متسولون يستجدونها أيام العيد من المحسنين وتنتهي في مخازن منتجي «الخليع» على القنطرة المجاورة لحي عمر بن الخطاب (درب ميلان سابقا)، بالبيضاء، اصطف العشرات من الرجال والنساء، بعضهم في أزياء رثة، منذ اليوم الثاني للعيد يضعون أمامهم قففا وأكياسا بلاستيكية مملوءة بقطع من لحوم الأضاحي. يبدو المشهد مقززا نوعا ما، لكن سيارات من كل الأنواع تتوقف أمامهم، تترجل منها نساء ورجال يتهافتون على هذه "البضاعة" بشكل يثير الاستغراب، يسددون ثمنها ويغادرون في لمح البصر، كأنهم اقتنوا أشياء ممنوعة، وبعدما يغادر الجميع القنطرة، تبدأ لغة الاعتراف أن المقتنين متخصصون في إنتاج مادة "الخليع". إنجاز: مصطفى لطفي بيع لحوم الأضاحي بمنطقة "درب ميلان" ليس وليد اليوم، فالمنطقة تشهد إنزالا منذ عقود لكل متسولي البيضاء، ويستمر لما بعد العيد إلى حين بيع آخر قطعة من اللحم. نجح عيد الأضحى في جمع شمل فئتين اجتماعيتين متناقضتين، المتسولون والتجار، في هذه الفترة القصيرة، يسود الود بينهم، فالطرفان دخلا في صفقة "رابح رابح"، فالمستولون يعرضون ما جاد عليهم به المحسنون من قطع اللحم، والطرف الثاني يقتنيها منهم بأثمنة مغرية، تحقق لهم أرباحا بعد تحويلها إلى "خليع" سيوزع في المقاهي والمطاعم. نقطة تجمع في يوم ثاني العيد تتغير قواعد اللعبة في عالم التسول، يصير اللحم الأكثر طلبا من قبل المتسولين، يتنافسون في ما بينهم في الانتشار في جميع أحياء البيضاء واستجداء سكانها بحجة أنهم حرموا من نعمة العيد. يحظون بتعاطف الجميع بحكم أن المناسبة الدينية مقدسة و"الخير موجود". وبعد جمع كميات منه، تكون الوجهة القنطرة المجاورة لحي عمر بن الخطاب، حيث يتم عرض ما غنموه في اليوم. اختيار حي عمر بن الخطاب (درب ميلان سابقا)، مقرا لهذه التجارة يعود إلى حقبة ضاربة في تاريخ هذا الحي، عندما كان محاصرا بحي صفيحي وسوق عشوائي. كان الإقبال على اقتناء قطع لحوم العيد، التي يعرضها المتسولون منقطع النظير وقتها، والمتهافتون عليها، "عطارة" متخصصون في إنتاج مادة "الخليع" و"الكديد". تنافس كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرا، ثلاث نساء فقط كن فوق القنطرة، وضعن أمامهن أكياسا بلاستيكية مملوءة بقطع متنوعة من اللحم، محكمة الإغلاق. بعدها حلت مسنة على كرسي متحرك، استقرت بعيدة عنهن لمسافة لا تتجاوز ثلاثة أمتار. خلف الكرسي المتحرك، علق كيس بلاستيكي ثقيل بإحكام. تسمرت المسنة بوجهها العابس الصارم، في مكانها تترقب ظهور زبون يقتني بضاعتها. ظل الجميع يترقب حضور الزبون دون جدوى، ربما ساهمت في ذلك درجة الحرارة المرتفعة، وبعد مرور أزيد من ساعة، تزايد عدد "البائعين". توقفت سيارة فخمة، ترجلت منها امرأة تسلمت من أغلبهن أكياس اللحم. تفحصتها بدقة، وسددت لهن الثمن، وغادرت بسرعة كبيرة. بعدها حضر شخص على متن سيارة لنقل البضائع، حاز ما تبقى من أكياس اللحوم واختفى بدوره عن الأنظار. زبناء من نوع خاص حاولت "الصباح"، الحصول على معلومات عن طريقة البيع والثمن وهوية الزبناء، إلا أن الكل ابتلع لسانه، كأنهم يخشون أن تبور تجارتهم في حال البوح بالأسرار، باستثناء شخص رفض الكشف عن هويته، قدم معلومات مقتضبة، لكن قيمتها أكبر. أولى المعلومات تخص زبناء المتسولين، فهم تجار في مادة "الخليع"، أغلبهم من البيضاء، والباقي من مدن أخرى، سيما فاس، حيث يقتنون كميات كبيرة من قطع اللحم من المتسولين بأثمنة مغرية، وتوجه صوب محلاتهم التجارية، حيث تحول إلى "خليع" يوزع في ما بعد على المقاهي والمحلبات وحتى المطاعم. تحدث الشخص عن زبناء من علية القوم حلوا بالقنطرة على متن سيارات فاخرة، من بينهم امرأة توقفت أمامهم بسيارة رباعية الدفع من نوع "بورش". تحصلت على أكياس عديدة من اللحم ووضعتها في الصندوق الخلفي للسيارة وغادرت، تبين في ما بعد أنها من أكبر منتجي "الخليع" بـالبيضاء. بضاعة مربحة يخضع سوق بيع لحم العيد من قبل المتسولين لمنطق خاص، لا يمت بصلة لقانون العرض والطلب، فمهما كانت قيمة الثمن الذي يتسلمه المتسول، فهو ربح صاف، ما دامت بضاعته ناتجة عن تسولها من المحسنين، لكن مع ذلك، يقترحون أثمنة ترضي الطرفين معا. وحدة القياس الوحيدة المعمول بها في هذه التجارة هي "العرام"، إذ يكفي حمل القفة أو الكيس البلاستيكي، وتقدير وزنهما بناء على الحدس، وتسديد الثمن. يتراوح ثمن "العرام" ما بين 40 درهما ويصل إلى 70، في حال كانت الكمية تتجاوز الكيلوغرامين من قطع اللحم، وقد يصل إلى 500 درهم إن كانت الكمية كبيرة جدا. تجار الجيفة المثير في عملية بيع لحوم الأضاحي، أنها تتم بعيدا عن أعين السلطات المختصة، ما يفتح الباب لعمليات غش كبيرة من قبيل بيع قطع لحوم قديمة ومتعفنة، فالأهم بالنسبة إلى صاحبها هو المال، وبالنسبة إلى الزبون هو الحصول على كميات كبيرة من اللحوم لإعداد "الخليع" بكلفة أقل. بين نوايا هذا وذاك، يتحدث قاطنو المنطقة عن عمليات غش أكثر فظاعة تورط فيها منحرفون ومدمنو مخدرات، فبحكم حاجتهم للمال، يسارعون للبحث لمناسبة العيد، عن أضحيات نفقت وتخلص منها أصحابها في مطارح النفايات. يؤكد محمد، 50 سنة، أنه حضر واقعة مماثلة، إذ عاين شبابا منهمكين في سلخ جلد كبش نافق، وبعدها قطعوا لحمه ووضعوه في أكياس، وقصدوا القنطرة حيث باعوه لشخص غريب بمبلغ من المال حولوه كاملا لاقتناء المخدرات وقنينات خمر. (أحمد جرفي) (عبد الحق خليفة)