مصـر أمـة حية رغـم بـؤس الأحـداث

حين يؤمن الشعب بحقه في الاختيار يصبح من الصعب وأد أحلامه المشروعة في مستقبل يليق به بعد زيارة خاطفة لـ«دبي» سعدت فيها بالتميز المصري، عدت للقاهرة لأجد في انتظاري حزمة من الأخبار التي لا تسر. فلأنني كنت أحد أعضاء لجان التحكيم في جائزة الصحافة العربية، فقد دعيت لحضور منتدى الصحافة والحفل الذي تم فيه الإعلان عن أسماء الفائزين بالجوائز لهذا العام. وكم كانت سعادتي حين حصد شباب الصحافيين المصريين عددا كبيرا من الجوائز. ورغم أن فوز شباب مصر في ذاته لا يفاجئ أمثالي من الأكاديميين الذين يتفاعلون مع الأجيال الجديدة يوميا ويعرفون قدراتها، فإن هذا الفوز يؤكد أهمية الإيمان بقدرات الأجيال الشابة فى مصر وإفساح الطريق لها لتعيد بناء هذا الوطن، فذلك هو المفتاح الوحيد للنهضة الحقيقية. وليرحمنا الذين صدّعوا رؤوسنا بحكاية «الخبرة» كمعيار لتولي المسؤولية. فالأمم التي تقدمت في عقود قليلة مثل تركيا اعتمدت بالأساس على الأجيال الشابة، ونحن في مرحلة حاسمة في تاريخ مصر تتطلب دماء جديدة وطاقات متجددة وأفكاراً خلاقة للانعتاق من حالة التكلس والبلادة التي فرضت على بلادى عقوداً بأكملها تحت شعارات زائفة من الاستقرار والخبرة إلى «حكمة السيد الرئيس».عدت إلى مصر سعيدة بإنجاز أبنائها لأصطدم بتفاصيل الأخبار التى طالعتها فى عجالة أثناء سفري وتلك التى لم تصلني. حاصرني الحزن حين قرأت الشهادات التي سمعها أعضاء لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس الشعب عن أحداث العباسية. فقد نقلتني الشهادات من شباب مصري يُكرّم خارج بلاده لشباب مصري يتعرض داخل مصر «للضرب المبرح والاعتداءات»، بدءا من استخدام العصا، مرورا بالقنابل المسيلة للدموع والخرطوش والرصاص الحي، وصولا لتعرض بعضهم للذبح على أيدى البلطجية»، وشابات تعرضن «للضرب وللتحرش اللفظي والجسدي» فى عربات الجيش التى كانت تقلهن إلى مكان الاعتقال. أفزعتني شهادة تكررت أكثر من مرة مؤداها أن شهود العيان حملوا «ناس أمخاخهم طالعة من دماغهم»، على حد تعبير أحد أطباء المستشفى الميداني. والواضح أن التفاصيل التي لم تنشرها الصحف أبشع بكثير من تلك التي نشرت، إلى الحد الذي دفع الدكتور وحيد عبد المجيد، عضو مجلس الشعب، لأن يقول إن «ما سمعناه من شهادات تمثل فظائع لم تحدث حتى فى عهد نظام الرئيس المخلوع».والمجلس العسكري مسؤول مسؤولية مباشرة عما جرى لأنه الحاكم الفعلي للبلاد والمنوط به حماية أرواح المصريين وأعراضهم. ولا يوجد جرم يبرر إخراج أمخاخ المصريين من أجسادهم. لكنني لم أفهم أيضا كيف يمكن أن يستمر مجلس الشعب في مناقشة جدول الأعمال بطريقة عادية، بعد أن استمع إلى تلك الشهادات. ألم يكن الأجدى بالنواب المنتخبين للدفاع عن الشعب وحقوقه أن يعلنوا حالة الطوارئ داخل أروقة مجلسهم ويكرسوا كل وقتهم لبحث تلك الفضيحة؟ لم أسمع مثلا أن المجلس استدعى مسؤولا ولا وزيراً ولا حتى خفيرا لمساءلته. أما الإعلام، فما هي إلا أيام واختفى الموضوع من على أجندته فى ظروف غامضة!ولم تكن تلك التفاصيل وحدها في انتظاري. فقد عدت لأقرأ بالتفصيل الكوميديا السوداء التي بدأت «بزعل» اللجنة العليا للانتخابات من الكل، بما فى ذلك طبعا القضاء الإداري الذي حكم بأن اللجنة اتخذت قرارا ليس من صلاحياتها حين أحالت قانون العزل للمحكمة الدستورية العليا، مرورا بقرار وقف الانتخابات ثم قرار عدم وقفها! والكوميديا المذكورة دلالتها الوحيدة أن هناك محاولات للتلاعب بمقدرات المصريين وبإرادتهم الحرة، وسعيا للإبقاء على الفريق «شفيق» فى سباق الرئاسة بأي ثمن. ومؤشرات ذلك التلاعب صارت تتواتر يوميا. فقد تبين أن قيادات الحزب الوطني تنظم نفسها لدعم أحمد شفيق، بل وتجتمع في فيلا مملوكة لقرينة أحمد عز المسجون فى قضايا فساد واحتكار. ولا أجد من تعليق أفضل من قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم «إذا لم تستح فافعل ما شئت».والتلاعب مفضوح أيضا في الخبر الذي نشرته «المصري اليوم» في صفحتها الأولى الأحد الماضي. فما معنى أن يضطر قضاة التحقيق فى قضية ماسبيرو للقيام بالتحريات بأنفسهم حول تورط ثلاثين من قيادات الحزب الوطني في الانفلات الأمني والتحريض على العنف بعد أن طلب أولئك القضاة من الداخلية التحري فأجابتهم بأنها لم تتوصل لشيء؟أخبار كلها تدعو للأسى والغضب والقلق في آن. لكن يشاء ربك أن يدفع إلينا بما يدعوني للتمسك بتفاؤلي بمستقبل مصر وبنجاح ثورتها. فما جرى ليلة المناظرة الرئاسية الأولى كان مبهجا بكل المقاييس. وأنا لا أتحدث عما جرى فى المناظرة نفسها وإنما أتحدث عما كان يحدث خارجها. شوارع خالية ومقاه يلتف فيها المصريون حول الشاشات لمشاهدة المناظرة على الهواء مباشرة. وفي اليوم التالي للمناظرة، نقاشات مكثفة في كل بيت ومكتب حول المناظرة والمُرشحَين بل وباقي المرشحين. لقد عاد المصريون للسياسة بعد أن خاصموها لعقود طويلة. وعودة المصريين للسياسة هي الضمان الأول ضد التلاعب بمقدراتهم وإرادتهم وضد تنصيب فرعون جديد. فالإقبال على التصويت بأعداد هائلة يجعل مهمة المزورين شبه مستحيلة، والشعب المنتبه لما يقوله السياسيون بإمكانه محاسبتهم وعقابهم، وحين يؤمن الناس بحقهم في الاختيار، يصبح من الصعب وأد أحلامهم المشروعة في مستقبل يليق بهذه الأمة.وحتى أحتفظ بتوازني، بعد كل ذلك الوابل من الأخبار والتفاصيل المؤلمة، اخترت أن أقول لنفسي إنني عدت إلى مصر فوجدت الكثير من الأخبار البائسة ولكنني وجدت الشعب نفسه يقظا متمسكا بحقه في تحقيق إرادته الحرة. عمار يا مصر. (عن موقع المصري اليوم)

مصـر أمـة حية رغـم بـؤس الأحـداث

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

هولاند وميركل... تباين حول سياسة النمو في أوربا

العاطلون يقاطعون مباريات الوظيفة العمومية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات