا قدر الله".إنها الأمانة والمسؤولية التي تجعله يتعرق كل ليلة، وعلى امتداد عشرات الليالي، حتى تبتل ملابسه كأنما صب عليه دلو من الماء " وما إن ينتهي، حتى يسرع إلى مقصورة الاستراحة الخلفية لتغيير ملابسه والاغتسال من العرق والتعطر لاستقبال المصلين الذين جاؤوا لتحيته وما أكثرهم كل ليلة.ولد الكوشي سنة 1967 بحي سيدي عبد الكريم بآسفي، وفيه تهجى أول سور القرآن ومازال طفلا صغيرا لم يتجاوز أربع سنوات، حين سحبه زوج شقيقته من يده وأدخله محلا للخياطة، كان يستعمله في الوقت نفسه كتابا لحفظ القرآن.أبدى الكوشي قدرة كبيرة على الحفظ والاستظهار أبهرت شيخه ومعلمه (كبور مغترس المدير الحالي للمدرسة القرآنية بمسجد الأندلس). ولم يكمل سنته التاسعة على أنهى حفظ 60 حزبا كاملا وكان منذ صغره يستظهره في ثلاثة أجزاء، وهو رقم قياسي بالنسبة إلى طفل صغير.سطع نجم المقرئ الصغير بين أقرانه وزملائه في المدرسة التي التحق بها في سن السابعة، وزاد إعجاب أساتذته به، حين كانوا يحرصون على وضعه في الصفوف الأولى. أما الحفلات المدرسية بجميع مؤسسات المدينة فلم تكن تفتتح إلا بآيات بينات بصوته الرخيم، قبل أن تتلقفه "عيون السلطة" ويصل اسمه إلى دواوين العمال الذين تعاقبوا على الإقليم، إذ وجد الكوشي مكانا بجانبهم مقرئا ومنشدا ومفتتحا للمجالس.سنة 1979، يستدعى الكوشي من بين عشرات أطفال الإقليم للمشاركة في المسابقة الوطنية لحفظ وتجويد القرآن، ثم طار بعدها إلى الكويت سنة 1981 لتمثيل المغرب، ثم إلى السعودية سنة 1986 وإلى تونس سنة 1990 في مسابقة خاصة بالاتحاد المغاربي.قبل سفره إلى السعودية، تلقى الكوشي طلبا سنة 1985 من أحد مسؤولي عمالة آسفي، للإمامة في صلاة التراويح بالمسجد الأعظم، وهو أكبر مساجد المدينة على الإطلاق، إذ كانت جنباته وساحته الأمامية تفيض بالمصلين الذين يأتون من كل أطرافها وأحيانا من المناطق المجاورة لها.سنة 1992، توصل الكوشي بطلب عزيز من أصدقاء أعزاء، حسب وصفه، للالتحاق بمسجد ‘’الهدى’’ بجميلة 7 بعمالة سيدي عثمان لإمامة المصلين في صلاة التراويح، وكان ينتقل إلى الدار البيضاء لمدة سنتين خلال شهر رمضان، ثم يعود إلى مسقط رأسه."سنة 1996 جاءني طلب ثان ملح للإمامة بمسجد ‘’السلام’’ بحي الأسرة بعين الشق وقضيت به سنتين، ثم طلب من المركز الإسلامي بنيويورك سنة 2000، كما قضيت سنتين بمسجد ‘’آل سعود’’ بحي مبروكة بسيدي عثمان، لأسافر بعدها إلى بروكسيل لتلبية دعوة من إدارة مسجد ‘’الخليل’’ لمدة أربع سنوات، إلا أن استقر بي المطاف سنة 2005 بمسجد الأندلس بحي أناسي، ووقعت على التزام غير مكتوب مع المسؤولين عنه بالحفاظ على امتلائه طيلة شهور رمضان فكان لهم ذلك". أول قارئ مغربي معتمد من الأزهر كان العيون الكوشي من أوائل القراء الذين حظوا بتسجيل المسيرة القرآنية سنة 1993 التي كانت تبث في رمضان. كما تمكن من تسجيل المصحف كاملا برواية ورش بمصر، بحضور مشايخ من الأزهر وعلى رأسهم الدكتور أحمد عيسى معصراوي وهو شيخ عموم المقارىء المصرية بمساعدة السيد عبد المجيد، وكان أول مصحف برواية ورش لقارئ مغربي، استغرق تسجيله ثلاث سنوات من 2002، وصححه 22 شيخا. أما المبادرة الأخيرة، فجاءت من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي طلبت تسجيل المصحف بأكمله على الأشرطة العادية والليزر، وإهدائه إلى أمير المؤمنين. يوسف الساكت