المصحف كتاب وعظ لا تاريخ

لمسيح قال إن الغرض من القصص الدينية الكشف عن غيبيات تُدرك بالإيمان يستعيد الباحث محمد لمسيح في هذا الحوار مجموعة من الإشكالات المتعلقة بالتعامل مع القصص الدينية والتمييز فيها بين الطابع التاريخي والرمزي والتمثيلي وأشياء أخرى تجدونها في هذا الحوار. أجرى الحوار: عزيز المجدوب > تثير القصص الدينية إشكالا مع إصرار معظم المسلمين على التعامل مع أحداثها وكأنها وقائع تاريخية؟ > النص القرآني يقدم لنا مجموعة متنوعة من القصص التي كانت متداولة بين الناس، عَبَّر عنها خصوم الرسول "بأساطير الأولين"، أو القصص التي كانت معروفة لفئة معينة من المثقفين والعارفين بفن القصص، كقصة أهل الكهف في الثقافة السريانية وهي قصة "فتية أفسس" المنسوبة إلى مار يعقوب السروجي في أواخر القرن الخامس الميلادي، فيأتي السؤال عنها كنوع من المعايير لكشف قدرات الرسول المعرفية بتفاصيلها، وما ترمز إليه من حكمة وموعظة، كما جاء في سورة الكهف " وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا"، فقصة ذي القرنين كانت معروفة قبل الإسلام والدليل على ذلك هو السؤال الذي وُجِّه إلى الرسول مباشرة عن ذي القرنين "وَيَسْأَلُونَكَ" وهذه القصة معروفة في الموروث الثقافي السرياني، قام بتحقيقها وترجمتها من اللغة السريانية إلى اللغة الإنجليزية المستشرق البريطاني إرنست ألفريد واليس بودج المتوفى سنة 1934م ، وسماها: "خرافة مسيحية حول الإسكندر" اختصرت فيما بعد "بخرافة الإسكندر"، تحدث عنها بعض المستشرقين كالألماني "ثيودور نولدكه" و"كيفن فان بلاديل" من جامعة يال الأمريكية، وهذه القصة بحسب بلاديل تتطابق على وجه الدقة بمثيلتها القرآنية؛ فكلا القصتين تذكر القرنين كرمز لقوة الإسكندر المقدوني، وسفره إلى موضع غروب الشمس "في عين حمئة" بجانب المياه النتنة، وتعذيبه للأشرار في هذه المياه المميتة "إما تُعَذِّب وإما أن تتخذ فيهم حسنا"، ثم اتجه نحو المشرق ووجد أناسًا لا يمتلكون واقيًا من الشمس، وفي رحلته الثالثة وجد أناساً يفهمون الكلام بصعوبة "قوماً لا يكادون يفقهون قولا"، ويخبرنا النص السرياني عنهم بأنهم "الهون" وهو اسم عامّ لرعاة آسيا الوسطى، وهم "أجوج ومأجوج " ففي سياق هذه الحكاية، كذلك قدرة ذي القرنين على بناء سور "سداً" من حديد ونحاس، وفي كلا القصتين فإن "ذا القرنين" يتنبأ بنهاية العالم في زمن الحروب الكبرى بين الأمم. فكما نلاحظ فالقصة في الأصل كما سماها واليس بودج "خرافة " سريانية يغلب عليها طابع الأسطورة، والتعامل معها على أنها وقائع تاريخية، يدل على جهل أصحابها بتاريخ الإسكندر الثالث المقدوني. > هل يمكن التمييز بين الجانب التاريخي والرمزي والتمثيلي في هذه القصص؟ > رغم أن قصة ذي القرنين جاءت جواباً لسؤال طُرح على الرسول "ويسألونك عن ذي القرنين" فهي تُوَضِّح معرفة السائل بخلفيتها، والسؤال جاء من باب اختباره وامتحان قدرة الرسول على معرفة مثل هذه القصص، أو من باب العلم بتفاصيلها ومغزاها، وبغض النظر عن أصلها هل هي خرافات سريانية ناقشها القرآن مع من وضع السؤال، ونقلها لنا في سورة الكهف؟ أم هي من أصل مشترك بينه وبين القصة السريانية "خرافة الإسكندر"؟ على كل حال نجد فيها رمزية وتماثلية واضحة، لما كان عليه الوضع في بدايات القرن السابع الميلادي، والصراع البيزنطي الفارسي من سنة 614م إلى سنة 628م، الذي أتى على الأخضر واليابس، وزادت قلة الأمطار وانتشار المجاعات من تأزيم الوضع، وظهور الزلازل والأوبئة جعل جميع الشعوب التي ترزح تحت الاحتلال الفارسي تارة، والبيزنطي تارة أخرى، تعتقد باقتراب آخر الزمان، والنص القرآني في العديد من الآيات المكية يشهد على هذه الرؤية "اقتربت الساعة"، وهذا ما يعرف في الأدب الرؤيوي بالأبوكاليبس ، وقد سُئل الرسول عن زمن هذه "الساعة" ولمِا آل إليه الوضع، كما جاء في سورة الأعراف 187 " يسألونك عن الساعة أيان مرساها... "، وتكررت الإشارة إليها في العديد من الآيات، فحاول بعض رجال الدين المسيحيين ربط قصة الإسكندر المقدوني وانتصاراته المتتالية على الإمبراطورية الفارسية، بانتصارات هرقل العظيم على جيوش الفرس، وخروج "يأجوج ومأجوج" بهجوم البدو العرب على الإمبراطورية البيزنطية والانتصار عليها، وربطوها باقتراب ظهور المخلص أي عودة المسيح على الأرض، وكأن السؤال للرسول جاء من باب التحقيق من نبوءة سفر دانيال. فقصة ذي القرنين لم يكن الهدف منها سرد حقائق تاريخية كما يعتقد جل المسلمين، وإنما محاولة لإخبار عن آخر الأيام "الأبوكاليبس" ومجيء المخلص. > هناك جانب مشترك بين القرآن وبقية الكتب التوحيدية في اعتمادها على قصص معينة تتكرر في كل متن مع بعض الاختلافات...كيف يمكن النظر إلى هذا الأمر؟ > يعتبر القرآن امتداداً لكتب الأديان الإبراهيمية " وبالتالي ليس مستغربا وجود قصص من التوراة تكررت في القرآن، أو أُشير إلى مقاطع منها موجودة فيه. لقد ذكر القرآن العديد من قصص الأنبياء، مؤكدًا هذه التبعية محاورًا أهلها "أهل الكتاب" بما اختلفوا فيه، ويقدم لهم نَظْرَته الصحيحة في تفسير هذه النصوص المقدسة، وقصة موسى وفرعون هي الأكثر ذكراً في القرآن بمقاطع مختلفة، إما بالتفصيل أو بالإيجاز. ولعل تكرار هذه القصة دون غيرها، لوجود التشابه الكبير بين شريعة موسى، وشريعة الرسول. وما يدعم هذا الطرح، هو أنه عند ذكر هذه القصة، دائماً ما نجد إشارة للقرآن، أو للرسول قبلها أو بعدها؛ ففي سورة القصص يشير النص للرسول مباشرة بعد الانتهاء من ذكر قصة موسى. فالقرآن يقدم لنا مثل هذه القصة ليس لسرد وقائع تاريخية كما يعتقد جل المسلمين، وإنما الغرض منها الكشف عن غيبيات تُدرك بالإيمان، والتي لا يقر بها حتى كبار علماء الآثار في تأكيد تاريخية هذه القصة، ولا يقبلون بطريقة البحث الأثري المبني على الإيمان والعقيدة. في نهاية المطاف القرآن كتاب وعظ وإرشاد، لا كتاب تاريخ وعلوم. قصة أسطورية > سبق لك أن اشتغلت على نماذج من القصص الدينية مثل سورة الفيل... ما هي الخلاصات التي يمكن تقديمها بهذا الشأن؟ > بعد الدراسة التي قدمها أستاذي الدكتور كريستوف لكسنبيرغ عن قصة الفيل في القرآن أثناء مؤتمر هلسنكي 2013م بعنوان "التاريخ المبكر للإسلام"، نظمه معهد إنارة الألماني بمشاركة جامعة هلسنكي، قمت بدراسة معمقة ردًّا على ما قدمه أستاذي عن قصة الفيل، الذي نشر في المجلد الثامن لمعهد إنارة في دار النشر شيلر الألمانية 2017 بعنوان "الفيل في القرآن بين الأسطورة والتاريخ "، وقدمت في هذا البحث أقوال المفسرين في سورة الفيل، ومناقشة أقوال بعض أشهر علماء الإسلام، بتناول السياق التاريخي للسورة في كتابات المؤرخ الكبير بروكوبيوس القيصري 565م) ومقارنتها بما جاء عن الملك أبراموس "أبرهة" في سيرة أبي بكر محمد بن إسحاق المتوفى سنة 179ه، ثم بيّنت صعوبة عبور فيل أفريقي على رأس جيش أبرهة من صنعاء إلى مكة ذهابا وإيابا، فما بال وجود ثلاثة عشر فيلا بحسب قول النقاش، ووصل العدد إلى ألف فيل عند بعض المفسرين! ثم قدمت أقوال أشهر المستشرقين الذين تحدثوا عن سورة الفيل، وعلى رأسهم الدكتور كريستوف لكسنبيرغ، وقدمت المصادر الأصلية لحادثة الفيل في القرآن والخلفية التاريخية لها، فتبين بوضوح أنها إشارة لمعركة بين البيزنطيين بقيادة الحاكم الأرمني موشيق والجنرال الفارسي بهرام چوبین (بهرام السادس) ، مغتصب عرش خسرو الثاني، هذه المعركة دارت رحاها بفيلة بهرام السادس سنة 591م، وكان النصر لموشيق وعودة خسرو الثاني لعرش أبيه، فنص الرسالة التي بعث بها موشيق لبهرام تتطابق تماماً مع تفاصيل سورة الفيل باللغة الأرمينية والموجودة في مخطوطة تحت رقم 2639 فلا وجود لطيور "رؤوسها كرؤوس السباع" كما ذكر عكرمة، ولا "أكف كأكف الكلاب" كما قال ابن عباس، وإنما قدم موشيق الثاني المؤمن بالله في رسالته صورة مجازية عن مدد سماوي من الملائكة ترمي جيش بهرام وفيلته بصواعق ملتهبة فتجعلهم كالغبار في مهب الريح. إذًا القرآن أشار لحادثة الفيل المعروفة في ذلك العصر، ولا دخل لأبرهة في القصة! فبعد أكثر من قرنين على هذا الحدث، تأتي المصادر الإسلامية في العصر العباسي لتقدم لنا قصة أسطورية "ما أنزل الله بها من سلطان" فصورت لنا عبارة "طَيْرًا أَبَابِيلَ"، وهي في اللغة الأرمنية "أرواح سماوية" على أنها "طيور رؤوسها كرؤوس السباع، وأكف كأكف الكلاب"!

المصحف كتاب وعظ لا تاريخ

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

القرآن حق وصدق

محنة سكان مع قاعة للألعاب بالفنيدق

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات