رأيته يتجول في الدار البيضاء. بالأمس، ما بعد منتصف الزوال، رأيته بعمامة سوداء وجلباب أبيض منسدل، يمتطي فرسا. رأيته يتجول في وسط الأزقة المتربة بليساسفة، حيث مكث طويلا، وتعقبته حتى وصل للهراويين في تخوم سيدي عثمان، وعرج على دوار الرحامنة بسيدي مومن. بملامح شاحبة، كان ابن خلدون يتطلع إلى المباني والعمارات غير الأنيقة والطرق المزدحمة في مدخل المدينة. وقف قليلا، ثم لكز فرسه، وحثها على المسير، حتى لا تتعثر في الحفر والمطبات والأوراش المهــملة. بين الفينة والأخرى، كان يهش على وجهه سحب دخان متطاير من عوادم السيارات والدراجات ثلاثية العجلات وغبار العربات التي تجرها دواب قرب القطب المالي بأنفا، وتطلع إلى لافتة كبيرة كُتب عليها "الدار البيضاء..المدينة الذكية". كلما عبر حارة، كان صاحب "المقدمة" يرفع رأسه إلى واجهات بأشكال هندسية غير متناسقة فقدت بياضها من أثر الأدخنة والوسخ. يتحسر، ثم يمضي على مهل، حتى وجد مسجدا، ترجل، وألقى جسده على عتبته من شدة التعب. مد ابن خلدون يده إلى جرابه، وسحب قربة ماء، شرب منها، وأخذ نفسا عميقا، وصاح مثل مجنون "ويحكم، أهذا ما تركتُ لكم من تراث وعلم ونصائح ونظريات، وكتب ومقدمات، تعينكم، على المحافظة على مدنكم وعمرانكم، وحضارتكم وتعميركم في الأرض وصون النفس والبيئة والاجتماع والاقتصاد". نظر من حوله متذمرا، وأردف: "يجب أن تعلموا أن هناك طرقا مختلفة في التعمير، منها ما يفضي إلى الخراب، ومنها ما يضمن الحفاظ على الاستقرار، ولا أرى أمامي في مدينتكم هذه غير الدمار والتدمير". قالها مرتين، ثم استوى واقفا، واختفى في الضباب. كل شيء كان يؤكد أن الرجل هو نفسه عبد الرحمان بن محمد بن خلدون، عالم الاجتماع والفيلسوف الذي كان لا بد أن يزور المدينة، وينظر إلى حال تعميرها وعمرانها وعماراتها وطرقها وشوارعها وتنظيمها الحضري، ومداخلها وفضاءاتها ومرافقها، التي تحالفت "نيات" وإرادات مختلفة من أجل إخراجها على هذا النحو المـشوه. سيُبعث يوما ابن خلدون من قبره ليرى أن كثرة القابلات والأيادي و"الفهامات" والتخطيطات المزاجية، لا تنتج إلا "ولدا" "حراميا" أعور اسمه مدينة الدار البيضاء، حار فيها العلماء والخبراء، واستعصت أمراضها عن الأطباء والدواء. سيأتي ابن خلدون، ليرى كيف حول المنعشون الضواحي والوسط والجنبات إلى "بيوت عناكب" وعلب "سردين"، دون طرق ومرافق وبنيات، ويسطون على العقارات برخص استثناء. سيتأكد صاحب "المقدمة" بأننا ضحايا أصحاب "الملاسة"، يدفعون بالمدينة، كل يوم، إلى "مؤخرة" الترتيب، ثم يهربون إلى الخارج، بسياراتهم ويخوتهم الفارهة، ونسب أرباح عالية الجودة. آنذاك، سيندم ابن خلدون أنه زار يوما مدينتنا.. ولو على سبيل التخيل. يوسف الساكت للتفاعل مع هذه الزاوية: mayougal@assabah.press.ma