كناوة والصويرة … الوجه والقفا

انطوت أخيرا صفحة الدورة 26 لمهرجان «كناوة موسيقى العالم» التي احتضنتها الصويرة على مدار ثلاثة أيام. التظاهرة التي غيرت وجه المدينة طيلة أزيد من ربع قرن، وجعلتها تقفز إلى واجهة الأحداث سنويا، ما زال يرافقها جدل وتساؤل كبيران: ماذا استفادت المدينة من هذا المهرجان؟ وهل تمكنت من التطور بما يوازي حجم تزايد جمهوره؟ هاته الأسئلة وغيرها تحاول «الصباح» الإجابة عنها في التحقيق التالي. إنجاز: عزيز المجدوب ـ تصوير: فدوى الناصر أشعة الشمس تطل من الأفق، وتتسرب من خلف الهضاب والمجال الغابوي المختلط بالكثبان الرملية المحيطة بالصويرة من شرقها، لترخي بأنوارها على المدينة التي كانت لتوها تستعيد بصمت أجواء ليلة السبت/ الأحد آخر أيام مهرجان كناوة. يخيل للمرء وهو يهم بمغادرة الصويرة صبيحة الأحد، وكأن صدى أنغام المهرجان وصيحات المعلمين الكناويين ممزوجة بآهات فناني العالم، ما زال يتردد في أرجاء المدينة وتطوف ذبذباته وسط مجالها العتيق وبين أسوارها وأزقتها المتعرجة. صمت مطبق لا تمزقه سوى أصوات عجلات الحقائب المجرورة على إسفلت المدينة، أو المحمولة على عربات الحمالين، في اتجاه مختلف وسائل النقل، التي بدأت تقلّ جزءا من زوار المهرجان إلى وجهاتهم، وما زال آخرون يغطون في النوم إلى أن ينتصف النهار أو يقضي الله أمرا كان مفعولا. بالحديقة الخلفية لبرج باب مراكش، حيث ما زالت معدات الحفر وآلياته مركونة، ضمن ورش لم ينته منذ سنوات، اختارت فئات عريضة من الشباب المبيت في العراء مختبئين خلف سياجات الورش، أو بين حفره، فيما اختار آخرون الارتماء على رمال الشاطئ، مستسلمين لضباب الصباح أو قطرات الندى التي تبللهم، والمحظوظون منهم اختاروا "كسر" النعاس بسويعات قليلة داخل سيارتهم، قبل أن يشدوا الرحال. هدوء بعد صخب هكذا كانت تبدو الصويرة وهي تستعيد هدوءها، بعد ثلاثة أيام صاخبة، انسلخت فيها عن طبيعتها واستقبلت ما يزيد عن 300 ألف زائر، حسب الأرقام الصادرة عن إدارة المهرجان، أي ما يفوق ضعف سكانها ثلاث مرات، لتتحول إلى مرجل يغلي بالأفواج البشرية التي حجت إليها من كل صوب وحدب، في موعد سنوي يتجدد منذ أزيد من ربع قرن، وأعداد زواره في ارتفاع متزايد، دون أن يمر هذا العبور بدون مشاكل واختلالات بحكم أن طاقة المدينة الاستيعابية لا تتحمل كل هذا. عند هذه النقطة بالذات يظهر الوجه الآخر للصويرة، المدينة التي راهن مسؤولوها ونخبها على جعلها مدينة تعيش من السياحة والاعتماد على التظاهرات الفنية والثقافية والمهرجانات، لضمان انتعاش دائم لهذا القطاع، لكن في كل مرة، خاصة مع مهرجان كناوة باعتباره أكبر تظاهرة، تجد المدينة نفسها أمام مشاكل وتحديات تجدد نفسها وتتطور دون أن تواكبها حركية تنموية توازي هذا التحول. في هذا السياق يقول رضوان شيباني، فاعل جمعوي وحقوقي وأحد أبناء المدينة، إن مهرجان كناوة، وغيره من المهرجانات بالصويرة، لا تمر دون أن تكون لها تبعات وآثار سلبية، بحكم طبيعة المدينة التي ما زالت غير مهيأة لاستقبال تظاهرات ضخمة من هذا الحجم، وهو ما يجب التفكير فيه بشكل جماعي بين كافة الأطراف المتدخلة من أجل إيجاد حلول له. ويضيف رئيس الفرع المحلي للمرصد المغربي للدفاع عن حقوق الإنسان في حديث مع "الصباح"، كل دورات المهرجان لا تمر دون أن تخلف مشاكل بيئية، على رأسها الأزبال التي تتراكم بعد مغادرة زوار المهرجان الذين صاروا يعدون بمئات الآلاف، إضافة إلى المشكل المزمن لغياب المراحيض العمومية الذي تعانيه المدينة. ويستعرض شيباني مجموعة من الاختلالات تتعلق بالضغط الكبير الذي يكون على كافة القطاعات منها الأمن، إذ تجد أجهزته صعوبة كبرى في تدبير حالات الانفلات، بسبب وفود أعداد كبيرة من الجانحين على المدينة، كما أن قطاع الصحة ومستعجلات المستشفى الإقليمي تجد نفسها عاجزة عن تدبير الحالات الوافدة عليها. ويضيف المتحدث نفسه أن الانتعاشة التي تعرفها المدينة خلال المهرجان تنصب فقط على البحث عن فضاءات للمبيت والأكل، دون أن ينتقل الأمر إلى بقية القطاعات مثل الصناعة التقليدية، والمزارات السياحية، لأن الفئات العريضة من جمهور المهرجان لها طقوسها الخاصة واحتياجات محددة، لا تتطابق بالضرورة مع احتياجات الزوار المعتادين للمدينة طيلة بقية أيام السنة. واقترح شيباني في المقابل الاستفادة من الزخم والإشعاع الذي يحققه المهرجان من أجل معالجة المشاكل، بدل التسبب فيها، منها الانفتاح أكثر على شباب المدينة، وإدماجهم تدريجيا في المسائل التقنية الخاصة بمنصات العرض من ديكور وتصميم وإضاءة وصوت، بما يضمن تكافؤ الفرص بينهم وبين نظرائهم الذين تستعين بهم إدارة المهرجان من خارج المدينة والإقليم. كما دعا الفاعل الجمعوي والحقوقي إلى التفكير في صيغ عملية لحل مشكل زوار المهرجان من الشباب الذي يجدون أنفسهم مدفوعين بشغفهم بالموسيقى، عرضة للمبيت في العراء، مثل المآوي المؤقتة، حتى يتم تفادي تلك المشاهد التي تكرر كل سنة وباتت جزءا من الصور التي تخدش صورة المهرجان والمدينة. مدينة منذورة للانفتاح في المقابل يتوقف عبد الرحيم البرطيع، مدير عام لشركة التنمية المحلية "الصويرة ثقافة وفنون" عند المراحل التي مرت منها الصويرة، إلى أن وجدت نفسها مدينة تعيش على الثقافة والفنون والمهرجانات، معتبرا أن هذا الأمر طبيعي أن تكون له تبعات، بحكم أن المدينة تستقبل أضعاف سكانها في التظاهرات التي تنظمها، لكنها تتطور بشكل تدريجي بما يضمن تدبير هذا الوضع. ويضيف البرطيع، في حديث مع "الصباح"، أن الصويرة ومنذ إعادة تأسيسها، في النصف الثاني من القرن 18 على يد السلطان محمد بن عبد الله، ظلت مدينة منذورة للانفتاح على الآخر وكونت لنفسها خصوصية ثقافية وحضارية وعرقية واقتصادية ودبلوماسية، قبل أن يتراجع كل هذا على مدى عقود طويلة ابتداء من ستينات القرن الماضي. ويضيف المدير الجهوي السابق لوزارة الثقافة أن الصويرة عاشت تحولات سلبية توقفت معها الحياة فيها، لأسباب كثيرة منها تراجع دور مينائها وكذلك فقدانها نسبة كبيرة من يهودها الذي كانوا ينعشون اقتصادها، إضافة إلى تراجع العديد من الأنشطة الحرفية، فضلا عن التهميش والإهمال الذي عاشته لعقود. وتابع المتحدث نفسه أن التفكير في إنعاش المدينة واستعادتها لدورها الحيوي كان مسيطرا على تفكير العديد من أبنائها ونخبها، خاصة منذ مطلع الثمانينات، حيث بدأ تنظيم بعض التظاهرات الثقافية المؤقتة والرائدة منها مهرجان "الموسيقى أولا"، وكان السؤال الذي يؤطر المتحركين في هذا الصدد هو كيف نخرج من الركود الذي تعيشه المدينة، وماذا يمكن أن نفعل انطلاقا من تاريخها ورأسمالها الرمزي والبشري؟ واستحضر البرطيع الحركية الثقافية التي عاشتها المدينة أواسط التسعينات، وأسفرت عن نقاشات داخل أوساط السكان والمجتمع المدني والسلطة، بمشاركة نخب من أبنائها أو المتيمين بها مثل إدمون عمران المالح وجورج لاباصاد والمستشار الملكي أندري أزولاي، مهدت تدريجيا لميلاد فكرة المهرجان الذي انطلق منذ نهاية التسعينات، لتنطلق بعده مجموعة من التظاهرات التي تتوزع المدينة طيلة أيام السنة منها مهرجان "الأندلسيات الأطلسية" و"ليزاليزي" وغيرهما. نائلة التازي: الأرقام تتحدث عن نفسها في هذا الحوار تجيب نائلة التازي منتجة مهرجان "كناوة وموسيقى العالم" عن مجموعة من أسئلة "الصباح" تتعلق بفلسفة المهرجان، وأثره على الصويرة من الناحية الاقتصادية والثقافية والإشعاعية، إضافة إلى الإكراهات التي تواجهه. في ما يلي نصه: إلى أي حد استفادت مدينة الصويرة من مهرجان كناوة، وما هي جوانب هذه الفوائد؟ > كان لمهرجان كناوة والموسيقى العالمية، الذي انطلق في يونيو 1998، تأثيرٌ كبير على المدينة. فقد ساهم بشكلٍ كبير في تحويل الصويرة من مدينة ساحلية هادئة نسبيًا إلى عاصمة ثقافية وموسيقية عالمية الشهرة، تمامًا كما فعل مهرجان كان السينمائي، أو مهرجان أفينيون المسرحي. وإذا دققنا النظر، سنجد أن هذه المدن الثلاث متشابهة في الحجم والسكان. وأظهرت دراسة أجريت العام الماضي أن كل "أورو" يستثمر في مهرجان "كان" السينمائي يدرّ 20 أورو للمدينة. وفي عام 2014، أظهرت دراسة أخرى أن كل درهم يستثمر في مهرجان كناوة يدرّ 17 أورو للمدينة. إنها الأرقام تتحدث عن نفسها. لقد ولّد مهرجان كناوة زخما في المدينة، وحقق فوائد مباشرة وغير مباشرة، مستمرة ومستدامة. يُقدّم مهرجان كناوة، كل عام، ترويجًا استثنائيًا للمدينة، ويُمدّد الموسم السياحي، ويُحفّز الاقتصاد المحلي، ويُوفّر فرص عمل، ويُعزّز التراث الثقافي، والهوية المحلية. إنه مثال على تظاهرة ثقافية ناجحة تُسهم في التنمية الجهوية. وبناءً على هذا الزخم، أُقيمت فعاليات أخرى في المدينة، لكن مهرجان كناوة يبقى بلا شكّ الحدث الأبرز، ومحركًا للتنمية المستدامة، جامعًا بين الثقافة والاقتصاد والسياحة والتماسك الاجتماعي والتأثير الدولي. نجاحه يجعله نموذجًا يُحتذى به في دمج التراث غير المادي في الديناميكيات المحلية. هل يُمكن القول إن المهرجان نجح في بناء نموذج اقتصادي قائم بذاته؟ > أصبح مهرجان كناوة والموسيقى العالمية حدثًا مؤسسيا في المشهد الثقافي المغربي. ورائدا في مجاله، بنى نموذجًا متينًا، تعزّزه رؤية واحترافية مؤسسيه، بدعم من شركاء ملتزمين. يقوم هذا النموذج على رؤية وإدارة مستقلتين، مدعومتين بإدارة مهنية. فمنذ انطلاقه، أنتجته ودعمته شركة A3 Communication، وهي شركة متخصصة في عالم الثقافة والفعاليات، وبفضل مثابرة فرق العمل، والعلاقات المبنية على الثقة مع "شعب" كناوة والجهات المعنية من القطاعين العام والخاص، استطاع المهرجان أن يدوم وينمو. يُمثل المهرجان، المجاني في جوهره، مثالاً نادراً على الشمولية وسهولة الوصول. لقد مكن الالتزام الدائم، والخبرة المسخرة، بالإضافة إلى الاستثمارات البشرية والفنية والتقنية والمالية، المهرجان من التطور على مدى أكثر من ربع قرن ليصبح حدثا مغربيا أصيلا، معترفا به دوليا. ما تعليقكم بخصوص الآراء التي تقول إن الصويرة تحولت إلى مجرد وعاء حاضن للمهرجان وصارت تضيق به وأن طاقتها الاستيعابية لم تعد تتحمل زواره ما ينجم عن ذلك الكثير من المشاكل؟ > صحيح أن نجاح مهرجان كناوة يؤدي إلى تدفق كبير للزوار إلى الصويرة، التي تُعاني طاقتها الاستيعابية من ضغط كبير. لكن الأهم من ذلك كله، لا بد من الاعتراف بأن هذه الفعاليات تُمثل فرصًا استثنائية للمدينة وسكانها، ومصادر دخل تنتظرها غالبية السكان والجهات المعنية المحلية بفارغ الصبر. لقد ساهم المهرجان في إحياء الصويرة والترويج لها وإبرازها على الصعيدين الوطني والدولي. كما ساهم في إعادة ربط المدينة بهويتها العالمية من خلال تحفيز اقتصادها وسياحتها وحياتها الثقافية. إن التحديات اللوجستية حقيقية، وتعكس فعالية حيوية وشعبية وفي متناول الجميع، مما يتطلب اليوم مزيدًا من التنسيق بين المنظمين والبلدية والجهات المعنية بالسياحة، لدعم هذه الديناميكية بردود فعل مستدامة، تتماشى مع طموحات ملكنا ووطننا ومواطنينا.

كناوة والصويرة … الوجه والقفا

إيجابيات المهرجان وسلبياته تحت المجهر بعد أزيد من ربع قرن على ميلاده

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أب متهـم باغتصـاب ابنتـه

التحقيق في ملف النصب باسم شركات وهمية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات