جحيم الإبادة في بورما… الهروب الكبير

«ارحلوا أو ستموتون جميعا» تجبر آلاف مسلمي «الروهينغيا» على النزوح نحو بنغلاديش دون أمل في العودة دفع تصاعد الضغوط الدولية «أونغ سان سو تشي»، مستشارة الدولة في ميانمار، إلى إلقاء أول خطاب بشأن أزمة أقلية «الروهينغيا»، بعد أن قررت عدم حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ قالت سو تشي إن بلادها ستسمح بدخول مراقبين دوليين إلى إقليم «أراكان»، الذي فر منه أكثر من 400 ألف من مسلمي «الروهينغيا» جراء أعمال العنف. وأكدت سو تشي، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، أن أعمال العنف والعمليات العسكرية في «أراكان»، متوقفة منذ 5 شتنبر الجاري، رغم وجود تقارير تناقض روايتها، وتتحدث عن فرار مئات الآلاف من مسلمي «الروهينغيا» إلى بنغلاديش، إذ قالت في خطابها إن «أغلب مسلمي إقليم أراكان لم يفروا من المنطقة»، مضيفة «رغم ذلك، فإننا قلقون بشأن مسلمي «الروهينغيا»، الذين يفرون عابرين الحدود». وتابعت «نريد كشف السبب الكامن وراء استمرار هذه الهجرة». ترجمة: بدر الدين عتيقي (بتصرف عن «لوموند») "يركضون ويتعثرون ثم ينهضون لمواصلة المسير، منهكين وجوعى، يلاحقهم الموت الجماعي، ويسكن الخوف بطونهم". هذا جانب من صور نقلها الموفد الخاص لصحيفة "لوموند" الفرنسية حول معاناة أقلية "الروهينغيا" المسلمة، على الحدود بين بورما وبنغلاديش، حيث تتواصل موجة من التهجير القسري لآلاف الهاربين من أكبر عملية تطهير عرقي عرفتها المنطقة. بعد أسبوعين من حلول أول أفواج اللاجئين من "الروهينغيا" في جنوب بنغلاديش، تحديدا في منطقة نهر "ناف"، الفاصلة بين البلدين، ما زال الحذر مسيطرا على الفارين من جحيم المجازر العرقية، التي اندلعت بقرار من حكومة بورما ضد أقلية "أراكان"، يستمد شرعيته من تاريخ طويل من العداء، موجه إلى الأقلية المسلمة في البلاد، ويستهدف دفعها إلى الرحيل بشكل نهائي عن أراضي الدولة البوذية. يسلكون الطريق رقم 1، الرابطة بين منطقتي "كوكس بازار" و"تيكناف"، يوميا، في مغامرة غير محسوبة العواقب، تقودهم إلى السير في التلال حول منطقة "غاندام"، ثم عبر حقول الأرز، متجهين نحو الجنوب. على طول ضفاف نهر "ناف"، وصولا إلى خليج "البنغال"، وحدهم الموتى والمصابون يظهرون للعلن، فيما يتخذ "المختفون"، الفارون من جحيم الحرب، من الأدغال ملجأ لهم، بينهم عدد ليس يسيرا من كبار السن والعجزة، غير المدركين لحقيقة الوضع، في رحلة هرب شاقة من "بورما". دقيقة للهرب "ارحلوا !" أو "لديكم دقيقة لإخلاء القرية.." أو"ارحلوا جميعا"، أو "ارحلوا وإلا ستموتون جميعا". كلمات استخدمتها عناصر الجيش البورمي لإنذار المحظوظين من "الروهينغيا"، الذين تسنت لهم فرصة الحديث قبل إطلاق النار، بما لا يترك أي مجال للشك لدى منظمة الأمم المتحدة حول حملة "تطهير عرقي" ممنهجة. اضطهاد أقلية "الروهينغيا" ليس جديدا، إذ يتعرضون لحملات عنف وتضييق منذ أزيد من 25 سنة، فالملعونون من البورميين في العاصمة الاقتصادية "رانغون"، لم يعرفوا قط معنى المواطنة، وعاشوا في ظل أكبر نظام للفصل العنصري "الأبرتايد" في العالم، اتسم بإسقاط الجنسية عن هذه الأقلية في 1982. "الرحيل أو الموت"، شعار عريض تبناه الجيش البورمي، لغاية الانتهاء كليا من مشكل "الروهينغيا". شهادات الرجال المختبئين في الأدغال، كشفت عن فظاعات ومجازر ارتكبت في القرى، إذ تم إعدام الفارين وحرق جميع البيوت. خلال الأيام الأولى، تردد الكثير من "الروهينغيا" الفارين، بين الاستمرار في الاختباء بالغابة، أو انتظار عودة محتملة إلى قراهم، أو كذا مواصلة الطريق نحو بنغلاديش، ملاحقين بجنود الجيش البورمي ورجال الدين البوذيين. سياسة إرهاب امتدت إلى التلال والغابات وحقول الأرز. لا عجب في أنه ليس لـ"الروهينغيا" الحق في الحديث، إذ ما إن تحل الوحدات العسكرية بالقرى، حتى تبدأ في إطلاق النار مباشرة على البيوت، فيما لا يحتاج رجال الدين البوذيون، المدججون بالمديات والمناجل، إلى أوامر خاصة، ليشرعوا في الذبح والتنكيل بالفارين. في الصباح الباكر، كانت "شيلخالي" والقرى الأخرى أحرقت عن آخرها. سحب الدخان بادية للعيان من نهر "ناف" البنغالي. لم تمض ثلاث ساعات على هذا المشهد، حل أول الوافدين على منطقة ""كانشرابارا"، يتعلق الأمر بـ"سيدول أمين" و"محمد طيب". "أتى الجنود منذ أربعة أيام، ومنذ ليلة البارحة، عمدوا إلى حرق المنازل تدريجيا"، يحكي "سيدول أمين"، مضيفا أنهم لجؤوا إلى ضفة النهر، تاركين خلفهم بعض كبار السن والعجزة في "شيلخالي"، مؤكدا أنهم سيقتلون بدورهم، موضحا بالقول، إنه "خلال الصباح، كانت جميع المنازل محترقة خلفنا، وتمكنا من إيجاد مركب صيادين أخيرا، من أجل عبور النهر". كان على الرجلين السير وسط الوحل، ثم قطع حقول الأرز في خمسة كيلومترات متواصلة. في "كانشرابارا" انتظر الآخرون، فيما تمكن مركبان فقط من العبور بسبب دورية بحرية، ذلك أن أغلب الصيادين يخافون مصادرة قواربهم من قبل وحدات الجيش البورمي، ولهذا يضطر أغلب الفارين إلى الانتظار على ضفة النهر مختبئين، إلى غاية مغادرة الدورية. الكثير مات غرقا بعد محاولتهم قطع نهر "ناف" سباحة، أو بعد غرق القوارب التي كانت تقلهم. أعمدة دخان صاعدة، واحدة وثانية ثم ثالثة، تخترق الآفاق، إيذانا بحرق القرى واحدة تلو الأخرى، بشكل ممنهج. موجات من اللاجئين تتقاطر على بنغلاديش، فيما لم تستثن حملة التطهير العرقي أي فرد من "الأراكان"، إذ تتمثل المهمة الأساسية للوحدات العسكرية البورمية، المعززة بما مجموعه 33 و99 كتيبة خفيفة، معروفة بوحشيتها، وفق ما أكده لاجئون تعرفوا عليهم من خلال زيهم، حسب تصريح لمحقق دولي بالمنطقة. سياسة إرهاب وأرض محروقة يمارسها العسكريون، الذين لا يلاحقون الفارين على طول ضفاف النهر بسب عدم توصلهم بأوامر لفعل ذلك، إذ يظل الأهم حرق البيوت والقضاء على أمل العودة. حمام دم خلف الهجوم على 20 نقطة حدودية ، من قبل مسلحي جيش الخلاص الروهينغي في "أراكان"، الذين خاضوا معارك في "رانغون"، حوالي مائة قتيل، منهم عشرة رجال شرطة. دولة"أراكان" احتضنت القتلة والكتائب المسلحة منذ الأيام الأولى. يوم 26 غشت الماضي كان حمام دم باختصار. الوحدات القتالية كانت متخلفة بدقيقة عن القوات التي كانت تداهم القرى المجاورة، فلم يكن"الروهينغيا" ينتظرون تحذيرا عند إطلاق النار أو يتأثرون بهول المفاجآت. "في سابران، حل الجنود في صباح 26 غشت الماضي، رفقة القوات البوذية" يحكي محمد صديقي، مضيفا أنهم "أطلقوا النار على البيوت، ثم بعد ذلك على السكان، الذين قرروا الفرار. كنت خارجا، وركضت في الأدغال. ابني البالغ من العمر 15 سنة، وطفلتي ذات 21 ربيعا، وابنتي الأخرى التي لم يتجاوز عمرها شهرين قتلوا جميعا". بين التلال، تجمع القرويون من أجل خوض رحلة شاقة على مدى سبعة أيام. "حتى الآن، أحصينا 284 شخصا مفقودا، بعضهم يمكن أن يكون ما زال على الطريق، لكني أعتقد أن أغلبهم قتلوا"، يتحدث صديقي عن الوضع، منتظرا في مخيم اللاجئين بـ"إنشبرانغ"، عودة ابنه الآخر من المستشفى، البالغ عمره تسع سنوات، بعد إصابته برصاصة في الفخذ. ابنه الأكبر "محمد جبير" فقد زوجته وطفله. "بدون إنذار أو سابق حديث، فتح الجنود النار على البيوت، فيما تلقت زوجتي التي كانت تحمل طفلنا رصاصة عبرت كتفها لتقتل الاثنين. ركضت نحو حقول الأرز، ليلحق بي المسلحون، قبل أن أسقط متظاهرا بالموت، إلا أن جنديا ضربني بقوة ثم مضى، لأستيقظ بعد ساعتين على مشهد حريق القرية". تجلس إلى جانب الطريق، بسبب عدم وجود أماكن شاغرة في مخيم اللاجئين، عانقت "سانجيدة" سلمان، الذي لم يتجاوز عمره تسعة أشهر، فيما أرخى رأسه في حضنها، والحروق تغطي قدمه اليمنى. "في ميرا الله، أطلقوا النار على البيوت مباشرة، لتحترق قدم طفلي، بينما كنت أحاول حمله من سريره"، تؤكد اللاجئة. لم يتلق "سلمان" أي علاج منذ قدومه إلى بنغلاديش، في ظل غياب أي منظمة إنسانية على طول طريق "تكناف"، إذ لم تستفد الأم إلا من العلاجات التي وفرتها مخيمات اللجوء الرسمية، التي أحدثتها السلطات البنغالية، منذ موجة النزوح في التسعينات من "كيتيبالونغ" و"نايابارا". لا مجال للعودة "حسينة بوغوم" من "ميرا الله" أيضا، وكانت محظوظة بالهروب وهي حامل، قبل أن تضع مولودها في 26 غشت الماضي، رغم معاناتها بسبب فقدان والديها، وركضها مسافات طويلة في الغابات متحملة أوجاع المخاض. "وضعت طفلي في كوخ قرب النهر"، تؤكد اللاجئة، التي استغرقها وصولها إلى بنغلاديش رفقة زوجها عبد الحميد وأطفالهم الثالثة أسبوعين. مختبئين بين الحشائش في حقول الأرز بشمال "إنشبرانغ"، منهكين وجوعى، تراقب "حسينة" الوضع بعينين يائستين، فيما يحاول عبد الحميد إنقاذ أطفاله، ذلك أن ابنه الصغير لم يحصل بعد على اسم خاص به. "لا مجال للعودة يوما ما. لم يبق أي شيء هنا"، يعلق بهدوء عبد القاسم، القادم من "تكناف" ليلا، مضيفا أن ابنه إبراهيم أصيب برصاصة خلال ركضه، ولم يشاهده بعد ذلك، مؤكدا إجهاز الجنود على المصابين، ثم إحراقهم بعد ذلك المنازل. تاريخ طويل من الاضطهاد حرم الشعب "الروهينغي" من اكتساب الجنسية الوطنية ومن التعليم والتوظيف والسفر، وفرضت عليه البطالة والعزلة في الغابات المظلمة الغارقة في التخلف، كما ترك لممارسة الطرق المعيشية البدائية، دون أن يزود بوثائق رسمية تثبت انتماءه إلى ميانمار، إذ لم تسمح السلطات البورمية لأفراده بالمغادرة والرحيل. واستمر البوذيون البورميون في اضطهاد المسلمين، ونهب خيراتهم وتشجيع البوذيين من أصل هندي على ذلك. وفي 1824، احتلت بريطانيا ميانمار، وضمتها إلى حكومة الهند البريطانية الاستعمارية. خلال 1937 جعلت بريطانيا ميانمار مع "أراكان" مستعمرة مستقلة عن حكومة الهند البريطانية الاستعمارية، مثل باقي مستعمراتها في الإمبراطورية آنذاك، وعرفت بحكومة ميانمار البريطانية. واجه المسلمون الاستعمار الإنجليزي بقوة، ما جعل بريطانيا تخشاهم، فبدأت حملتها للتخلص من نفوذ المسلمين باعتماد سياساتها المعروفة "فرق تسد"، إذ عمدت إلى تحريض البوذيين ضد المسلمين، وأمدتهم بالسلاح حتى أوقعوا بالمسلمين في مذبحة 1942، فتكوا خلالها بحوالي مائة ألف مسلم في "أراكان". وفي 1948 منحت بريطانيا الاستقلال لميانمار، شريطة أن تمنح لكل العرقيات الاستقلال عنها بعد عشر سنوات إذا رغبت في ذلك، لكن ما إن حصلت على استقلالها حتى نقضت العهد، واستمرت في احتلال "أراكان" دون رغبة سكانها من المسلمين "الروهينغيا" والبوذيين "الماغ" أيضا، وقاموا بأبشع الممارسات ضد المسلمين. ولم تتغير أحوال المسلمين "الروهينغيا"، بعد الانتخابات التي جرت في نونبر 2010، إذ ظل مخطط إخراج المسلمين من "أراكان" موجودا، فيما نجحت هذه الممارسات في تهجير بين ثلاثة ملايين مسلم وأربعة ملايين خلال فترة قصيرة، وخلفت مئات الآلاف من القتلى. 370 ألف نازح خلال أسبوعين ما يناهز 370 ألف شخص من "الروهينغيا" نزحوا من بورما خلال أسبوعين، وفق المفوضية العليا للاجئين، التابعة للأمم المتحدة. في أوساط المنظمات الإنسانية بـ"كوكس بازار"، تم تداول قدوم مليون "روهينغي" إلى بنغلاديش. الموت عبر الإعدام والاغتصاب والعنف، والعمليات العسكرية المكثفة، وكذا التدمير الممنهج للبيوت، والإنذارات بالرحيل، صور شكلت معالم حملة تطهير عرقي، تم تدشينها في "رانغون"، في أفق الاستمرار فيها حتى آخر روهينغي.

جحيم الإبادة في بورما… الهروب الكبير

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

مباريات نارية تنتظركم اليوم

الرصاص يلعلع في برشلونة لمنع استفتاء الاستقلال

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات