الشعير المدعم … حقل فساد

دخل المغرب منذ 2019 في دوامة من سنوات الجفاف، وقلة التساقطات المطرية، استطاعت أن تحدث رجة اجتماعية في البوادي والمناطق الزراعية والفلاحية، وانتبهت الدولة لضرورة التخفيف من آثار الظاهرة. وبأمر من الملك محمد السادس، ترأس رئيس الحكومة اجتماعا، في فبراير من 2022، بحضور وزراء الداخلية والفلاحة والمالية وثلة من المسؤولين الكبار، من أجل اتخاذ تدابير استعجالية، وتبني برنامج قيمة شقه الأول بلغت 3 ملايير درهم، منها 2.1 مليار درهم مخصصة لتوزيع 7 ملايين قنطار من الشعير المدعم لفائدة مربي الماشية، و400 ألف طن من الأعلاف المركبة. إنجاز: عصام الناصيري في الوهلة الأولى يظهر مجهود كبير تقوم به الحكومة وبتعليمات ملكية، لإنقاذ قطعان الماشية ومساعدة صغار الفلاحين على تزويد السوق باللحوم، وبالتالي الحفاظ على أسعار معقولة، لكن الجميع عاش ويعيش أزمة لحوم غير مسبوقة، فلماذا لم تؤثر ملايير الدعم على الإنتاج؟، وهل هناك من استولى على دعم الدولة؟ وما الخروقات القانونية التي شابت هذا البرنامج؟ وكيف تعيش في حقل الشعير المدعم خلية فساد تغتني على حساب الدولة والمواطن؟ فلاح رغما عنك! صباح ذات يوم من 2023، يستيقظ محمد (اسم مستعار) على رنين مكالمة هاتفية من صندوق الضمان الاجتماعي. استغرب الشاب ذو الثلاثة عقود، من مضمون المكالمة الصادم، إذ أخبره الموظف بضرورة التعجيل بتسوية وضعيته لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وأداء 3700 درهم من المتأخرات المتراكمة بذمته. افترض محمد في البداية أن يكون الأمر مجرد خطأ تقني، وأن الصندوق تشابهت عليه أرقام الهواتف، لكن بعد مدة أخذ الأمر على محمل الجد، وقصد إدارة الضمان الاجتماعي، ليستفسر حول الأمر. عاش محمد صدمة العمر، حينما أخبره موظفو الصندوق أن الأمر لا يتعلق بخطأ، بل عليه الإسراع بأداء متأخرات شهور من انخراطات التغطية الصحية، ويفترض أنه فلاح و"كساب"، يملك عددا من الهكتارات البورية وعددا من الأبقار وقطيع الأغنام. انتفض الشاب في وجه الموظف، وثار "كيف جعلتموني فلاحا رغم عني"، وأضاف أنه لا يمارس أي نشاط فلاحي، وأنه لم يسكن في إقليم أزيلال، وأنه انتقل للعيش في أكادير منذ سنوات، فكانت صدمة الموظف كبيرة بدوره، وأخبره بكيفية إسقاط هذه الصفة التي تلاحقه في السجلات الرسمية، وهنا ستبدأ رحلة محمد لإسقاط صفة فلاح، وهي اللبنة الأولى في انهيار منظومة فساد تنصب على الدولة، من جهة والفلاح الصغير من جهة أخرى. تزييف المعطيات بعد أسابيع من صدمة محمد اجتمع بعدد من الضحايا الآخرين الذين توصلوا بالمكالمات نفسها، واكتشفوا أن هناك من أقحمهم واستخدم معطياتهم الشخصية من أجل الحصول على أطنان من الشعير المدعم، وورطهم مع مؤسسات الدولة، بل غلط أيضا القطاعات الحكومية، في ما يتعلق بعدد "الكسابة" أو القطيع، أو الأراضي المستغلة. من أجل الحصول على الشعير المدعم هناك بروتوكول يسبق التوزيع، إذ تتم العملية تحت إشراف السلطات المحلية، ومكتب الاستشارة الفلاحية، ويكون هناك رئيس لائحة وعدد المستفيدين، الذين يدلون بمعطياتهم الشخصية، سواء تعلق الأمر برقم البطاقة الوطنية أو مقر السكن أو عدد من الأكياس المطلوبة، إضافة إلى عدد الأراضي المسقية والبورية التي يتوفرون عليها، وعدد رؤوس الأغنام والأبقار. يملأ الراغبون في الاستفادة تلك اللوائح وتقدم لمكتب الاستشارة الفلاحية، وبعد مدة معينة يتم إرسال شاحنة كبيرة محملة بالشعير، ويتسلم رئيس اللائحة والسلطات المحلية الشحنة، ويوزعونها على المستفيدين. ويتعلق الأمر بأكياس من الشعير وزن الواحدة 80 كيلوغراما، ويصل سعرها إلى 172 درهما، إذ يباع للفلاح في هذا الإطار الكيلوغرام الواحد بدرهمين، علما أنه أحيانا يصل في السوق العادي إلى 5 دراهم. هناك فئتان من الأشخاص الذين تعرضوا للنصب في ملف رائج أمام القضاء. الأولى تتعلق بأفراد لم يستفيدوا من أي دعم، وسجلوا في اللائحة على أنهم استفادوا من 10 أكياس من فئة 80 كيلوغراما، أو 9 أكياس، وهناك فئة ثانية استفادت من كيس واحد أو كيسين، لكن سجل عليهم حصولهم على 10 أكياس. واتجه حوالي 17 شخصا إلى القضاء، لمتابعة المسؤولين عن هذه الفضيحة، بمن فيهم رؤساء لوائح الاستفادة وعون سلطة برتبة مقدم، ومسار المحاكمة مستمر، في انتظار أن يتم توسيع قاعدة المستمع إليهم، خاصة في ما يتعلق بالمشرفين من سلطات محلية وكذا موظفي مكتب الاستشارة الفلاحية بدمنات، الذي لم يتأكد من صحة المعلومات الواردة في اللوائح. ويطرح السؤال حول من أين حصل رؤساء اللوائح وباقي المتهمين على المعلومات الدقيقة للمستفيدين الوهميين؟ خاصة أرقام البطائق الوطنية وأرقام الهاتف، والاسم والنسب ومقر السكن وغيرها. كما يطرح السؤال أيضا عن هوية المزورين لهذه اللوائح، ومن المستفيد؟ وهل قام رؤساء اللوائح وعون السلطة المتهم بإعداد اللوائح بأنفسهم، أم أن هناك توجيهات ومستفيدين وراء الستار؟ تلاعب بالمعطيات إذا كان ملف تلاعبات توزيع الشعير المدعم بجماعة أيت بلال بأزيلال أخذ مساره القضائي، رغم بعض الحيثيات التي ينبه إليها محامي الضحايا والمتابعين للملف، تهم أساسا توسيع البحث، من أجل الوصول إلى مزيد من المتهمين، فإن جماعات أخرى لا تختلف كثيرا عن أيت ابلال، إذ هناك واقع مشابه في مجموعة من الجماعات والأقاليم، التي يوزع فيها الشعير المدعم. وبالنسبة إلى عدد ضحايا التلاعب في هذا الملف، فيتجاوز 80 شخصا، منهم 17 يتم الاستماع إليهم من المتضررين، ويبقى السؤال مطروحا حول مصير أطنان الشعير التي لم تصل إلى أصحابها، ومن المستفيد من عائداتها المالية؟، وهو ما يأمل الضحايا في أن يجيب عنه القضاء. ولتوضيح حجم التلاعب، فإن الإشهادات التي قدمها الضحايا 17 إلى السلطات، تبين حجم التزييف، إذ أن جلهم لم يستفيدوا من أي كيس، وفي اللوائح زورت توقيعاتهم وسجل عليهم حصولهم على 10 أكياس، وأنهم بعد مرور أيام توصلوا بمكالمات من الضمان الاجتماعي، يطالبهم بأداء واجبات الانخراط، لأنهم يزاولون مهنة الفلاحة، ويتوصلون بعدد كبير من أكياس الشعير المدعم، حسب منطوق نموذج الإشهادات المصادق عليها، والتي سلمت للقضاء. ولا يقتصر التزييف على التسبب في مشاكل للضحايا مع السلطات، وحرمان بعضهم من الدعم المباشر، لأن تلك الأرقام رفعت من المؤشر الاجتماعي، بل أدى أيضا إلى تغليط مؤسسات الدولة، من خلال نفخ أرقام قطيع البقر والأغنام والماعز، وحجم المساحات المزروعة، سواء المسقية أو البورية، إذ أن أكثر من 90 من الأرقام المقدمة للإدارة، على الأقل حسب اللوائح موضوع التحقيق، والتي اطلعت عليها "الصباح" مزيفة. ونعطي مثالا حيا بأحد الضحايا الذي لا يزاول أصلا مهنة الفلاحة، ولا يتوفر على أي قطيع أو عقار، فيوجد في اللائحة التي قدمت للدولة من أجل الاستفادة، وهي الأرقام المعتمدة رسميا، بأنه يتوفر على 10 رؤوس من الغنم و5 من الماعز، وحصل على 10 أكياس من فئة 80 كيلوغراما. وهناك حالات أخرى سجل أنهم يتوفرون على هكتارين مسقيين وهكتار بوري، ويتوفرون على عدد معين من الأبقار والماعز والغنم، وحصلوا على 10 أكياس. بيع البطائق الوطنية غير بعيد عن جماعة أيت ابلال، توجد جماعة تباروشت، وهي الجماعات المستفيدة بدورها من الشعير المدعم، ورغم ما يثار حول عملية التوزيع في هذه المنطقة، إلا أن "رادار" السلطات لم يوجه لها بعد. وحسب المعطيات التي استقتها "الصباح" من مصادر ميدانية من هذه الجماعات، فإن هناك ممارسات غريبة يقوم بها بعض السماسرة، دون أن تحرك السلطات المحلية أي ساكن، ما يطرح أكثر من سؤال. ومن الممارسات الشائعة، أن بعض السكان الذين لا يزاولون أي نشاط فلاحي، يبيعون معطياتهم الشخصية الواردة في البطائق الوطنية بمبلغ 300 درهم، لبعض السماسرة، ويضعونها رهن إشارة مركز الاستشارة الفلاحية في واويزغت، وادعاء أن أصحاب البطائق فلاحون ويطلبون الحصول على عدد معين من الشعير. وعندما تصل الشاحنات الكبرى المحملة بالشعير، يتوصل السماسرة بإشعار لتسلم الشعير، وينقلونه إلى مركز تباروشت، ويباع بـ 190 درهما، عوض 172 للمواطنين للاستعمال في الأعلاف، ويربح "الشناق" 18 درهما في كل كيس، رغم أن الأكياس كتب عليها بخط عريض، "شعير مدعم للعلف، يمنع إعادة بيعه". وهناك بعض المواطنين الذين تحدثت إليهم "الصباح" في هذه المنطقة، الذين واجهوا بدورهم مشاكل في الحصول على الدعم المباشر، بذريعة أنهم مسجلون في سجلات الدولة على أنهم فلاحون وصناع تقليديون، ومن أجل الاستفادة طلب منهم سلك مسطرة معقدة للتشطيب عليهم من السجلات، وتحيين وضعيتهم لدى الإدارة، دون أن يعرفوا كيف أصبحوا بين عشية وضحاها فلاحين وصناعا تقليديين. جهد مهدور هناك شبه إجماع لدى الفلاحين الصغار على الخصوص، أنهم لا يحصلون على أي دعم في ما يتعلق بالشعير المدعم، رغم أنهم أبرز مستهدف من هذه العملية، خاصة أن بعضهم يتوفر على قطيع من 50 أو أكثر أو أقل من الأغنام أو الماعز، وهناك من يتوفر على ثلاثة رؤوس من الأبقار ولا يستفيد. وهناك فئة أخرى من صغار الفلاحين الذين يستفيدون لكنهم لا يستطيعون الحصول على العدد الكافي من الأكياس، إذ أكدت مصادر ميدانية لـ "الصباح" أنه قبل تفجر القضية الرائجة في الوقت الراهن أمام المحاكم، كان هناك نوع من التسيب، لأن البعض كان يطالب السلطات المحلية بأربعة أكياس، ويخبرونه أن عدد قطيعه يتيح له الحصول على كيس واحد فقط. وأما اليوم فأصبح من الضروري على كل فلاح يرغب في الاستفادة أن يقصد مركز الاستشارة الفلاحية، ويسجل نفسه دون وسيط، بعد انتباه الدولة إلى أن مجهودها يهدر بدون رحمة. وفي فبراير من 2024 أشارت بشرى أكنوز، المديرة الجهوية للاستشارة الفلاحية، إلى إحداث نقطة توزيع جديدة بجماعة واويزيغت بهدف تمكين الفلاحين في 10 جماعات من الاستفادة من هذه العملية، لافتة إلى أنه تم توفير 45 ألف قنطار من الشعير المدعم لسكانها في إطار مقاربة تروم إرساء عدالة مجالية لفائدة كافة الفلاحين، لا سيما الصغار منهم، علما أن هناك نقطة أخرى في دمنات، وزع فيها أيضا عشرات الآلاف من قناطير الشعير، التي لم ير منها الفلاح الصغير إلا النزر القليل.

الشعير المدعم … حقل فساد

أباطرة وأعوان سلطة يسطون على دعم الفلاح الصغير والضمان الاجتماعي يفجر الفضيحة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تحت الدف

21 سنة للبحث عن قاتل متزوجة حامل

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات