مذكرات مستشار اليوسفي 5 الداخلية كانت دولة داخل الدولة وكانت الحزب الأول دون مناضلين يعد كتاب عبد العزيز النويضي، مذكرات مستشار للوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي، دروس من تجربة « التناوب» وما بعدها، الصادر في 2022، غنيا بالوقائع والأحداث التي عرفها المغرب المعاصر. ويتطرق فيه النويضي، لجملة قضايا أثار بعضها اهتمام الرأي العام لحظتها، وقدم لها تفسيرا يختلف عما راج، وأخرى لم تكن متداولة. وننشر حلقات من هذا الكتاب القيم، بموافقة المؤلف الذي زكى عملية النشر مشكورا لإفادة قراء « الصباح». إعداد: أحمد الأرقام حسب تجربتي مع اليوسفي، لم يكن هناك في مجال حقوق الإنسان، أي موضوع مستثنى من إشراف الوزير الأول، باستثناء المجال الأمني الصرف كما سأوضح ذلك. لقد عمل اليوسفي، قدر المستطاع، وفي حدود الهندسة الحكومية، وموازين القوى، على محاولة إصلاح عدد من المجالات التي حققنا فيها بعض التقدم، مثل قوانين الحريات العامة، وتشريع السجون، ومنح المنفعة العمومية لأكبر جمعيتين حقوقيتين، آنذاك، وتسوية ملفات المطرودين والمنفيين لأسباب سياسية ونقابية، وإدخال "الكوطا» النسائية في انتخابات مجلس النواب، ومباشرة حوارات اجتماعية هامة مع النقابات. كما تم عقد المجلس الإداري للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وكنت ممثلا للوزير الأول في الصندوق وتنوب عني الأستاذة نزهة الحريشي، وتمت آنذاك إصلاحات هامة في الصندوق، كما تم تشجيع لجنة تقصي الحقائق البرلمانية لافتحاص الصندوق، وكذا في أوضاع القرض العقاري والسياحي، وتم نشر النتائج فورا، كما تم إقرار مبدأ التناوب على التمثيلية النقابية للنقابات الثلاث الكبرى آنذاك أمام منظمة الشغل الدولية. وكانت هناك لجنة وزارية للحريات العامة تمثل فيها وزراء الأغلبية ووزراء ما يسمى السيادة مثل العدل، والداخلية، والأمانة العامة للحكومة بصفة خاصة، وكانت بجانبها لجنة تقنية تهيئ عمل اللجنة الوزارية، أي مشاريع القوانين التي تهم الإصلاحات ومبرراتها، مثل قانون الصحافة والجمعيات والتجمعات العمومية، بما فيها التظاهر السلمي وقوانين أخرى. لقد كان هناك اتجاهان، سواء داخل اللجنة التقنية أو الوزارية، فالوزراء، أو من يمثلهم، المرتبطون بالأحزاب كانوا يدفعون نحو تشريعات حامية للحريات ليمكنهم من تعزيز حصيلتهم بها، وكانت الجهة الأخرى تعتبر أنه لا يجب إطلاق الحريات حفاظا على سلطة وهيبة الدولة!!! وفي المحصلة كانت القوانين تعرف بعض التقدم ولكنها تحتفظ بكوابح، غير أن الخطر الأكبر لم يكن يأتي من القوانين، بل من تطبيقها القضائي في القضايا السياسية، كما هو الشأن حتى اليوم. أتذكر أن اليوسفي سأل وزير الداخلية آنذاك، أحمد الميداوي، عن تعنيف القوات العمومية لعبد الحميد أمين، الحقوقي البارز، فكان رد الميداوي بلغة دارجة كما يلي: «لا اسي عبد الرحمن غير شاف البوليس جاي عندو، هو يتشبح في الأرض"، حرك اليوسفي رأسه متعجبا لأنه يصعب معرفة مدى تصديقه لهذه الرواية! أتذكر أن الوزير الأول سألني في اجتماع وزاري بلجنة الحريات عن القواعد الدولية التي تحكم استعمال القوة العمومية في التظاهرات، أجبت بأن هناك عددا من القواعد منها مدونة قواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين، وهناك مبادئ أساسية بشأن استخدام القوة والأسلحة النارية من جانب الموظفين المكلفين بذلك، وأن أهم القواعد أنه لا يجب استعمال القوة إلا في حالة الضرورة القصوى وإلى أدنى حد تقتضيه الظروف باستعمال مبدأ التناسب، وطلب الوزير الأول تضمين ذلك في قانون التظاهرات، فقلت إننا سنعمل في اللجنة التقنية على ذلك في أقرب فترة، وعندئذ طلب وزير العدل الأستاذ عمر عزيمان الكلمة، وقال إنه سيهيئ مشروعا في هذا الاتجاه، ولكن مرت الأيام والأسابيع إلى أن حصلت تعديلات لم تتضمن تلك المبادئ. بلقنة الحقل السياسي ظلت وزارة الداخلية هي الأكبر، إذ يكفي الاطلاع على مرسوم اختصاصاتها الذي يكاد يشمل كل المجالات ليتجلى أنها دولة داخل الدولة. كما أنها بمثابة الحزب الأول الذي يمثل الدولة في المغرب دون أن يكون لها مناضلون أو صفة الحزب! لقد تم إدخال الاقتراع النسبي باللائحة منذ 2002، لإعطاء الفرصة لدفع التنافس بين المشاريع والأفكار لا بين الأشخاص. ولكن تم مسخ هذا الإصلاح في التطبيق والممارسة بوضع دوائر صغيرة كما لو كنا في الاقتراع الفردي، وبالتحكم في التقطيع الانتخابي على حساب الأحزاب، وبالإكثار من مكاتب التصويت ما تصعب معه المراقبة. والواقع أن هذا النمط كما طبق وفصل بمراسيم عديدة أصبح أكبر صمام للدولة للتحكم في المشهد السياسي، وفي نتائج الانتخابات دون اتباع الأساليب التقليدية في التزوير. وقد أسهم في بلقنة الحقل السياسي، إذ يكاد يستحيل الحصول على أغلبية منسجمة مكونة من أحزاب مستقلة تكون سندا لحكومات قوية.