طلبات عروض مفصلة وشركات وهمية لفسح الطريق أمام المتهمين تتعدد أوجه جرائم التلاعب في المال العام، وتختلف صور الاختلاس والتبديد، وفي أغلب القضايا المتعلقة بجرائم الأموال، يسقط أشخاص عديدون، إذ لا تستقيم طرق تسهيل نهب المال العام إلا بوجود اتفاق مسبق بين أكثر من عنصر، وتختلف أدوار كل واحد من المشكوك فيهم، حسب نصيبه من الكعكة. في ملف الاختلالات المالية التي عرفتها المديرية الإقليمية للتعليم بالناظور، سيما مصلحة التجهيز والبنايات والممتلكات، أسفرت الأبحاث التي باشرتها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية عن كشف أرانب سباق دورهم يقتصر على تسهيل مأمورية محددة، وهي شرعنة الصفقات، إذ لا يشاركون في طلبات العروض لنيلها، بل فقط لإضفاء شرعية وجود متنافسين، وتسهيل وصول أفراد الشبكة إلى الأهداف والغنائم. إنجاز: المصطفى صفر انطلقت القضية بوشاية توصلت بها النيابة العامة بالناظور، وهي عبارة عن شكاية مجهولة المصدر، تشير إلى أن المديرية الإقليمية للتعليم تعرف اختلاس وتبديد أموال عمومية، محددة بالاسم رئيسة مصلحة التجهيز والبناءات والممتلكات، وشريكها المعروف وهو مقاول. وحددت الوشاية التي يبدو أن محررها ملم بمختلف الجرائم المرتكبة، طرق التلاعب في المال العام المخصص للصفقات العمومية والأشغال وتفويتها المشبوه إلى المقاول المحظوظ، بل واستعمال التزوير في وثائق إدارية ومحاسباتية ورسمية، باستغلال رئيسة المصلحة لنفوذها ومنصبها، وتسلمها مبالغ مالية عن ذلك. وأكدت الوشاية مجهولة المصدر، أن رئيسة المصلحة تفوت الصفقات العمومية وسندات الطلب المتعلقة ببناء وتأهيل مؤسسات تعليمية عن طريق التلاعب في وثائق طلبات العروض، التي تعلنها المديرية الإقليمية بمشاركة مقاول تم تحديد هويته الكاملة واسم الشركة التي يملكها، كما أكدت الوشاية أن دلائل الجرائم المرتكبة متجسدة على أرض الواقع، إما عن طريق عدم إنجاز الأشغال كليا، أو إنجاز أشغال لا تتطابق ولا تستجيب للشروط المحددة في دفاتر التحملات، واستعمال مواد وتجهيزات رديئة الجودة مقابل الاستفادة من مبالغ مالية مهمة واقتسام الأرباح في ما بينهما. بداية التحري والبحث بمجرد توصل الفرقة الجهوية للشرطة القضائية التابعة للفرقة الوطنية، بالتعليمات الكتابية والشفوية بخصوص الوشاية، انطلقت التحريات بالاستعانة بأجهزة أمنية موازية، ليتم وضع خريطة عمل للتدخل، واستهداف عامل بسيط، معروف بأنه مساعد للمقاول المذكور في الوشاية، وتتبع تحركاته، إلى أن تم الاهتداء إليه وضبطه في حالة تلبس، لأنه الخيط الرابط الذي يمكن أن يوصل إلى الحقيقة. أجرت عناصر الفرقة الجهوية للشرطة القضائية مراقبة سرية على المستهدف إلى أن ضبط بسلوان، وبالانتقال معه إلى المحل الذي يشتغل به لفائدة مشغله، تم إجراء تفتيش وعثر بحوزته على مجموعة من الوثائق التي تخص شركات ومقاولات تجارية غير الشركة التي يملكها مشغله، وأيضا على طابع يخص شركة معروفة تعود لشخص آخر. كان الموقوف هو العلبة السوداء التي تتضمن أسرار نهب المال العام وطريقة الحصول عليه، وكيفية إضفاء الشرعية على مختلف المساطر والوثائق، لكي يبدو الأمر قانونيا، ولا تكشفه الرقابة الإدارية التي تخضع لها هذه الصفقات وسندات الطلب. فتحت المحاضر بالاستماع إلى العلبة السوداء لاستفساره عن أسباب وجود وثائق شركات غير مملوكة لمشغله وسر الطابع الذي يحمل شركة ممثلها القانوني معروف ولا علاقة له بمشغله، ليجيب بكل تلقائية، ويضع الأصبع على الجرح كما يقال، إذ صرح أن مشغله، أي مديره، هو المكلف بجميع الوثائق الخاصة بالشركة ويستعين بوثائق شركات أخرى من أجل المشاركة في نيل الصفقات العمومية، أما بخصوص طابع الشركة الأخرى الذي ضبط من قبل عناصر الشرطة، فأشار إلى أنه تسلمه من إحدى الموظفات بالمديرية الإقليمية للتربية والتعليم بالناظور ومد المحققين باسمها الكامل وصفتها الوظيفية، كما أشار إلى أنه تلقى أمرا من مشغله لينتقل إلى الإدارة ويتسلم منها الطابع. أختام شركات ومهندسين تواصلت الأبحاث ليتم إيقاف المقاول مدير الشركة والموظفة المسؤولة عن مصلحة البناءات والتجهيزات، وغيرهما ممن لهم علاقة بنهب المال العام المخصص لبناء مؤسسات تعليمية وإصلاحها، كما تم استدعاء عدد كبير من المشكوك فيهم وضمنهم أصحاب شركات تبين أنهم شاركوا في هذه الجرائم، بوصفهم أرانب سباق تمهد الطريق للمتهم الرئيسي وصديقته المسؤولة بالمديرية، لنيل كعكة الصفقات العمومية، وأنهم يكتفون بعد كل صفقة بأخذ نصيب عبارة عن نسبة مائوية صغيرة نظير إعطاء الشرعية للتنافس. وكانت المفاجأة أن إيقاف الموظفة المسؤولة، داخل مقر سكنها المحاذي لسكنى مسير الشركة المتورطة، مكن من حجز 27 طابعا ضمنها ما يخصها بصفتها رئيسة مصلحة، بالإضافة إلى أختام شركات ومقاولات ومهندسين وأصحاب مكاتب دراسات ووثائق تخص شركات ومقاولات. واعترفت أنها تسلمت الطوابع من أصحابها قصد استعمالها في إعداد وتزوير وثائق وملفات نيل الصفقات العمومية وسندات الطلب المعلن عنها من قبل المديرية الإقليمية، التي تشتغل بها، بما في ذلك، تزوير محاضر تتبع إنجاز الأشغال الوهمية والأداءات المالية، كما تم إيقاف شريكها الذي ضبطت بحوزته مصالح الفرقة الوطنية، 11 خاتما ووثائق تخص شركات وأشخاصا، مصرحا أنه وشريكته الموظفة المسؤولة، يعدان بواسطتها ملفات نيل الصفقات ويقتسمان الأرباح. تنافس صوري للشرعنة القضية التي انتهت بالاستماع إلى 17 شخصا وورطت أزيد من سبعة في الاعتقال ضمنهم موظفات وأرباب شركات، فضحت الأسلوب الماكر الذي كان أفراد الشبكة التي وصفت بالعصابة، ينهجونه من أجل نيل الصفقات بكل سهولة والاستفراد بالأموال العمومية واقتسامها، وجرت القضية طبيبا، ليس لمشاركته في نهب المال العام، بل لأنه منح شهادة طبية على سبيل المحاباة، لفائدة صاحب شركة امتنع عن تلبية استدعاء الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، وتبين أن صاحب الشركة لم يزر عيادة الطبيب، بل سلم الشهادة للمستخدم المعني بالأمر، ما جره إلى المساءلة في حالة اعتقال. أما التنافس فكان صوريا، إذ كشفت الأبحاث التي أجرتها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية أن صاحب الشركة على علاقة غير شرعية بالموظفة المسؤولية على المصلحة، وأنهما يقطنان بفيلتين متحاذيتين، وعمدا إلى ترك بوابة بالحائط الفاصل بينهما، للقاءاتهما سواء للاستمتاع أو لإعداد الملفات وتزوير وثائق الصفقات، وهو ما فسر العثور بحوزة الموظفة على أختام ومستندات تخص شركات، والشيء نفسه بالنسبة إلى عشيقها صاحب الشركة، إذ بعد الإعلان عن الصفقة ووضع طلبات العروض، يتم إعداد ملفات شركات تم الاتفاق مع أصحابها على الحصول على نسبة مائوية من الأرباح، ويتم وضع التقديرات المالية بالشكل الذي يتيح شرعنة التنافس، وفتح الطريق أمام العشيق لنيل الصفقة بعد فتح الأظرفة من قبل اللجنة المكلفة، وفي أحيان كان يتم تغيير اسم الشركة، حتى تنطلي الحيلة على المراقبين المركزيين، وينال العشيق سند الطلب أو الصفقة باسم شركة أخرى يقتصر دور صاحبها على أخذ نسبة مائوية، وتقسم بعد ذلك المبالغ حسب مشاركة باقي المتهمين، وضمنهم موظفان مهمتهما المتابعة والمراقبة، بينما حصة الأسد يستفرد بها المقاول المشتبه فيه وعشيقته المسؤولة عن المصلحة. الإحالة على المحاكمة بعد انتهاء الأبحاث، أحالت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية على الوكيل العام للملك بفاس، في الأسبوع الأول من دجنبر الماضي، في حالة اعتقال، سبعة متهمين، يتزعمهم المقاول والمسؤولة عن مصلحة التجهيز والبناءات، وضمنهم موظفة وموظف، بينما قدم في حالة سراح عشرة آخرون. وبعد دراسة الملف أحيل المتهمون مباشرة على غرفة الجنايات الابتدائية، لتنطلق محاكمتهم علنيا. بينما مازال شق من البحث بيد الفرقة الوطنية، سيما أن المتهمة الرئيسية صرحت أنها تعلمت من سابقتها، وقررت السير على نهجها. ثلاثة أسئلة: استرجاع الأموال هو الأهم تظهر في كل سنة ملفات جديدة لنهب المال العام، لتعرض أمام المحاكم المختصة، إلام تعزون ذلك؟ الأمر هنا يؤكد وجود شبهات فساد في التدبير العمومي، ويلح على أن القضاء لا بد من أن يقوم بدوره في مجال محاسبة ناهبي المال العام من جهة، ويوضح، من جهة أخرى، أن حجم القضايا المحالة على المحاكم لا يعكس حقيقة واقع اختلاس وتبديد أموال عمومية الذي تعرفه المؤسسات العمومية بمختلف أشكالها، فالقضاء مطالب بتحقيق الردع العام والردع الخاص، أي أن الأحكام ينبغي أن تحقق ذلك، لأنه بواسطتها يكون هناك مؤشر إيجابي لتنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وإشاعة ثقافة الشفافية في المجتمع، رغم ذلك، فإننا في الجمعية المغربية لحماية المال العام، نرى أن الأحكام تبقى غير مكتملة، وبعبارة أخرى ناقصة، إذا لم تسترجع الأموال المنهوبة، لأن هناك أحكاام قضت بالإرجاع لكنها تعطلت في التنفيذ، وكان بالإمكان أن تكون الأحكام مصحوبة بالحجز على أموال المتهمين لضمان استرجاع تلك الأموال، خاصة أن المتهمين يفوتون ممتلكاتهم إلى أقاربهم، وهنا نشير إلى أنه لابد من إحداث وكالة وطنية مهمتها تدبير هذه الأموال واسترجاعها. هل الأمر يتعلق بضعف المراقبة الإدارية والمالية أم بانعدامها أصلا؟ الإشكال أننا نلامس أنه ليست هناك انسابية في هذه المراقبة بشكل عاد وتلقائي، وغالبا ما يتم العمل بمنطق الحملة، الذي لا يفي بالمطلوب من جهة، ومن جهة ثانية، فالأجهزة المكلفة بالمراقبة لا تتوفر على إمكانيات كبيرة، فمهام المراقبة تحتاج إلى وسائل تقنية ومادية كبيرة بالنظر إلى اختصاصاتها المعقدة. ما هي الوصفة التي تقترحونها لوقف نزيف تبديد المال العمومي؟ ليست هناك وصفة جاهزة، الأمر يتعلق بتكلفة دولة الحق والقانون، التي تقتضي أن يقبل الجميع دون أي تمييز وفي إطار المساواة، بأن يخضع للقانون، وهذا يتطلب ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومن جهة أخرى، فصل السلط، وأن تقوم كل المؤسسات بأدوارها في إطار نوع من احترام اختصاصات باقي المؤسسات وتكامل أدوارها، فضلا عن قيام الأحزاب والمجتمع المدني والإعلام والمدرسة وغيرها من وسائل التنشئة الاجتماعية بأدوارها في هذا الإطار. محمد الغلوسي (محام بهيأة مراكش ورئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام)