ليس هناك ماهو أكثر تشويقا، بالنسبة إلى الرأي العام الوطني، من اعتقال وزير سابق وعضو في مجلس الأمة، ورئيس لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، ورئيس جماعة ترابية، وقيادي في "حزب كبير"، ووضعه تحت تدابير التحقيق، بتهم تبديد أموال عمومية والتزوير والغدر واستغلال النفوذ والتلاعب في طلبيات عمومية. في هذا الوقت بالتحديد، قد يكون خبرا بكل بهارات الإثارة "ضربة معلم" من الطراز الرفيع، إذ لا يحدث، دائما، أن تضع الأجهزة الأمنية الأصفاد في معصمي "مسؤول" بهذه الدرجة، وليس متاحا، في كل الأيام، أن نرى قضايا رأي عام بالحجم الذي تتوقف فيه الحركة في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من أجل متابعة آخر الأخبار والمستجدات. وإذ نشدد، منذ البداية، على أهمية تفعيل القانون وتحريك المساطر والمؤسسات والأجهزة لملاحقة المشتبه فيهم بتهم الفساد ونهب المال العام، فإننا نستغرب "مسلسل" التأجيل الذي طال هذا الملف المفتوح منذ سنوات، وبالضبط منذ إحالته من قبل النيابة العامة للمجلس الأعلى للحسابات على الجهات القضائية المختصة، من أجل المتابعة والتحقيق وترتيب القرارات المناسبة. فقد لاحظ الجميع أن الملف أعيد فتحه، فجأة، بتزامن مع انتخاب المتهم رئيسا للجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب، وهي الفترة نفسها التي قد تكون بعض الجهات انتبهت إلى وجود خلل "ما" في الموضوع برمته، إذ كيف سيكون مسموحا لبرلماني، تحوم حوله شبهات فساد، أن يترأس لجنة للتشريع في القانون نفسه؟ والواقع أن هذه الملاحظة لا تهمنا إلا من حيث الشكل فقط، أما المضمون الذي ينبغي أن يطرح للنقاش، فينطلق من سؤال الجدوى من محاكمات جرائم الأموال برمتها إذا كان الغرض منها تطبيق القانون حرفيا، وليس تحقيق العدالة، وأساسا إنصاف الشعب من خلال استرجاع أمواله المنهوبة. فخلال 25 سنة الماضية، عاش الرأي العام لحظات إثارة وصلت حد التهييج، ضد متابعين في قضايا كبرى لجرائم الأموال، وتابع المغاربة أطوار جلسات محاكمة هزت عروش مسؤولين كبار، وسمعنا أحكاما بأرقام مركبة، وقضى المدانون سنوات في السجن والمستشفى، وأطلق سراح من أطلق سراحهم، واستفاد آخرون من العفو. وخلال هذا المسار الطويل، لم يسمع أحد أن درهما واحدا من ملايير الدراهم المنهوبة من صناديق الضمان الاجتماعي والقرض العقاري والسياحي ومخطط تنمية الحسيمة والمشروع السكني للحسن الثاني وغيرها من الملفات الأخرى، عاد إلى خزينة الدولة، أو تم ضخه، من جديد، في دورة الاقتصاد والإنتاج لفائدة ذوي الحقوق، أي المواطنين. من هذه الزاوية بالتحديد، يطرح ملف محمد مبديع، إذ لا يرغبُ أحد في استعادة كابوس محاكمات ماراثونية دون جدوى، ترهق مؤسسات الأمن والقضاء، وتهدر الزمن المغربي في جلسات مملة، تنتهي بأحكام، لكن لا تحقق العدالة بمفهومها العام. العدالة التي تعني إرجاع الحق إلى أصحابه وتحقيق فلسفة الردع الفردي والعام، وتوجيه رسائل صارمة إلى ناهبي المال، مفادها أن العقاب ليس مجرد أحكام بالحبس، بل غرامات مالية وحجز وتتريك وإرجاع للمنهوب. وحين نقتنع بأن هذا هو المسار الصحيح لتدبير ملفات جرائم الأموال، سنكون قد وضعنا الأصبع على النزيف. نزيف الفساد الذي مازال متواصلا بأشكال مختلفة.