جميل: نحو نظام واحد وفعال للباكلوريا

يواجه نظام الباكلوريا في المغرب اليوم مجموعة من التحديات التي تثير تساؤلات عميقة حول نجاعته وملاءمته لمتطلبات المرحلة الراهنة. ففي دورة هذه السنة، لم يتجاوز معدل النجاح 67 في المائة، وهو معدل يبقى محدودا مقارنة بما تحقق في عدد من دول حوض البحر الأبيض المتوسط، مثل فرنسا التي بلغت نسبة النجاح فيها 91.4 في المائة سنة 2024، وإسبانيا 94 في المائة، ولبنان بأكثر من 90 في المائة، وإيطاليا التي سجلت أكثر من 99 في المائة من خلال سنة 2025. هذه الفوارق تفتح النقاش حول البنية التنظيمية والتقييمية لنظام الباكلوريا المغربي، ومدى حاجته إلى قراءة جديدة تراعي تطور السياقين الوطني والدولي. الدكتور سعيد جميل * عرف المغرب أول إصلاح هيكلي لمنظومة الباكلوريا في أواخر الثمانينات 1987، حيث تم تقسيم هذا السلك إلى سنتين: السنة الأولى باكلوريا، والسنة النهائية، بهدف تحسين التدرج في التعلم وتعزيز جاهزية التلاميذ للالتحاق بالتعليم العالي. ومع ذلك، فإن اعتماد هذا الهيكل لم يكن مصحوبا حينها بأي نظام للترجيح في التنقيط، إذ استمر التقييم يعتمد بشكل كامل على نتائج الامتحانات النهائية للسنة الختامية. نواقص نظام التقييم المتعدد ولم يبدأ العمل بنظام التقييم المتعدد إلا ابتداء من سنة 2003 في إطار الميثاق الوطني للتربية والتكوين، حيث تم إدماج ثلاثة مكونات أساسية في احتساب المعدل العام لشهادة الباكلوريا» المراقبة المستمرة بنسبة 25 في المائة، التي تحتسب داخل المؤسسة التعليمية، والامتحان الجهوي في السنة الأولى باكلوريا بنسبة 25 في المائة، ثم الامتحان الوطني الموحد في السنة النهائية بنسبة 50 في المائة، وهو ما يشمل مواد التخصص حسب كل شعبة. وقد شكل هذا التحول خطوة نوعية في إعادة هيكلة طرق تقييم المترشحين لشهادة الباكلوريا، عبر اعتماد توزيع أكثر توازنا للمسؤولية بين المؤسسة التعليمية والمراكز الجهوية والوطنية. وفي الظاهر، قد يبدو هذا التقسيم منظما، إلا أنه في الواقع يسبب اضطرابا كبيرا في مسار التلميذ الدراسي، ويشتت انتباهه ويقلل من جاهزيته للمواد التخصصية التي يحتاجها للدراسة في الجامعة. حيث يجد التلميذ نفسه ملزما بالتوفيق بين مواد الامتحان الجهوي ومواد تخصصه، ما يؤثر سلبا على تركيزه وأدائه في المواد الأساسية لتخصصه. حيث يشهد التلميذ في السنة الأولى من الباكلوريا انشغالا شبه كامل طوال الدورة الثانية، وأحيانا طيلة العام الدراسي، بالتحضير لمواد الامتحان الجهوي فقط، متجاهلا عن قصد أو تحت ضغط مواد التخصص التي يجب عليه إتقانها في السنة الثانية والأخيرة من الثانوي. هذا الوضع، يسبب اختلالا في ترتيب الأولويات الدراسية، حيث تهمش المواد التخصصية الضرورية للتوجيه الجامعي والمسار المهني، الأمر الذي يؤثر سلبا على جاهزية التلميذ للسنة النهائية، التي تشكل نصف المعدل الإجمالي للباكلوريا. بالإضافة إلى ذلك، تتفشى ظاهرة دروس الدعم الخصوصية، بشكل لافت، خصوصا في السنة الأولى باكلوريا. فمع ضغط الامتحان الجهوي، يضطر التلميذ لحضور ساعات من الدعم خارج المدرسة، ما يؤدي إلى إرهاق جسدي وذهني يؤثر على مردوديته في مواد التخصص خلال اليوم الدراسي داخل المؤسسة. كما تتحمل الأسر كلفة مالية مرهقة، تساهم في توسيع الفوارق الاجتماعية، خاصة في المناطق الحضرية. موعد الامتحانات... إفراغ الثانويات من ناحية أخرى، فإن الأخطر، وربما الأكثر ضررا على المدى البعيد، هو أن تنظيم الامتحان الجهوي في نهاية ماي كما هو شأن هذه السنة، يؤدي فعليا إلى إفراغ الثانويات من تلامذتها قبل الأوان، لأن هذه المؤسسات تتحول إلى مراكز للامتحانات أو التصحيح، ويُفرض على باقي التلاميذ ما يشبه «عطلة غير معلنة». فينتقل التلميذ من عطلة الصيف المقررة شهرين، إلى عطلة تمتد في الواقع إلى ثلاثة أشهر أو أكثر، وهو ما يؤدي إلى انقطاع طويل عن الدراسة، يجعل الدخول المدرسي في شتنبر صعبا ومربكا بالنسبة إلى التلاميذ، ويضطر الأساتذة إلى إعادة بناء وتثبيت المعارف الأساسية لمواد التخصص التي من المفترض أن تكون قد استُوعبت في الموسم السابق، مما يعيق التخطيط البيداغوجي لبداية السنة الدراسية الجديدة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار تنظيم الباكلوريا على سنتين، وضعف التركيز على مواد التخصص، والضغط النفسي، والرهان على النجاح في الامتحان الجهوي في المواد الثانوية، وتمديد العطلة الصيفية، سندرك أن جزءا كبيرا من ضعف نسبة النتائج في الباكلوريا يعود حتما لهذا الاختيار التنظيمي، حيث أصبح هذا التنظيم المعتمد للامتحان متجاوزا، خاصة بعد مرور أكثر من عقدين على اعتماده، ولم يعد ملائما للواقع الراهن، خصوصا أن أنظمة التقييم ينبغي أن تُراجع بشكل دوري لتواكب حاجيات الأجيال المتعاقبة وتستجيب لتحولات المجتمعات. إلى جانب ذلك الخلل في مسار التوجه والتأثير على الاندماج والنجاح في التعليم الجامعي، وقد لوحظ وجود نسبة كبيرة من الرسوب في التعليم الجامعي، حيث يترك العديد من الطلبة الدراسة في السنة الأولى أو الثانية من التعليم العالي، وهو ما يمثل خسارة كبيرة لفرص تكوين الكفاءات الشابة وتأثيرا سلبيا على مستقبلهم المهني. تكاليف مالية إضافية على الدولة إضافة إلى هذا الفادح الفاضح البيداغوجي والأكاديمي وكذلك الإنساني، فإن هذا النظام الذي يقسم الباكلوريا إلى سنتين يزيد أيضا من التكاليف المالية على الدولة، حيث تصل ميزانية تنظيم كل دورة إلى حوالي عشرات ملايين درهم، تشكل بلورة وطباعة الامتحانات، التوزيع، المراقبة، وعملية التصحيح والتأمين، ناهيك عن هذا، مكافحة الغش وتعبئة جميع الأجهزة الأمنية، وعناصر الوقاية المدنية من أجل تأمين الاختبارات طيلة ثلاثة أيام. ومن الجانب الاقتصادي، يؤثر غياب الآباء عن عملهم لمرافقة أبنائهم في فترة الامتحانات على الإنتاجية الوطنية، إذ يشكل هؤلاء نسبة حوالي 2 إلى 3 في المائة من القوة العاملة، مما يسبب خسائر مالية ملموسة. إن المطلوب اليوم ليس فقط التخفيف من الضغط على التلاميذ، بل إعادة الاعتبار للمواد التخصصية، وتثمين مجهودات السنة الأولى، وإدماج التقويم بشكل متوازن داخل الفصل الدراسي، مع عقلنة الزمن المدرسي وضمان استمرارية التعليم إلى غاية نهاية الموسم. في الحاجة لإصلاحات جذرية هذه المشاكل تؤكد أن نظام الباكلوريا الحالي يحتاج إلى إصلاحات جذرية تركز على توجيه التلاميذ نحو تخصصاتهم منذ السنة الأولى من التعليم الثانوي، أي مرحلة «الجذع المشترك»، بدلا من أن ينتظروا حتى السنة الثانية من الثانوي لاختيار تخصصهم. هذا التغيير سيساعد التلاميذ على التركيز بشكل أفضل، ويحسن نتائجهم، كما يقلل من الأعباء المالية والتنظيمية على الدولة. ولتجاوز جميع الإشكاليات، يبدو أن الوقت قد حان لإعادة التفكير في بنية امتحان الباكلوريا بالمغرب، إذ تجب إعادة تنظيم امتحان البكالوريا في سنة واحدة فقط، أي في السنة النهائية من التعليم الثانوي، على أن يتم تقييم التلاميذ بشكل رئيسي في مواد تخصصهم، بالإضافة إلى مادة الفلسفة ومادة لغوية اختيارية. وينبغي أن تشكل هذه المواد 60 في المائة من المعدل العام. أما النسبة المتبقية 40 في المائة، فيُقترح تقسيمها إلى شقين متكاملين: 20 في المائة تخصص للتقويم المستمر داخل المؤسسة التعليمية. من خلال تتبع أداء التلاميذ خلال السنة الدراسية، و20 في المائة تُخصص لتنمية المهارات الحياتية والكفاءات السلوكية وقدرات التعامل، عبر مشاريع مدرسية جماعية يقوم بها التلاميذ داخل المؤسسة. ويجب أن يتم هذا العمل خلال السنة الثانية من التعليم الثانوي، أي قبل الوصول إلى السنة النهائية، حتى يتمكن التلميذ من تطوير قدراته في الوقت المناسب، وعدم تأجيل هذا التكوين إلى مرحلة الامتحان النهائي. وتتمحور هذه المشاريع حول مواضيع مدنية وتربوية مختارة بعناية، تُعرض أمام التلاميذ وهيأة التدريس، مما يعزز روح المبادرة والعمل الجماعي والتواصل والانخراط في الحياة المدرسية. في النهاية، مستقبل التعليم في المغرب مرتبط بمدى قدرة المسؤولين على تحديث هذا النظام، بما يخدم مصلحة التلاميذ والاقتصاد الوطني، ويجعل المغرب منافسا بين الدول في جودة التعليم وفرص النجاح. * أستاذ التعليم العالي

جميل: نحو نظام واحد وفعال للباكلوريا

يجب تحديث النظام بما يخدم مصلحة التلاميذ والاقتصاد ويجعل المغرب منافسا في جودة التعليم

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

حموني يدعو للتحقيق مع ناهبي الدعم

مشاركة مغربية بمهرجان البندقية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات