عقود التبرع في الفقه المالكي

العقود التي توثق التبرعات تحكمها موضوعا أحكام الفقه الإسلامي (2/1) بقلم: محمد ترين * عقود التبرع عموما، هي تلك العقود التي ترد على التصرفات غير العوضية، أي التي لا يستوفي فيها المتبرع مقابل ما أعطاه ولا يدفع فيها المتبرع عليه مقابل ما أخذه، وهذه العقود تعرف في إطار تصنيف العقود "بالعقود الملزمة لجانب واحد"، وهو الجانب المتبرع أو الملتزم، وهي إما أن تشمل الرقبة والمنفعة معا، حيث تنتقل ملكيتها إلى المتبرع عليه كالهبة والصدقة والهدية والوصية، وإن كانت الأخيرة أي الوصية، تشكل نوعا من أنواع التبرعات، إلا أنها لا تنقل ملكية الشيء الموصى به إلى الموصى له إلا بعد وفاة الموصي. وإما أن تشكل المنفعة وحدها مع بقاء العين المتبرع بمنفعتها في ملكية المتبرع، وهذا الانتقال للمنفعة بمقتضى التبرع، إما أن يكون لمدة محددة في عقد التبرع تنتهي بانتهاء مدته، كالإسكان والعارية، وإما أن تكون لمدة حياة المتبرع عليه تنتهي بوفاته ولا ينتقل هذا الحق إلى ورثته، وإما أيضا أن تكون لمدة حياة المتبرع فترد إليه إن كان حيا أو ترد إلى ورثته بعد مماته كالعمرى وحق الانتفاع. إذا قارنا أحكام التبرعات بين قواعد الفقه الإسلامي ونظام الرسم العقاري، لا نلفي الاختلاف لأن العقود التي توثق التبرعات تحكمها موضوعا أحكام الفقه الإسلامي عموما، وخاصة المذهب المالكي، سواء ما يتعلق منها بالعقار العادي أو غير المحفظ، أو عقار الملك أو العقار الذي هو في طور التحفيظ، أو العقار الخاضع لنظام التحفيظ العقاري، إلا من حيث صحة ونفاذ عقود التبرع، وسنقتصر في هذه الدراسة بخصوص عقود التبرع على عقدي الهبة والصدقة، لأنهما أكثر شيوعا في معاملات الناس اليوم، ومادامت أحكامهما متحدة، إلا من حيث الاعتصار (أي الرجوع في العقد) فسوف نكتفي بعقد الهبة لأن لفظ الهبة أخف على الناس من لفظ الصدقة. فعقد الهبة عرفه الفقيه المالكي خليل بن اسحاق بأنه "تمليك عين بلا عوض ولثواب الآخرة صدقة"، أما المادة 273 من مدونة الحقوق العينية فقد عرفته بأنه تمليك عقار، أو حق عيني عقاري لوجه الموهوب له في حياة الواهب دون عوض، في حين أن عقد الصدقة فهو تمليك بغير عوض لملك ويقصد به وجه الله تعالى، والفرق بين عقدي الهبة والصدقة، انطلاقا من خصائصهما، أن الهبة يقصد بها وجه الموهوب له إما لمكانته أو علمه أو سلطانه وهي في الأصل بدون عوض، وقد تكون بعوض، لكن لا يكون نقدا أو مساويا لقيمة الشيء الموهوب، وإلا عدت المعاملة بيعا إذا كان البديل مالا، أما الصدقة فتبتغي مرضاة الله تعالى وثواب الآخرة. وتأسيسا على قواعد الفقه المالكي، فيتعين الإشهاد في حجة الهبة على معاينة عدليها بحيازة الشخص الموهوب له الشيء الموهوب قبل حدوث المانع للواهب من موت أو إفلاس أو تصرف جديد في ما وهب. قال الشيخ خليل "وبطلت الهبة إن تأخر القبض لدين محيط أو وهب لثان…" وإذا انتفت معاينة عدلي الإشهاد للحيازة، فيحق للموهوب له أن يشهد لفيفا بهذه الحيازة قبل حدوث المانع، ومعلوم أن تسجيل عقد الهبة في الرسم العقاري يغني عن الحيازة المادية وفق ما استقر عليه المجلس الأعلى في العديد من قراراته، لأن التسجيل في الرسم العقاري يعتبر حيازة قانونية مفترضة لا تقبل إثبات العكس. إذن فالهبة تكون بالعقد، أي بالإيجاب والقبول، ولا تتم إلا بالقبض أو الحوز هذا العقد يصلح لإثبات الهبة في حالة إنكارها من الواهب أو ورثته بحكم قاعدة الخلفية العامة، قال الشيخ ميارة في شرحه لتحفة بن عاصم عند قوله. صدقة تجوز إلا مع مرض****** موت وبالدين المحيط تعترض إن الصدقة الهبة - تصح وتلزم إلا إذا وجد مانع وهو إما مرض الموت أو الدين المحيط بماله". أوصاف عقد الهبة إن ماهية العقد عموما تتجلى في اتفاق إرادتين على إنشاء أثر قانوني معين يلتزمان بتبعاته، وعقد الهبة يتسم بأنه عقد مسمى، أي أن المشرع قد أسبغ عليه اسما خاصا تمييزا له عن سائر العقود الأخرى، ولم يتناوله بالتعريف قانون الالتزامات والعقود، وإنما ترك أمر تنظيمه لقواعد الفقه الإسلامي التي أسهبت في هذا النوع من العقود، وأفاضت في تحليلها وتفصيل جزئياتها، وذلك خلافا لعقود البيع والكراء والصلح التي أشار إليها القانون المذكور، كما يتسم أيضا بأنه عقد رضائي تتقابل فيه إرادتان إيجابا من قبل الواهب وقبول من طرف الموهوب له، فقد روي عن الإمام مالك قوله "تنعقد الهبة بالقبول ويجبر على القبض كالبيع سواء…" وقال أبو الوليد محمد بن رشد "… أن من شروط صحة الهبة القبض، وأنه إذا لم يقبض لم يلزم الواهب…" وقال مالك "… تنعقد بالقول وتجبر على القبض كالبيع سواء، فإن تواني الموهوب له عن طلب القبض حتى أفلس الواهب أو مرض بطلت الهبة…" فعند مالك يعتبر الحوز من شروط التمام لا من شروط الصحة، إلا أن عنصر الرضائية الذي يتميز به عقد الهبة في عقد رسمي وإلا وقع باطلا، فإذا كان العقد المذكور منصبا على عقار عاد فيلزم التعريف بطرفيه وبالحق الموهوب تعريفا مانعا من الجهالة مع التنصيص على معاينة العدلين للحيازة، ومعاينة وإفراغ الواهب للشيء الموهوب من شواغله. أما إذا كان العقار الموهوب محصنا برسم عقاري، فيكفي تسجيل عقد الهبة المتعلق به بصحيفة الرسم العقاري، وهذا التسجيل يعد حيازة قانونية تغني الموهوب له عن إثبات حيازته المادية (247 من مدونة الحقوق العينية) وتغني عن الإشارة في عقد الهبة على معاينة عدلي الإشهاد للقبض، لأن المشرع اعتبر التسجيل في الرسم العقاري حيازة قانونية أقوى من الحيازة المادية، ولو لم يشر في الرسم إلى معاينة شاهديه حيازة الموهوب له لما وهب له، فلأن الحيازة القانونية دليل على الحيازة المادية، وهذا هو سبب رضائية عقد الهبة بشكليه. ومن السمات الأخرى لعقد الهبة أنه عقد ملزم لجانب واحد، أي انه عقد غير تبادلي ولا تتلاقى فيه الالتزامات، إذ يلتزم فيه الواهب بتسليم ونقل ملكية الموهوب إلى الموهوب له، دون أن يلتزم هذا الأخير بأي تبعات حيال الأول، بل يكون من حق إجباره على القبض والتسليم رضاء أو قضاء، كما انه عقد ناقل للملك بمجرد صحته رضائيا وتوثيقيا، أي حصول اتفاق طرفيه بالإيجاب والقبول وتمام القبض، قبل حدوث المانع، مع التنصيص على معاينته في ما يتعلق بالعقار المادي لزوما، وهو بذلك سبب من أسباب الملكية كالبيع والمقايضة وغيرهما. نتائج عقد الهبة عندما تصح الهبة عقدا وقبض يصبح الموهوب له مالكا للحق الموهوب من تاريخ الإشهاد على العقد أو القبض ويصبح الموهوب له دائنا للواهب بما وهب، فإذا كان الشيء الموهوب منقولا يكفي فيه القبض لتملكه، قال الخرشي شارحا لقول الشيخ خليل "وحيز وإن بلا إذن وأجبر عليه" "إن الشيء الموهوب يحاز عن واهبه إن لم يأذن في ذلك أبى الواهب يجبر على ذلك لأن الهبة تمليك بالقول على المشهور". * أستاذ باحث

عقود التبرع في الفقه المالكي

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تخفيض عقوبة "سارق" بنك طنجة

"كورونا"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات