لم أقاوم، وأنا أستلذ، نهاية الأسبوع، بلفحات ساخنة بآخر غرفة بالحمام التقليدي، حنينا جارفا إلى ذاكرة تقطر قصصا وطرائف وحكايات عن أول دخول إلى هذا الفضاء الملتهب، أيام الطفولة الأولى. تذكرت أول لقاء مع أجساد متعرقة ومتدلية، يهرول أصحابها، بـ"كراصين" متدلية، لجلب الماء، أو يصطفون أمام "البرمة"، وهم يطلقون صيحات قوية تزلزل الجدران "وطلق السخون، الله يرحم بها الوالدين". في هذا الموضوع بالذات، يتذكر المغاربة جميع التفاصيل وأدقها، ويستطيعون أن يسردوا عشرات القصص عن شخوص ومواقف معينة، تتخللها طرائف وصدامات وردود أفعال، يلعب فيها "الجسد العاري" بتضاريسه ورسومه، دورا محوريا، خصوصا في مجتمعات "محافظة" مثل المغرب. لذلك بالضبط، يعود المغاربة، بين الفينة والأخرى، إلى الحمام الشعبي من أجل لعبة للتذكر تأبى النسيان، ولا بأس أيضا من أجل لحظة استرخاء باذخة مطلوبة في توقيت زمني معين وسط الزحام والتعب وأثقال الحياة، "يتمغط" فيها الواحد في زاوية ملتهبة، ويدهن جسده بكتل صغيرة من الصابون البلدي، ثم يستلقي على الإسفلت الساخن المعد من "لاموزيك". فمهما هربنا إلى فضاءات استحمام بديلة، لا يمكن الاستغناء عن الحمام التقليدي إلى الأبد، إذ جرب عدد من المغاربة فعل ذلك، ثم عادوا صاغرين إلى "بيت السخون"، يلقون بأجسادهم المتعبة في زوايا غرف فسيحة، ذات أسقف مقعرة، تنزل منها قطرات ماء مثلجة من أثر البخار. لا نلبث أن نشد الرحال، مهما حاولنا، حيث يوجد عمي إبراهيم "الكسال" بسرواله القصير المميز وعضلاته الضامرة، وخالتي فاطمة "الطيابة" بعنفوانها وقدرتها على إخراج أنواع "الشعرية"، وحيث العيون التي لا تنام لحارسة "الرزم"، والرجل الستيني الطيب الذي ينتظرك وراء "الكونطوار"، ويمد لك حقيبة ملابسك، ومعها كأس شاي بنعناع على سبيل التحية (بصحة الحمام). في فضاءات الاستحمام الأخرى، تشعر أنك ضيف ثقيل الظل، أو مجرد زبون مبرمج على الدفع للاستفادة من خدمات تنجز بسرعة قياسية، عكس الحمام الشعبي، أو حمام الدرب والحومة، حيث تشعر أنك صاحب مكان، وسيد يتحكم في التفاصيل والعادات والطقوس، ويرجع له القرار من أين يبدأ وإلى أين ينتهي. في الحمام الشعبي، على وجه التحديد، يستعيد المغاربة إنسانيتهم وصفاء أرواحهم، ويبدون استعدادا للتخلص من أوساخهم أمام الجميع، يتطهرون ويغسلون، بل يستعدون لإظهار عوراتهم في إطار من التسامح الحذر. لا يبالون بالتفاصيل الصغيرة التي يتركونها خارج الأبواب الخشبية العتيقة والضجيج الصاخب. في "السخون"، تتوقف عقارب الساعة عن الدوران. يسدل الستار.. تغفو، تحاول أن تنام، تنام، وتنسى "الدنيا وما فيها". للتفاعل مع هذه الزاوية: mayougal@assabah.press.ma