الـتـوافـق مـذهــب يحكــم الحيـاة العـامـة بالمغــرب

هشاشة التوافقات الحزبية انعكست على الأداء الحكومي الذي اتسم بالبطء يراد بالتوافق، مذهب تفاوضي يرتكز في مفهومه العام على نظام تشاوري تشاركي يهدف إلى تدبير الاختلاف وتقريب الآراء والمواقف بغية إيجادحلول ناجعة ومنطقية تتقاسمها جميع الأطراف. وهو بهذا يمكن من تأسيس آلية تنتج عنها أغلبية متوافقة ومنسجمة حول القرارات التي تتخذها في المكان والزمان.من هذا المنطلق تبرز من جهة أهمية اللجوء إلى التوافق كآلية اتخاذ القرار تفضي إلى تذويب الاختلافات بين الأطراف وتسريع وتيرة الاتفاق والحسم في سبل بلوغ الهدف المنشود دون أن يمس ذلك بالمبادئ والأهداف الثابتة لكل طرف ومن جهة أخرى دور هذه الآلية في تقليص تكلفة التفاوض من خلال تفادي التأخيرات في اتخاذ القرارات الناتجة عن حالات تشبث كل طرف بمواقفه وآرائه. إذا كانت طريقة توظيف التوافق في معالجة القضايا بالمغرب جعلت منه مبدأ بات يحكم الحياة العامة بشكل كبير، فإنه بالمقابل صار محط تساؤلات تهم بالخصوص جدوى استمرار اللجوء إلى هذه الآلية، عوض الممارسة الديمقراطية وذلك بالنظر إلى ما أفرزته بعض التجارب في هذا الصدد؟ وتنبع أهمية التساؤلات من أن بلادنا اعتمدت مذهب التوافق في العديد من القضايا ذات طابع سياسي واقتصادي واجتماعي، إلا أن جل هذه التجارب أفرزت اعتماد هذه الآلية لانتزاع مكتسبات بناء على تفاوض يحكمه منطق يغلب المصلحة والربح على حساب المرتكزات الأساسية للتوافق المتمثلة في ترسيخ التشاور والتشارك في اتخاذ القرار. ونسوق في هذا الإطار، مرحلة الانتقال الديمقراطي التي انطلقت مع حكومة التناوب منذ 1998 التي كانت ثمرة “توافق وسط تاريخي” بين المؤسسة الملكية والحركة الوطنية الديمقراطية اعتبارا لأن البلاد كانت آنذاك أمام باب مسدود ومهددة بالسكتة القلبية وأيضا لتلبية طموحات شعب متعطش لنسق ديمقراطي يرتب الحياة السياسية على أساس أغلبية ومعارضة تتناوبان على تدبير الشأن العام كما هو الحال بالنسبة للديمقراطيات العريقة.وإذا كان التناوب التوافقي قد ساهم بشكل كبير في فتح الأوراش السياسية والحقوقية الضرورية لإرساء قواعد العدالة الانتقالية فإنه بالمقابل لم يتمكن من بلوغ البناء الديمقراطي إلا أن التوافقات التي عرفتها بلادنا وخاصة بالنسبة إلى الحكومات المتعاقبة المكونة من أحزاب الكتلة وحزب الحركة الشعبية والتجمع الوطني للأحرار التي تم تشكيلها بناء على أغلبية حزبية عددية غير متجانسة من الناحية السياسية والإيديولوجية، ساهمت في إفقاد العملية الانتخابية مدلولها المتمثل في كونها محطة تمكن من إفراز أغلبية تستمد شرعيتها الديمقراطية من صناديق الاقتراع، وتمكن المواطن من محاسبة الأحزاب التي تتحمل تدبير الشأن العام، الأمر الذي فتح المجال لعمليات تصويت عقابي لا تترجم الاختيارات الحقيقية للمواطن والتي أفادت أحزابا على حساب أخرى أو لمقاطعة الاستحقاقات.كما انعكست هشاشة التوافقات الحزبية على الأداء الحكومي الذي اتسم بالبطء والانعكاسات نفسها أفرزتها التوافقات المبرمة لتشكيل المكاتب المشرفة على تدبير الشأن المحلي والإقليمي والجهوي نتيجة عدم تجانس المجالس الجماعية المنتخبة في تدبيرالجماعات المحلية، وكذا غياب الانضباط على حساب مصالح المواطن.إن اعتماد التوافق كمذهب يحكم الحياة العامة ببلادنا يثير مفارقة بين الناحية المبدئية التي تصنف التوافق كمدخل للديمقراطية يرمي إلى إفراز أغلبية منسجمة ومتضامنة حول اختياراتها وقراراتها وبين الممارسة التي تبرز هشاشة التوافقات واللعب على حبلين، وعلى سبيل المثال تأسيس تحالفات قبلية بين أحزاب لا علاقة بينها، همها الأول هو فوز أحد أطراف التحالف بالرتبة الأولى في الانتخابات، والتي سرعان ما يتم فك الارتباط بها للانضمام للأغلبية الحكومية بعد الاستحقاقات.وعوض البحث عن سبل جريئة لإشراك فعلي وحقيقي للشباب في الحياة السياسية في إطار دوران النخب وتناوب طبيعي للأجيال عبر فسح المجال أمام وجوه جديدة لولوج الاستحقاقات عوض الاعتماد على الأعيان والرحل، توافقت الأحزاب حول توسيع مجال الريع السياسي بتخصيص كوطا للشباب، الأمر الذي يطرح تساؤلا محوريا ألا وهو: هل وصل الشباب المغربي، مصدر قوة هذا البلد، إلى درجة من الترهل تمنعه من المشاركة والاعتماد على قدراته لخوض معركة النجاح في المشاركة السياسية؟ تساؤل لا يجب أن يطرح لأن العكس هو الصحيح على اعتبار أن الحديث عن "كوطا" للشباب كإجراء استثنائي غير وارد تماما في الظرفية الحالية التي تتسم بحراك اجتماعي في الشارع المغربي على غرار العديد من الدول في العالم، والذي كان مصدره الشباب الذي أكد على أنه لا يزال يحمل القوة الكافية التي تمكنه من انتزاع المكانة التي يستحقها دون حاجة إلى تمتيعه بكوطا أو ما شابه ذلك، وخير دليل على ذلك لجوؤه إلى الشارع للمطالبة بالتغيير ومحاربة الفساد دون وساطة من الأحزاب.فهل بعد ما قام به الشباب من حراك تعبيرا عن مطالبه لا يستحق تعاملا أفضل من الهبة السياسية التي ساهمت في ظهور موازين قوى ونفوذ داخل الأحزاب أفضت إلى حالات توريث للمقاعد وتوسيع التمثيلية العائلية بالبرلمان، على حساب تأطير واستقطاب الكفاءات الشابة وتفعيل الديمقراطية الداخلية والشفافية وتكافؤ الفرص كمدخل لإعادة المصداقية للعمل السياسي؟إن الفريق الحكومي الجديد الذي يضم بين صفوفه امرأة واحد يبرز مقاربة الكيل بمكيالين في ما يتعلق بالتمثيلية المشرفة للمرأة، ويحيلنا على مقولة "الديب حلال"، حيث تم استغلال منح النساء فرصة التمييز الإيجابي منذ 2002للرفع من عدد المقاعد المحصل عليها ولو عن طريق الريع السياسي و» الديب حرام» حين تقلصت تمثيليتها في الحكومة مقارنة مع الحكومة السابقة، في الوقت الذي كان يتعين رفع نسبة هذه التمثيلية تماشيا مع فلسفة الدستور الجديد.وعلى هذا الأساس، بات من الضروري فتح ورش تمثيلية المواطن عموما والنساء والشباب على وجه الخصوص والتوفر على القناعة والرغبة الأكيدة في معالجته بشكل نهائي يمكن من السبل الكفيلة لضمان تمثيلية الشباب والنساء بشكل ديمقراطي، يعفينا من اللجوء إلى التمييز الإيجابي التوافقي الموسمي.وإذا كان التوافق في إطار الحوار الاجتماعي قد ساهم في تحقيق العديد من المكاسب للشغيلة في نهاية التسعينات ومطلع الألفية الثالثة، لأن لملفات عديدة وجدت طريقها إلى الحل من قبيل الترقية الاستثنائية والزيادة في الأجور... فإن طريقة تدبير هذه الجلسات لم تتجاوز طابع خلية إطفاء مهمتها احتواء آثار أزمة والتوصل إلى اتفاق في الوقت الميت من شهر أبريل عوض قرار نابع عن مذهب توافق تشاوري تشاركي. إستراتيجية الإشراك ومأسسة الحوار الاجتماعي إن استمرار التفاوض بالمقاربات السابقة نفسها، مكن المركزيات النقابية منذ الأزمة العالمية لسنة 2007 التي سجلت أسعار المحروقات وبعض المواد الغذائية فيها مستويات غير مسبوقة، من انتزاع مجموعة من المكاسب تتمثل في الزيادة في الأجور والتعويضات العائلية والحد الأدنى للمعاشات... إلا أن البعد الإستراتيجي الغائب، رغم أنه لا جدال بخصوص مشروعية المطالب، يتمثل في مدى توفر السلطات العمومية على إمكانيات في المستقبل تمكنها من مسايرة الأزمات وتلبية مطالب من قبيل رفع الأجور وتمويل صندوق المقاصة وحل ملف إصلاح التقاعد....لأن الذاكرة الشعبية المغربية تختزل حكمة الديمومة والاستمرارية في مقولة «قليل ودائم ولا كثير ومنقطع». ما هي إذا الجدوى من مأسسة الحوار الاجتماعي الذي يقتضي إستراتيجية ترتكز على الإشراك و الاستمرارية والأجندة المحددة وتحمل المسؤولية من طرف جميع الأطراف المشاركة في الحوار في الوقت الذي يعرف الكل مسبقا أن فترة الاحتجاجات النقابية تنطلق أوتوماتيكيا ابتداء من شهر شتنبر، وتنتهي في متم أبريل من السنة الموالية لتعود إلى الواجهة في شتنبر المقبل؟ فهل ما زال من المعقول تفضيل التعامل في إطار الحوار الاجتماعي مع الملفات «السهلة نسبيا بمنطق «عضة من الفكرون ولا يمشي سالت» وتأجيل البت في الملفات الشائكة تنصلا من المسؤولية إلى أجل لاحق؟ كما أن حساسية بعض الملفات الاجتماعية وانعكاساتها على المحيط الاقتصادي والاجتماعي، تقتضي مأسسة فعلية للحوار الاجتماعي مبنية على تحمل المسؤولية في معالجة الملفات التي تنطوي على الحقوق المكتسبة، والتي تعتبر مسألة مفصلية وشاقة في التفاوض عوض تأجيل البت فيها، الأمر الذي ينتج عنه ارتفاع تكلفة الإصلاحات الناجمة عن التأخر في اتخاذ القرار. ذ خالد بنعلي: باحث اقتصادي

الـتـوافـق مـذهــب يحكــم الحيـاة العـامـة بالمغــرب

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الربيع العربي في سوريا لن يزهر قريبا

من أجل أنسنة ومأسسة العلاقة المغربية الإسبانية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات