سعيد، لم يعش حياة سعيدة، جذبه الكحول الحارق في غفلة منه بسبب ضيق ذات اليد، وأبعده عن معيشه اليومي، إذ كان يوميا في حالة هذيان وسكر طافح، يتغنى بالمعلقات السبع التي حفظها عن ظهر قلب، ويستميل بها قلوب الحانين عليه، الذين يرمونه ببعض الدراهم ولو أنهم يعلمون مصيرها وطريقة إنفاقها.كان موظفا مكلفا بالصندوق في إحدى المؤسسات العمومية بعمالة عين الشق الحي الحسني سابقا، وكان شابا أنيقا متزوجا له ابنان، قبل أن تتغير حياته رأسا على عقب.فجأة أصبح يرافق أصدقاء من طينة أخرى، غير التي تربى فيها وترعرع في دروبها، شباب يستهويهم "النشاط" ويقضون ساعات في الملاهي الليلية، وأموالهم لا تنضب. إذ في كل مناسبة يجدون ما ينفقونه في سبيل المتعة والاستمتاع.ازداد شغفه بتلك الأماكن التي اكتشفها متأخرا، وباتت المشاكل والخصومات سيدة الموقف في منزله الأسري، الذي يقطنه على سبيل الكراء.فجأة وبدون مقدمات، قدم رجال الشرطة إلى المنزل في ساعة مبكرة من أحد أيام الصيف، واقتادوا سعيد وهو مصفد اليدين، قبل أن يذيع خبر الإيقاف وسببه بين الناس والجيران.اختلاس أموال عمومية، كانت هي التهمة التي اقترفها، فمن كثرة حاجته إلى المال، امتدت يده إلى الصندوق الموضوع تحت عهدته، وشرع يأخذ منه ما ينفقه في لياليه الحمراء. لم يجد تبريرا لفعلته، فزج به في السجن قبل أن يدان بسنوات، بعد حكم جرده من وظيفته وأعاده إلى بطالته.أسرته الصغيرة لم تقو على تحمل المسؤولية، فمعيل الأسرة في السجن لسنوات طويلة، وصاحب المنزل لم يصبر إلا شهورا قليلة قبل أن يطلب إخلاء المنزل بسب عدم أداء السومة الشهرية.انتقلت الأسرة إلى البادية للعيش مع والد الأم، وقضى سعيد أيامه غير سعيد في الزنزانة التي خرج منها معتوها، لا يتذكر إلا أبياتا من الشعر الجاهلي ينشدها أمام العموم، ويبيت داخل بناية مهجورة.ليله كنهاره، وقنينة الكحول الحارق، لا تفارقه، فهي مسكرته بعد أن عجز عن إيجاد مدخول لاقتناء القنينات الروحية، التي دفعته إلى الاختلاس وزجت به في السجن.لم يشاهد يوما وهو في حالة عادية، كان دائم الثمالة والهيجان، يقف بقامته الطويلة بعيدا عن كراسي المقاهي وينشد الأبيات التي يحفظها عن ظهر قلب لطرفة بن العبد أو الحارث ابن حلزة أو زهير بن أبي سلمى، وكان ينجح في استمالة رجال التعليم الذين يجلسون بتلك المقاهي، فيقدموا له دريهمات تساعده على اقتناء قنينات جديدة من الكحول وبعضا من الخبز.في صبيحة أحد الأيام، اكتشف أطفال جثة سعيد داخل بناية مهجورة، وانتشر الخبر، لتأتي سيارة الأمن ويتم تأكيد الطب الشرعي وفاة سعيد نتيجة مضاعفات صحية، نتيجة الإفراط في شرب الكحول الحارق، لينقل إلى المقبرة.المصطفى صفر