الـنـقـل “الـسـري” بـالـبـيـضـاء لـم يـعـد سـريـا

سيارة تسير بغاز البوتان وسائق "مقرقب"وغياب التأمين والضمانات يبعد الزبناء عن "الخطافة" الساعة تشير إلى السابعة صباحا. سكان الحي الحسني بالبيضاء يستعدون لبداية يوم آخر. طابور طويل من الناس ينتظرون سيارات الأجرة البيضاء لتقلهم إلى مقرات عملهم بمركز المدينة.غير بعيد عن موقف سيارات، تتوقف سيارة مرسيدس بيضاء اللون مرقمة بالبيضاء، ينزل منها سائق بلباس مهلهل، يتوجه إلى آخر الصف ويهمس في أذن أحد الواقفين أنه على استعداد لنقله إلى مركز المدينة بثمن أقل.يتبعه خمسة أفراد بعد مشاورات، ثم تلتحق بهم امرأة على عجلة من أمرها أيضا.يبدو الأمر مغريا في البداية، إذ بعد تأمل صف المنتظرين للطاكسيات، وحساب الوقت الذي يمكن ربحه بدل الوقوف في طابور الانتظار، يصبح عرض هذا الغريب مغريا جدا. تتحدث عائشة "دائما يأتي هذا الرجل كلما كانت هناك أزمة في النقل، لا أدري في ماذا يفكر هؤلاء الذين يثقون في الغرباء ليقلوهم في سيارات متهالكة".هذا المشهد يتكرر دائما في مختلف أحياء البيضاء، وأزمة النقل لا تخف على البيضاويين، وأصبح النقل السري لا يحمل إلا الصفة، فهو لم يعد سريا بالمرة، وإنما على مرأى ومسمع من سائقي سيارات الأجرة.يقول المهنيون إنّ عدد الذين يمارسون النقل السري في تكاثر، وإنّ زبناءهم غالبا من المضطرين، فلا أحد يقبل أن يغامر مع شخص غريب ليقله إلى مكان ما. ويؤكد سائقو الطاكسيات أن أغلب المزاولين للنقل السري هم ممن عملوا سابقا في الطاكسيات، ولم يحالفهم الحظ، أو أنهم لا يملكون المال الكافي لكراء "الكريمة" وأداء الضرائب. نقل سري...وأشياء أخرىيتحدث "ع.ج" عن النقل السري بلهجة ساخطة: "إنهم لا يؤثرون على أرزاقنا، فالأرزاق بيد الله، لكن فقط نستغرب من سلوكهم، ونندد بالخطر الذي يشكلونه على المواطن. نحن نريد من السلطات أن تضع حدّا لهذه المهزلة، لأننا نؤدي ضرائب كثيرة للدولة، ومن واجبها أن تحمينا من هؤلاء الذين لا يؤدون شيئا ومع ذلك يمارسون العمل نفسه الذي نمارسه، بل يشكلون خطرا على الجميع.مشكلة سائقي الأجرة مع السائقين الذين يمارسون النقل السري، هو إحساسهم بالظلم، وسخطهم على السلطات التي لا تقوم بواجبها لردعهم. إذ أن أغلب السائقين يتشاركون في الفكرة نفسها، ويتساءلون كيف يعقل أن يتنقل هؤلاء بحرية في شوارع المدينة، ويتم منع سائقي سيارات الأجرة الكبيرة من سلوك بعض الشوارع، مع أنهم يعملون بصفة قانونية ويؤدون الضرائب.يتحدث الكثير من سائقي سيارات الأجرة عن قصص بعض الذين يمارسون النقل السري، قصص يصعب تصديقها أحيانا، لكنها تبقى ممكنة، بل ومنطقية، في ظل الغموض الذي يلف ممارسي النقل السري و طبيعة عملهم.يقول "خالد"، سائق سيارة أجرة كبيرة في عقده الرابع، إن امرأة حكت له عن قصة نجاتها بأعجوبة من موت محقق في السنة الماضية، وفي طريق مؤد إلى القرى المحيطة بالبيضاء، ركب أشخاص مع سائق يمارس النقل السري بسيارته التي تشبه سيارة الأجرة في كل شيء، لكنه غيّر لونها حتى لا يكون هدفا لسائقي السيارات الذين قد يكشفون أمره. في البداية أخبر الركاب الذين كانوا في انتظار الطاكسيات أنه يملك سيارة، وأنه على استعداد لنقلهم إلى وجهتهم بثمن مغر مقارنة مع ثمن الطاكسي.استجاب له 6 أشخاص، وتبعوه إلى مكان اعتاد أن يركن فيه سيارته في انتظار اصطياد زبناء محتملين. في البداية بدا كل شيء عاديا، لكن بعد مضي حوالي ربع ساعة، بدأت رائحة غريبة تتسرب إلى الطاكسي. في البداية تبادل الركاب نظرات حائرة. بعد أن أصبحت الرائحة لا تطاق، استفسر أحد الركاب السائق، لكنه قال بهدوء إنه لا يعرف، وواصل القيادة في صمت.طالبوه بفتح النوافذ، لكن السيارة كانت متهالكة ونوافذها لا تفتح بسهولة، وصارت الرائحة أقوى من ذي قبل، وتأكد الجميع أن الرائحة هي رائحة غاز البوتان. اشتد نقاشهم مع السائق بعد أن رفض التوقف، وسألوه عن مصدر رائحة الغاز، وشرح لهم أنه يعتمد على غاز البوتان وقودا لمحرك السيارة. بدأ الاشتباك مع السائق بالأيدي لإجباره على التوقف، لأن رائحة الغاز لا تطاق.توقف السائق أخيرا نزولا عند رغبة الركاب، أخذوا يطوفون بالسيارة ليعرفوا مصدر الغاز، وامتنعوا عن مرافقة السائق بعد استشعارهم للخطر. يواصل خالد "من حسن حظهم أنهم نزلوا من السيارة، لأنه مباشرة بعد نزولهم حاول السائق تشغيل المحرك، ولأن التسرب قد وصل إلى مستوى خطير فقط انفجر مقدم السيارة عند محاولته تشغيل المحرك.هذه القصة نقلها السائق على لسان سيدة نجت من موت محقق، إما بالاختناق أو بانفجار المحرك، ولكم أن تتصوروا حجم الخطر الذي يحيط بالنقل السري.سائق ومدمناسمه محمد، وكان معروفا في أوساط سائقي سيارات الأجرة بأنه سكير يجوب المحطة ليل نهار، كان يعمل سائقا عند أحد مالكي سيارات الأجرة بالبيضاء.سلوكه حال دون استمراره في مهنة الطاكسي، فلجأ إلى النقل السري مصدرا للعيش. كان يركن سيارة قديمة في أقصى الشارع، ثم يتوجه ناحية الركاب محاولا إغراءهم بالركوب معه لوضع حد لانتظارهم للطاكسيات.كان معروفا بتعاطيه للقرقوبي وكانت ذراعه تحمل ندوبا كثيرة بأدوات حادة، كان يخفيها بارتداء قمصان طويلة.يحكي من عرفوه عندما كان يعمل سائقا في سيارة أجرة بيضاء، أنه مرة سجن لأنه اغتصب امرأة ركبت معه، لأنه كان تحت تأثير أقراص الهلوسة.بعد أن عمل في سيارة يمارس بها النقل السري واصل ممارساته، لكن بحرية أكبر، فالنقل السري كان يوفر له غطاء يضمن له مزيدا من الضحايا، لكن أبشع جريمة ارتكبها كانت في حق شابة في عقدها الثاني، كانت متوقفة في الشارع تنتظر مرور طاكسي، ليقلها إلى البيت، ركبت معه بعد أن شرح لها أنه ينقل الناس بسيارته، ويتقاضى مقابلا مثل الطاكسي، وأوهمها أنه متعلم وأنه يمارس النقل السري، لأنه عاطل. صعدت معه امرأة بعد أن حددت له الوجهة، وتفاهم معها على الأجرة.ما إن انطلقت السيارة حتى غير وجهته سريعا دون أن تلاحظ المرأة في البداية. لكن ما إن اكتشفت أنه يريد الخروج من المدينة، وأن السيارة تسلك طريقا لا تؤدي إلى وجهتها، بدأت بالصراخ، لكنه هددها بسكين. كان مجددا تحت تأثير المخدر، فاغتصبها بوحشية في طريق مهجور و تركها مضرجة في الدماء.يروي الكثيرون حكايات أخرى عن حوادث سير لسائقين سريين، ومتهورين أيضا. الضحايا هم الخاسر الأكبر، لأن سيارات النقل السري لا تتوفر على وثائق ولا تأمين، وبالتالي يكون التعويض مستحيلا. واللوم الأكبر، دائما يرمى على عاتق الركاب، الذين يلجؤون إلى خدمات مجهولين للتنقل من مكان إلى آخر.الطرف الآخررغم كل ما يروى عن السائقين الذين يمارسون النقل السري، فإن قضيتهم غامضة وغير واضحة المعالم.يروي "سعيد" بكثير من الألم أنه لم يجد بديلا، لكي يقلع عن ممارسة النقل السري. ويؤكد أن أغلب الذين يمارسون هذا النوع من النقل هم شرفاء، وإن وجدوا بديلا، فسوف يغيرون مهنتهم. فهم غير راضين عن وضعهم، ومتخوفون من غياب التأمين وعدم وجود ضمانات.ويؤكد سعيد أن الذين يعرفهم من ممارسي النقل السري هم سائقون سابقون لسيارات الأجرة، لجؤوا إلى هذه الطريقة، لأنهم عاجزون عن تسديد أجرة "الكريمة" و التأمين ...وغيرها من المصاريف. يواصل سعيد : نحن من أبناء الشعب، ولسنا "شمكارة" أو "مقرقبين"، كما يدعي البعض. نحن نعيل أسرنا بالطاكسي، ولما سحبت منا الرخص، لم نجد بديلا عن ممارسة النقل السري. لا يتعامل الناس مع النقل السري بتحفظ، بل على العكس، يرى أغلب الركاب أن النقل السري من الممكن أن يكون المخلص الوحيد من طول انتظار الطاكسيات. وحسب أحد المواطنين الذين ينتظرون في محطة الطاكسيات، يؤكد أنه مستعد للارتماء في أول سيارة للنقل السري، فحسب رأيه، السائق السري مثله مثل السائق العادي، الفرق فقط يبقى في المسائل القانونية والكريمة، ومادام السائق السري سيوصله إلى وجهته فسيركب معه. وتأكيدا لموقفه يقول: "من الممكن أن يكون سائق سيارة الأجرة العادية خطيرا أيضا، لا يجب أن نطلق هذه الأحكام السريعة على الذين يمارسون النقل السري، لأن الفرق فقط يكمن في الوثائق والتأمين.يظل النقل السري محط سخط سائقي سيارات الأجرة، فهم يتحسرون كيف أن السلطات المسؤولة تسكت عن هذه الظاهرة، وتسمح لأشخاص لا يتوفرون على رخص نقل بمزاولة المهنة بالاستمرار في سلوكهم بشوارع البيضاء، ما يفتح بابا من التسيب قد يقضي على كل أمل في النهوض بقطاع النقل الذي يعرف مجموعة من المشاكل والإكراهات. يونس عبد الحفيظ جنوحي (صحافي متدرب)

الـنـقـل “الـسـري” بـالـبـيـضـاء لـم يـعـد سـريـا

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

وفيات رضع بسبب الإهمال بمستشفى ورزازات

الخلفيات الحقيقية لخروج جماعة ياسين من 20 فبراير

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات