الموسيقار الذي منح الأغنية العصرية هوية مغربية غيب الموت، الأسبوع الماضي، الموسيقار والملحن محمد بنعبد السلام، عن عمر 97 سنة، بعد أن كاد يطويه النسيان منذ أن توقف عن العطاء الفني، قبل سنوات عديدة، لتعيد الوفاة اسمه إلى الواجهة، كما هو شأن كل المبدعين المنسيين في بلادنا. سيظل بنعبد السلام حاضرا بيننا بعشرات الروائع التي تتردد على كل الألسن وبين مختلف الأجيال، دون أن يعلم الكثيرون أنه هو مبدعها وصانعها. في هذا الخاص تتوقف "الصباح" عند أهم ملامح المسار الفني لهذا الملحن الذي منح للأغنية العصرية المغربية هوية محلية، سافرت بها خارج الحدود. إنجاز: عزيز المجدوب الفنان والموسيقار الراحل محمد بنعبد السلام من الأسماء الفنية التي اختارت العيش في الظل وبعيدا عن الأضواء، ليترك أعماله الفنية تتكلم عنه. قد لا تكون في الحاجة لإطالة الحديث عنه، وأنت تجيل السمع بين الروائع التي خلّفها، والتي تلخص عبقرية الرجل وتتحدث نيابة عنه، وتنبي عما خفي عن الناس من تفاصيل حياته. بدءا ب"يا بنت المدينة" و"يا المسرارة" و"الغادي فالطوموبيل" و"سولت عليك العود والناي" و"الصنارة" و"الما يجري قدامي" و"الله عليها زيارة" و"يا بلادي عيشي" و"الغافل" و"الظروف" و"عام فالغربة" و"عندي بدوية" و"عباد الله فيدوني" و"البحارة" وغيرها. عناوين صنعت مجد الأغنية المغربية، ومنحتها هويتها الخاصة، ظل صاحبها مسكونا بهاجس إبداع موسيقى عصرية ذات سمات مغربية أصيلة، أو استلهام التراث بروح التجديد، وهكذا عمل الراحل بنعبد السلام على إدخال مكونات مغربية داخل إبداعاته بأسلوب لا يقلد ولا يضاهى، وبإيقاعات جديدة، ومواضيع أصيلة متجذرة في تاريخ المجتمع المغربي. شغف مبكر وارتماء في حضن «الميتم» كانت انطلاقة محمد بنعبد السلام من "الميتم البيضاوي"، وهو فضاء عبارة عن خيرية كانت توجد بطريق مديونة (شارع محمد السادس حاليا) بالدار البيضاء، وتقدم أنشطة تكوينية يستفيد منها نزلاؤها في مجال الحرف والمهن اليدوية وأيضا في مجال الموسيقى. لم يكن التحاق بنعبد السلام ب"الميتم البيضاوي" بدافع اليتم والفاقة، بل كان مدفوعا بالرغبة في تلقي تعليم موسيقي رصين، بعد أن شعر في نفسه أن الأنغام هي قدره، منذ وعى الدنيا في سلا التي رأى فيها النور سنة 1928، لكن حلمه اصطدم بمحيطه الأسري المحافظ، قبل أن يقرر الهروب من بيت الأسرة ليلتحق بالخيرية بالبيضاء. وجد بنعبد السلام عددا من الأطفال كانوا متقاربين في السن، كل واحد منهم اختار آلته الموسيقية، أو بالأحرى وجهه إليها المعلم أحمد زنيبر، بناء على معايير خاصة، لتكون النتيجة تكوين دفعة من أمهر الموسيقيين الذين عرفتهم الأغنية المغربية، في ما بعد، وهم عمر الطنطاوي وصالح الشرقي ومحمد كرم ومصطفى الحريري والسميرس وغيرهم. تلقى محمد بنعبد السلام على يد المعلم زنيبر أصول الموسيقى الأندلسية والملحون، كما تعلم العزف على آلات الكمان والأكورديون ثم العود، ليستقر على هذه الآلة الأخيرة ويجاور بها زميله في الجوق الراحل عمر الطنطاوي. اشتهر جوق "الميتم البيضاوي" خلال فترة الأربعينات، وصار مطلوبا في القاعات والمسارح، كما فتحت له أبواب القصر الملكي على عهد السلطان محمد الخامس، الذي كان يهتم بأفراد هذا الجوق ويسبغ عليهم عطفه ورعايته. جوق الاتحاد السلاوي بعد أن اشتد عود محمد بنعبد السلام، واكتمل تكوينه الموسيقي، عاد إلى مسقط رأسه بسلا، والتحق في البداية ب"جوق البارودي" عازفا، قبل أن يقرر تأسيس جوق خاص به، جمع فيه أبناء حيه من العازفين، على ندرتهم، ليطلق عليه اسم "جوق الاتحاد السلاوي" ضم أسماء من قبيل الطاهر الرابولي والمعطي بنقاسم. اكتسب الجوق الناشئ تدريجيا شهرة كبيرة، وصار يقدم ألوانا موسيقية مختلفة تتراوح بين الملحون والأندلسي والأنغام الشرقية، وفي تلك الفترة بدأت تظهر أولى إبداعات بنعبد السلام منها معزوفة "زهوة"، كما كانت الفرقة تشارك في المناسبات الوطنية التي كان يحييها حزب الاستقلال، إذ اقترح زعيمه الراحل علال الفاسي على بنعبد السلام تلحين شعار الحزب الذي كان يقول مطلعه "أنا المغرب، أنا الوطن، روحي فداك" كما أنجز نشيد "من جبالنا طلع صوت الأبطال". وانتعشت خلال نهاية الأربعينات حركة الأجواق العصرية بظهور جوق "أمل التقدم" لعبد النبي الجيراري و"جوق التقدم" لعبد القادر الراشدي بالرباط، وجوق "الشعاع الفني" بفاس، وأجواق أخرى بالدار البيضاء لإبراهيم العلمي والمعطي البيضاوي وغيرهم. مكتشف الأصوات عايش بنعبد السلام المخاضات السياسية لمطلع الخمسينات، خاصة بعد نفي السلطان محمد الخامس، من قبل سلطات الحماية الفرنسية، واشتدت الرقابة على الأعمال الفنية، وحركة الأجواق الموسيقية، عن طريق جمعها في جوق موحد، تحت وصايتها، أطلق عليه اسم "الجوق العصري"، لكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر وأضحى هذا الجوق نفسه منبرا لتمرير الخطابات الفنية المشفرة. في هذا السياق راوغ بنعبد السلام الرقابة ولحن أغنية مزدوجة المعنى بعنوان "يا حبيبي ياللي بعيد عن عيني" تتحدث عن السلطان المنفي بطريقة رمزية، غنتها المطربة بهيجة إدريس، في بداياتها. واصل بنعبد السلام نشاطه الفني بإشرافه على "جوق المنوعات" لسنوات، خلال النصف الثاني من الخمسينات، قبل أن يتم إدماجه مع أجواق أخرى ضمن "الجوق الوطني" نهاية الخمسينات، ليلتحق بعدها بنعبد السلام للإشراف على الجوق الجهوي لمكناس. كما تميزت المرحلة نفسها بخروج العديد من الأصوات الغنائية من رحم ألحان بنعبد السلام، مثل بهيجة إدريس والمعطي بنقاسم وإسماعيل أحمد وعبد الوهاب الدكالي وأمينة إدريس وشقيقها محمد الإدريسي، كما تعامل مع المطربة التونسية علية في قطعة "أنا من أنا". رائد المحاورات والأوبريت الغنائية خلال مرحلة إشرافه على الجوق الجهوي لإذاعة مكناس، انبرى محمد بنعبد السلام لتقديم شكل غنائي امتاز به في مسار الأغنية المغربية، وكان رائدا فيه بامتياز، وهو أسلوب المحاورات الغنائية والأوبريت. ومهد بنعبد السلام للأعمال الكبرى له في هذا المجال عبر محاورات غنائية طريفة من كلمات الراحل عبد الله شقرون منها "عندي وحيدة" لبهيجة إدريس ومحمد بن الطاهر، كما كتب ولحن بنفسه محاورة "انت هاني وأنا هانية" غنتها المطربة نفسها رفقة إبراهيم القادري، إضافة إلى محاورة "التلفون" لأمينة إدريس، ومحاورات أخرى بين عبد السلام أمين ولطيفة الجوهري. وفي 1964 لحن بنعبد السلام أوبريت "مشروع أبي رقراق" من تأليف الراحل أحمد الطيب العلج وأداء كل من إدريس واكواكو وعبد السلام أمين ومحمد بنعبد السلام ومحمد الإدريسي، إضافة إلى عناوين أخرى في هذا الصنف الغنائي الصعب مثل "واد زيز" و"بناة الوطن" و"الشجرة المباركة" و"الوطن غفور رحيم" وغيرها. خلال مساره الممتد والغني تعامل محمد بنعبد السلام مع العديد من الأصوات الغنائية، كما كان وراء شهرة الكثيرين منها، كما هو الشأن بالنسبة إلى تقديم الشقيقتين بهيجة وأمينة إدريس باعتبارهما من أولى الأصوات النسائية التي ظهرت بعد الاستقلال، في وقت كان دخول النساء إلى مجال الغناء محاصرا بالقيود الاجتماعية. كما خص بنعبد السلام الفنان محمد الإدريسي بمجموعة من الأغاني الخفيفة، التي جرب فيها نمطا خاصا من الألحان، مثل "عندي بدوية" و"بنت بلادي زينة"، فضلا عن الألحان التي صنعت شهرة الفنان عبد الوهاب الدكالي مثل "الغادي فالطوموبيل" أو "الصنارة" لعبد الهادي بلخياط، ورائعة "العود والناي" لإسماعيل أحمد، وأغنية "يا بلادي عيشي" لمحمود الإدريسي، وأغنية "البحارة" لنعيمة سميح، فضلا عن ابنته غيثة بنعبد السلام التي دفع بها إلى معترك الفن، وحصنها بالعديد من الأعمال الناجحة التي ثبتت خطواتها من قبيل "الله عليها زيارة" و"الغافل" و"عام فالغربة" و"الليل يسري" وغيرها. اللمسة المغربية قال الباحث أحمد عيدون إن كيفية اشتغال محمد بنعبد السلام لا تختلف عما هو عليه الحال في الموسيقى العربية، أي في ما يتعلق باللجوء إلى المقامات المصنفة، لكن اللمسة المغربية هي ما يمنحها طابع التميز، ما دام الملحن يصدر في إبداعاته من مخزونه من التراث المغربي وتأثره بالموسيقى الأندلسية وأغاني الملحون، حيث يعمد لتوسيع المقام لما تحت القرار واستعمال نوتات مكررة في طبقة خفيضة، قبل الانتقال لطور بسطه على وتيرة مماثلة تستنسخ الترسيمة الإيقاعية اللحنية نفسها، وفي الغالب تكون الجملة الموسيقية متواترة تتخللها في الآن نفسه نبرات حادة تذكر بالدورة الإيقاعية دون أن تتماهى معها. وأضاف الناقد الموسيقي، ضمن كتاب "محمد بنعبد السلام.. المبدع في الأغنية المغربية العصرية"، أن عددا مهما من أغاني بنعبد السلام يفرض نباهة خاصة في الإصغاء للطريقة التي وفقها يتوجب أداؤها، حتى لا تكون عرضة لأن تبدو بسيطة وبلا روح. إنه هو نفسه من يعمد لترسيخ هذه الروح لدى المغني وعازفي الجوق، الذين يدركون مدى اهتمامه بالتفاصيل. وتابع عيدون أن تمكن بنعبد السلام من الأنماط الإيقاعية يكفل له وضعا مريحا على مساحة الجملة الموسيقية، لكنه فضلا عن ذلك يخضع الإيقاع لمعالجة خاصة، من أجل ملاءمته مع متطلبات الأغنية العصرية. ويقدم عيدون أمثلة على ذلك، من قبيل إيقاعات البطايحي، الدرج أو الحضّاري، بحيث يتناغم الإيقاع في سياق جديد على سبيل مطابقة موفقة مع الجملة الموسيقية، وبهذا المعنى شكّل أسلوب بنعبد السلام مدرسة وسط مجايليه من الملحنين المغاربة، كما يرجع له الفضل في نشر وتعميم إيقاع "أقلّال"، الذي كان حكرا على قبائل جنوب المغرب.