لمسيّح: تفسير القرآن تضرر باستبعاد اللغات السامية

محمد لمسيّح خبير المخطوطات قال إن طمس التراث الإسلامي أعاق تطوره رغم نبوغ اسمه في الأوساط الأكاديمية الأوربية خاصة في مجال الاشتغال على مخطوطات القرآن الأولى، لدرجة أنه حظي بثقة العديد من كبريات الجامعات والمكتبات العالمية للإشراف على تحقيق مخطوطات نادرة لا تقدر بثمن للقرآن، إلا أن اسم الباحث المغربي محمد لمسيّح ظل بعيدا الأضواء، إلى أن انبثق اسمه من خلال البرنامج "صندوق الإسلام" الذي يقدمه الباحث المصري حامد عبد الصمد، بعد أن استضافه في العديد من حلقات البرنامج واستعان به لكشف مجموعة من الجوانب المسكوت عنها في التراث الإسلامي باعتباره واحدا من القلائل في العالم العربي، إن لم يكن هو الوحيد المختص منهم في هذا المجال، أي الاشتغال على مخطوطات القرآن الأولى. في هذا الحوار الذي خص به لمسيّح "الصباح" يكشف جوانب من مشروعه الأكاديمي ويميط اللثام عن العديد من القضايا المثيرة في تاريخ التراث الإسلامي. أجرى الحوار: عزيز المجدوب ـ بداية حدثنا عن سر توجهك إلى هذا التخصص الدقيق أي تحقيق مخطوطات القرآن الأولى وهل يمكن أن تقدم لمحة عن مسارك الأكاديمي، قبل أن تجد نفسك في غمرة هذا الانشغال البحثي بقضايا القرآن؟ ـ كانت البداية خلال أواخر الثمانينات بفاس حيث كنت أتابع دراستي بشعبة البيوليوجيا بكلية العلوم التابعة لجامعة محمد بنعبد الله. كانت الأجواء الطلابية والدراسية مشحونة سياسيا واجتماعيا والتطاحن بين الفصائل الطلابية على أشده، ولم يكن هناك مناخ مساعد على التحصيل في ظروف مناسبة، وهو ما جعلني أفكر في مغادرة المغرب بحثا عن آفاق أفضل، خاصة أن المستقبل كان يبدو لي حينها غامضا ومظلما ولا شيء يلوح في الأفق في إمكانية عثوري على عمل قار أساعد به أسرتي الفقيرة، إلى أن أتيحت لي فرصة الهجرة إلى أوربا وتحديدا إلى ألمانيا ثم فنلندا وأفضل ألا أخوض في تفاصيل أكثر بخصوص مقامي في أوربا وتنقلاتي فيه لاعتبارات تتعلق بسلامتي الشخصية، إذ وجدت نفسي أقتحم مجالا رغم أنه علمي إلا أنه ما زال يثير حساسية كبرى لدى الكثيرين تصل إلى حد التهديد بالقتل. ـ كيف جاء انتقالك من مجال البيولوجيا باعتباره تخصصا علميا إلى تحقيق المخطوطات والدراسات القرآنية؟ ـ مسألة تحقيق المخطوطات وتحليلها يظل تخصصا علميا بحتا، ولم أجد أنه بعيد تماما عن البيولوجيا، إذ توظف فيه تقنيات ووسائل علمية لتحديد عمر المخطوطات مثل استعمال "كربون 14"، وهي مسألة سنعود لها في ما بعد، لكن الحافز الأساسي الذي دفعني إلى هذا التوجه الأكاديمي هو اصطدامي بنمط الحياة في أوربا. تعرضت لما يشبه صدمة ثقافية وأنا المحمّل بالموروث الديني المحافظ الذي درجت عليه في البيئة التي نشأت فيها، ووجدت كيف أن المسألة تؤخذ بشكل مغاير، إذ أن كل شيء هناك قابل للتحليل والمناقشة علميا. لا يمكن أن تطرح فكرة أو موضوعا أو معتقدا، على الأقل في نقاشاتنا الطلابية، دون أن تستدل عليه أو تؤسس له، ووجدت نفسي وأنا أسأل عن الإسلام أتوفر بالكاد على رصيد يسير في العلوم الدينية لا يتجاوز ما كنا نتلقاه في المدرسة أو عن طريق الأسرة، لذا قررت إعادة التعرف على الإسلام بطريقة علمية جديدة، بدأتها بالتفرغ سنوات للاطلاع الحر على جل مصادره فطالعت التراث الإسلامي بشكل موسع شمل كتب التفاسير والسير وأسباب النزول وعلوم القرآن مختلف تفرعاتها حتى أتمكن من مواجهة الأسئلة الحارقة التي كانت تطرح علي بشأن الإسلام. ـ هل منحتك الدراسة إمكانية تبرير المسائل غير العقلانية التي يتضمنها الإسلام كغيره من باقي الديانات؟ ـ المسألة تتعلق بالنقاش العلمي، ولا مجال فيه لتبرير الأشياء غير العقلانية والتماس المشروعية لها، فالعلم لا يعترف بمثل هاته المسائل. لكن من أجل أن يكون النقاش مؤسسا على قاعدة علمية صلبة كان من الضروري أن أحيط بالموضوع الذي أناقشه من خلال الاطلاع على أسسه ومنطلقاته النظرية وأيضا مختلف القضايا التي انشغل بها علماء القرآن، باعتباره النص المؤسس في الإسلام، ومفسروه، إلى أن التقيت الدكتور كريستوف لوكسمبرغ، وهو اسم مستعار لعالم ألماني من أصول لبنانية، الذي وجهني إلى استثمار القاعدة المعرفية الدينية التي تشكلت لدي من أجل تعميق البحث في نقطتين أساسيتين الأولى هي "القراءات المختلفة للقرآن" والثانية هي مسألة "رسم المصحف " وهكذا وجدت نفسي أسلك مجموعة من التخصصات العلمية التي ستساعدني في مسار البحث وهي علم المخطوطات codicologie وهو المبحث الذي يختص بدراسة الشكل المادي للكتاب باعتباره تراثا وأثرا ماديا عن طريق العناصر التي تطور منها المخطوط من حيث حوامل الكتابة والمواد المستخدمة فيه، ثم علم الخطاطة paleographie أي العلم الذي يعنى بدراسة الخطوط القديمة ومحاولة فك رموزها وقراءة المخطوطات ورصد تطور الخط عبر العصور، ثم انتقلت إلى دراسة علم فقه اللغة المقارن philologie وهو أحد فروع علم اللغة التاريخي الذي يركز على مقارنة اللغات لتحديد الصلة التاريخية بينها. مغامرة لوكسمبرغ ـ بهذا المعنى فإن كريستوف لوكسمبرغ حاول من خلالك أن يكمل مسارا علميا بدأ من قبل وتوقف عن نقط معينة تتطلب مزيدا من البحث. لكن ما هي الملامح العامة لمشروع لوكسمبرغ الذي ارتبطت به أكاديميا وكنت أحد مساعديه؟ ـ اشتهر لوكسمبرغ بكتابه "قراءة آرامية سريانية للقرآن" وقد نال هذا الكتاب من التقريض ما لم ينله غيره من العديد من المفكرين والباحثين، كمجموعة معهد إنارة الألماني Inârah- Institut، ومن جامعة القديس توماس اللاهوتي روبرت فينيكس وزميلته كورنيليا هورن عن الدراسات السريانية، وكذلك الكسندر ستيل في كتابه الذي نشر في "نيويورك تايمز" سنة 2002، وهو بعنوان Radical New Views of Islam and the Origins of the Koran، وغيرها. قام لوكسمبرغ بقراءة القرآن بطريقة مزدوجة تضع بعين الاعتبار اللغة السريانية -الآرامية بحكم أنها كانت اللغة المنتشرة أثناء ظهور الإسلام، وبفضل هذا الإجراء، تمكن من اكتشاف الجذور الآرامية في اللغة القرآنية، وهنا توقف عند مدى تأثير اللغة الآرامية على القرآن إذ الكثير من المفردات التي تقدم على أنها "عربية فصحى" تنتمي في الأصل إلى اللغة الآرامية . كما أنّ المفسرين كانوا دائما يتخبطون في معاني القرآن ، فمرة لا يجدون المعنى للكلمة ومرة أخرى لا تتماشى الكلمة مع سياق الجملة ، ومرة أخرى كلمة غريبة لا يعرفون لها معنى، كما وجدوا أنفسهم عاجزين عن تفسير الأحرف المتقطعة في أوائل السور والتي لم تفك رموزها ولا معانيها، وكلما تساءل الشخص عن معناها يقولون له "حروف إعجاز وليس لها معنى نعلمه نحن البشر " . إن هذا التخبط في الفهم يدل على أن هناك شيئا مفقودا في الحلقات التاريخية ولم يصلنا كما هو بل وصلنا ناقصا لهذا لم تٌفك رموزه وآلياته. الانتحاريون سيجدون العنب بدل العذارى من أشهرالأمثلة التي يسوقها لوكسمبرغ مثلا جملة "حور عين" والتي تعني حسب رأيه: "عنب أبيض" لأن كلمة "حور" جمع حوراء أي بيضاء، أما "عين" فالمقصود المعنى الرمزي وليس اللفظي لأن بياض العين كناية عن العمى، كما جاء في سورة يوسف الآية 84 "وآبيضت عيناه" أما المعنى الرمزي فكناية عن حبات اللؤلؤ ، أو حبات الكريسطال، وعين الشيء أي جوهره أو النفيس منه، والأعيان هم الأشخاص المرموقون؛ فوصف "حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون" في سورة الواقعة، يصب في نفس المعنى، وإذا رجعنا لعبارة "حور عين" في اللغة الآرامية بحسب لوكسمبرغ نجدها تعني العنب الأبيض، والعنب الأبيض هو رمز الحياة الأبدية أي الجنة، والعرب كانوا يسمون العنب الأبيض: البيضة، حيث جاء في لسان العرب لابن منظور ص 398:"والبيضة عنب بالطائف أبيض عظيم الحبّ"، ونجده في النص القرآني بالإفراد كما جاء في سورة الإسراء 91:"وعنب" وبالجمع كما جاء في سورة البقرة 266، الكهف 32، المؤمنون 19، يس: 34، وأخيرًا إشارة واضحة للجنة في سورة النبإ 31- 34: "إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا. حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا. وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا.وَكَأْسًا دِهَاقًا"، فكواعب كناية عن الأعناب لأنها مدورة والكعب معناه الشيء المدور الناضج، وليس معناها النهود، وأترابًا معناها عند السريان "شحم الرمان أو غيره من الأثمار" قاموس منا الكلداني العربي ص 848 العمود ب. منها مدينة يثرب معناها خصب أي بها ثمار، و في الآية 34 من سورة النبإ معناها مملوءة وناضجة، وهو بالضبط الوصف الذي يُطلق على عنب الطائف كما جاء في لسان العرب:"عظيم الحَبّ " والكأس هنا إشارة لخمرة العنب، وهو رمزي كذلك يرمز للعشاء الرباني عند المسيحيين بحسب الإنجيل لوقا 22: 17- 18. بقيت كلمة "زوجناهم" في سورة الدخان 54:"كذلك زوجناهم بحور عين" .أي روحناهم بمعنى أراح يُريح؛ فالنص القرآني كان بدون تنقيط في بداية التدوين، وأن التعبير المشار إليه "حور عين " في الحقيقة هو "العنب الأبيض"فالانتحاريون الذين يفجرون أنفسهم من أجل حور العين قد لا يجدون إلا "العنب الأبيض"للترويح عنهم. مشكل تعدد القراءات ـ وماذا عن مسألة القراءات المختلفة وعلاقتها بدراسة مخطوطات القرآن؟ ـ من بين المسائل التي يفيدنا فيها تحليل مخطوطات القرآن مسألة اختلاف بعض المفردات بين القراءات المختلفة، وأعطيك مثالا على ذلك الآية 19 في سورة الزخرف التي تقول "وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُالرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا" نجد كلمة "عىد" (هكذا كتبت بدون تنقيط) برواية حفص "عباد"، بينما في ورش نجد "عند"، وهذا الاختلاف له علاقة بالطريقة التي كتبت بها العبارة لأول مرة على المخطوط الأصلي، وبتطور الخط الذي كان خاليا من التنقيط والشكل وحروف المد وهي المسائل التي أضيفت في ما بعد، فحرف الباء الذي لم يكن منقوطا يمكن أن يقرأ نونا أو تاء أو ياء، وهناك من النساخ من وضع النقطة فوق، وآخر وضعها تحت وهو ما يجعل المعنى يختلف بشكل كلي في آيات أخرى عديدة، فتضافر علوم المخطوطات والخطاطة والفيلولوجيا تتيح لنا إمكانية إعادة النظر في مسألة اختلاف القراءات من زاوية أخرى ورصد التغييرات والتعديلات التي طرأت على المفردات القرآنية وهي المسألة التي تثير جدلا كبيرا يحول دون التعامل بشكل علمي وموضوعي مع النص القرآني وهي المسألة التي ينبغي تجاوزها لكي يكتسب هذا النص صورة أخرى وتتضح العديد من المعاني الغامضة فيه. الأصل الأول للغة القرآن ـ هناك قضية أخرى مثارة بشأن الحروف التي كتب بها القرآن لأول مرة. ما الذي يمكن القول بشأن هذا؟ ـ خلال ظهور القرآن في القرن السابع الميلادي كانت اللغة السائدة في الجزيرة العربية والمناطق المجاورة لها هي السريانية التي كانت بمثابة لغة حوار وثقافة، ولعب التبشير المسيحي دورا كبيرا في انتشارها، لأن الأناجيل كانت تكتب بها كما كان يزاول بها الوعظ والإرشاد، وكان للسريان دراية كبيرة بالكتابة والخط، في الوقت الذي كانت لغة العرب شفهية أكثر منها مكتوبة، كما أن الخط الحجازي، الذي يعد أقدم خط عربي والمتحدر من الخط النبطي، وتشترك هذه الخطوط جميعها في أصلها الآرامي، كان خاليا من التنقيط ولم تكن حروفه مهيأة لتقبل نص من حجم القرآن، لذا كان من المخاطرة الإقدام على كتابته بهذا الخط، وهي المسألة التي أشار إليها لوكسمبرغ إذ اعتبر أن القرآن كتب في البداية بأحرف سريانية لكن بنطق عربي، وهو ما كان يسمى ب"الخط الكرشوني"، وكانت المسألة أشبه بما حدث عندما ظهرت الهواتف المحمولة التي لم تكن تشتمل في البداية على الحروف العربية فكان مستعملوها يكتبون الحروف العربية أو الدارجة بحروف لاتينية، الشيء نفسه حدث مع القرآن. كما أنه خلال هذه الفترة ليس هناك أي أثر للأدب العربي، إذ أن أول نموذج للأدب العربي بالمعنى الكامل للعبارة وجد تقريبا بعد قرنين من ظهور الإسلام ، ألا وهو "السيرة النبوية" لابن هشام الذي توفي في 828 م والذي هو تلخيص لكتاب المغازي الذي كتبه ابن اسحاق في بداية العصر العباسي، وهذا الكتاب مفقود، كما أن أول معجم للخليل بن أحمد الفراهيدي الذي توفي سنة 786م ، "العين" هو أول معجم عربي يؤلف في اللغة العربية، وسيبويه والذي توفي سنة 796 م ، كان هو من وضع قواعد اللغة العربية، وإذا لم تكن اللغة العربية في عهد النبي محمد لها قواعد دقيقة ، إذا كيف كُتب القرآن بلغة عربية غير موجودة أصلا ؟ أو كان لسانا عربيًا بمعنى لهجة من لهجات العرب إذا لابد أن يكون الأصل الأول للغة القرآن آرامي وسرياني بما أنها كانت اللغة المنتشرة أثناء ظهور الإسلام. غموض التفاسير ـ بما أن الأمر كذلك هل يمكن تفسير الاختلافات في تفسير القرآن بجهل المفسرين باللغات السامية القديمة منها الآرامية ؟ ـ جهل الكثير من المفسرين بهذه اللغات كان له أثر سلبي في الغموض الذي يعتري العديد من الآيات في القرآن وتضرر التفسير بسبب هذا المعطى، إذ أخذوا عبارة "بلسان عربي مبين" واعتبروا أنفسهم أصحاب هذا اللسان وأنهم في غير حاجة إلى الآخرين، ونسوا أو تناسوا أن هذا اللسان العربي أصلا متحدر من الآرامية وأنه لضبط المتن القرآني من المفروض أن يلم المفسر ببقية اللغات السامية بما فيها السريانية والعبرية والمندائية وغيرها. ـ هل يمكن القول إن عدم الاهتمام بالتراث المخطوط من قبل المسلمين كان له دور سلبي في اندثار جزء كبير من هذا التراث كما أنه أعاق تقدم البحوث في اتجاه فهم التراث وتمثله على نحو أصح؟ ـ نعم بطبيعة الحال، فهذا الاهتمام في العالم الإسلامي بدأه المستشرقون ابتداء من القرن السادس عشر، فقد اهتموا بالمخطوطات لأنها تحمل أسرار الماضي، في الوقت الذي نجد فيه نفورا عجيبا للمسلمين من هاته المسألة بل كان هناك اجتهاد مضاد في سبيل طمس كل المعالم التي تمت بصلة إلى الماضي، وما زالت هناك فترات مظلمة في التاريخ الإسلامي لا نملك عنها شهادات ولا آثار تدل عليها، فمثلا لا توجد لدينا أية وثيقة إسلامية بالمعنى الإسلامي تعود إلى مرحلة ما قبل أبي جعفر المنصور، المؤسس الفعلي للدولة العباسية، سواء كانت مخطوطة تتحدث عن السيرة النبوية أو عن تفسير القرآن أو الأحاديث أو غيرها، أي أن أزيد من 125 سنة ما زال يلفها الغموض وهو ما يعيق تطور هذا التراث وأساليب الاشتغال عليه.

لمسيّح: تفسير القرآن تضرر باستبعاد اللغات السامية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الشقوري أمام القضاء العادي

البراءة لشرطيين متهمين بالقتل

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات