المصادقة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية

خطوة نحو تكريس عدم الافلات من العقاب وتفعيل توصيات هيأة الانصاف والمصالحة أصبح من الواضح أن الشعب المغربي قرر أن يأخذ الأمور بنفسه ويعمل على تنفيذ توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، ويصادق على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، وذلك عندما صوت بأغلبية ساحقة على الدستور الجديد، والذي نص بصريح العبارة في الفقرة الثالثة من الفصل 22 على أن "ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون". كما أن المغاربة جميعا الذين صوتوا على الدستور من حقهم أن يواجهوا الذين يريدون تكريس مبدأ الإفلات من العقاب بمقتضيات الفقرة السادسة من الفصل 23 من الدستور المذكور والتي تنص صراحة :تفعيل نص عدم الافلات من العقاب روحا ونصا"يحظر كل تحريض على العنصرية أو الكراهية أو العنف.يعاقب القانون على جريمة الإبادة وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وكافة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان".وبما أن الشعب المغربي صوت على هذه المقتضيات المكملة للعدالة الجنائية الدولية وميثاق روما، فإن مسألة التصديق أصبحت فاعلة وبالتالي، فإن المغرب أصبح الدولة 121 التي تعاقب على أبشع الجرائم. وهكذا، فإن الشعب المغربي كرس مفهوم عدم الإفلات من العقاب روحا ونصا، ودخل بالتالي إلى نادي الدول التي تحترم مواطنيها.إن النصوص الجديدة المتعلقة بحقوق الإنسان الواردة في الدستور الجديد وفي ديباجته، والتي تنص صراحة على :"- حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء.- حظر ومكافحة كل أشكال تتماشى مع المبادئ القانونية للعدالة الجنائية الكونية في التشريع المغربي خصوصا منها :- مبدأ الحصانة - مبدأ العفو والتقادم - مبدأ السيادة القضائية، وهي خطوات من شأنها أن تعزز مكانة المملكة المغربية وتمنحها خدمات جهاز العدالة الجنائية الدولية والتي نحن أحوج إليها الآن وفي أمس الحاجة إلى خدماتها المنعكسة إيجابا على المواطنين المغربة المحتجزين في تندوف.وعلاوة على ذلك، فإن المملكة المغربية تكون أوفت بالتزاماتها المتمثلة في توقيعها على الاتفاقية المتعلقة بالمحكمة الجنائية الدولية في شتنبر سنة 2000.والأكثر من ذلك، هو أن المغرب وعد بالتزامه المضمن في ديباجة الدستور والمتعلق بالمواثيق والاتفاقيات ذات الصلة بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا.ومما تجدر الإشارة إليه أن تضمين الجرائم التي تعتبر من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية كان يستوجب ملائمة القوانين الوطنية مع مقتضيات هذه المواثيق، سيما الدستور والقانون الجنائي المغربي.وبالمصادقة المذكورة وبتضمين العقاب على الجرائم التي هي من اختصاص العدالة الجنائية الدولية فإن هذا المنحى يشرف المغرب وسمعته الدولية لاسيما لدى الأمم المتحدة.توصيات للتصديق على قانون المحكمة الجنائية الدوليةإن المغرب بموقفه هذا، فتح الباب للفاعلين في عدالتنا (قضاة، محامون، أساتذة مختصون) من المشاركة في تسيير وولوج المحكمة الجنائية الدولية وتفعيل مضامينها، سيما أن بعض الدول قد بادرت بالمصادقة منذ البداية على ميثاق المحكمة الجنائية ومنها الأردن التي ألقى عنها الأمير زيد بن رعد الحسين مندوب الأردن الدائم لدى الأمم المتحدة كلمة أكد فيها أهمية المحكمة الجنائية الدولية والمصادقة على ميثاقها، حيث جاء في مقتطف منها: "...محكمة دولية تحمل رؤية مشرفة للقرن الحادي والعشرين، وتتولى التحقيق في أخطر الجرائم مثار القلق الدولي وتلاحق مقترفيها، بل أصبحت المحكمة اليوم دعامة أساسية لنظام ناشئ للعدالة الجنائية الدولية".ومعلوم أن هيآت حقوقية وعلى رأسها هيأة الإنصاف والمصالحة أوصت في تقريرها النهائي بالتصديق على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهي التوصيات التي باركها جلالة الملك محمد السادس ودعا المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بإعمالها.ولا ننسى أن عدد الدول التي صادقت على قانون المحكمة الجنائية الدولية قد بلغ 120 دولة، وهي دول كانت لها ضغوطات قانونية ودستورية، ورغم ذلك صادقت على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.هذا، وإن تغاضينا عن إخلال المغرب بالتزامه المتحدث عنها سابقا، فإن التبريرات بعدم المصادقة لا تستند على أي أساس منطقي متين.ذلك، أن الحصانة التي تم التضرع بها تتعارض نصا وروحا مع مجموعة من المقتضيات القانونية والدستورية المغربية يتعين النظر إلى الغاية منها والتي تتمثل في أن المستفيد منها يجب أن يؤدي مهامه دون عوائق وليس استخدامها من أجل تيسير الإفلات من العقوبة على الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم التعذيب والحرب. ولهذا، فإن هذه الجرائم يلزم أن تخرج من نطاق الحصانة وبالتالي، فإنه ليس هناك أي تعارض بين القانون المغربي والمادة 27 من قانون المحكمة الجنائية الدولية.وفي كل الحالات، فإن الأعمال الجليلة والعظيمة التي يقوم بها جلالة الملك محمد السادس تؤكد قطعا أن جلالته يرعى الديمقراطية والعدل و"السهر على صيانة الاختيار الديمقراطي وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة". (الفصل 42 من الدستور الجديد).الانخراط الفعلي في ميثاق روما له إيجابيات عديدةأما فيما يخص موقف الحكومة السابق على أن المصادقة على قانون المحكمة الجنائية الدولية يمس بالسيادة الوطنية للمغرب، فإنه لا أساس له من الصحة، ذلك أن هناك مبدأ رئيسي في قانون المحكمة المذكورة يتعلق بمبدأ التكامل، الذي يرمي إلى أن المحكمة ستكون مكملة للمحاكم الجنائية الوطنية، ولا يمكن أن تحل محلها (المادة 17)، وإنما تضطلع بدورها حصريا في حالة عدم توفر الدولة على الرغبة في القيام بالتحقيق وبالمقاضاة أو القدرة على ذلك.وعليه، نستنتج الآن وبعد تصويت الشعب المغربي على الدستور الجديد ودخوله حيز التنفيذ، فإن المحكمة الجنائية الدولية لا يمكنها أن تغتصب السيادة الوطنية، بل على العكس من ذلك، فهذه المحكمة تساعد على تكريس سيادة الدولة بالسهر على حماية حقوق الإنسان والحريات العامة، والوقوف ضد الجرائم الخطيرة المتعلقة بجرائم الحرب والإبادة الجماعية....إلخ، وهذا ما يؤدي في الأخير إلى نتيجة تتمثل في مساهمة المحكمة وخلق سلطة عامة مرتكزة على الشرعية الشعبية والقانونية، ونحن نعرف أن تلك السلطة تعتبر عنصرا من عناصر السيادة الوطنية، وهذه السيادة لا تكتمل إلا إذا كانت مستندة على الشرعية والمشروعية، ومن هنا تتبين أهمية المحكمة الجنائية الدولية.وحتى إذا افترضنا جدلا، أن هناك مقتضيات نص عليها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تتعارض مع القوانين المغربية، فإن هناك آلية قانونية يمكن للحكومة المغربية استخدامها والتي تتمثل في تسجيل تحفظاتها على البنود التي ترى أن بها مساس بقوانينها الداخلية في انتظار ملاءمة هذه الأخيرة مع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهذا ما تم فعلا حينما صوت المغاربة على مقتضيات الفصل 23 من الدستور سالف الذكر.إننا نكتشف اليوم أن الانخراط الضمني أو الفعلي في ميثاق روما له إيجابيات عديدة تخدم مصالحنا الوطنية والتي يمكن إجمالها كالآتي :على المستوى السياسي: إن المغرب يمكن أن يستثمرها لصالحه ضد مجرمي بوليساريو، وذلك بمقاضاتهم في ملف الأسرى والمحتجزين المغاربة المعتقلين لديهم، وبذلك يمكن أن يكتشف العالم وبصفة رسمية أن بوليساريو منظمة إرهابية، يتعين محاربتها، وفي محاربتها ربح سياسي وقانوني لقضية الصحراء المغربية.على المستوى الحقوقي: ويتمثل ذلك في إعطاء المغرب مصداقية دولية بسبب تبنيه لكل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، سيما المتعلقة منها بالمصادقة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، هذه المصادقة التي تبرهن على عزم الدولة المغربية في ترسيخ حقوق وحريات الأفراد والجماعات والقطيعة مع الماضي. على المستوى الاقتصادي: ذلك أن مصادقة المغرب على ميثاق المحكمة، سيحفز المستثمرين الأجانب على الاستثمار داخل بلدنا، ثم إن ذلك سيجعل المؤسسات المالية الدولية تمنحنا مساعدات مالية جزاء لبلدنا على احترامه لحقوق الإنسان وترسيخه لدولة الحق والقانون.... وغير ذلك من الإيجابيات الأخرى. وختاما، لا يسعنا إلا أن نطالب الحكومة المغربية بمكاتبة "جمعية الدول الأعضاء" لإخبارها بقرار الشعب المغربي بملاءمة قوانينه مع ميثاق روما، وبالتالي المصادقة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية. محمد بن الماحي

المصادقة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تأثيرات اتفاقية 29 أبريل على قطاع التعليم العالي

تراجع عدد المغاربة المستفيدين من إعانات بإسبانيا

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات