المغرب عبر من منبر بغداد عن تحول نوعي في لغة الدبلوماسية وأعاد ترتيب الأولويات بقلم: د. كمال الهشومي* في لحظة عربية مشحونة بالتحديات المتراكبة، من فلسطين المشتعلة، إلى سوريا المترددة في عودتها الطبيعية، مرورا بليبيا واليمن والسودان ولبنان، وفي سياق دولي يتغير بسرعة ومفتوح على اللايقين، جاء خطاب الملك محمد السادس أمام القمة العربية ببغداد (ماي 2025) ليعبر عن تحول نوعي في لغة الدبلوماسية العربية، ويُعيد ترتيب الأولويات برؤية مغربية تُزاوج بين البراغماتية السياسية والثبات الاستراتيجي. إن ما يلفت في هذا الخطاب، ليس فقط مضمونه، بل توقيته، وسياقه، ونبرته المركبة: فهو في الآن نفسه خطاب تحذيري، واستشرافي، ودعوة للتعقل والبناء، ونقد داخلي لمنظومة عربية باتت عاجزة عن لعب أدوارها الأساسية. ولأجل ذلك، يستحق أن يُقرأ في ضوء خمسة أبعاد إستراتيجية كبرى: أولا: فلسطين كمركز توازن سياسي وأخلاقي منذ بدايات عهد الملك محمد السادس، لم تتغير مركزية القضية الفلسطينية في السياسة الخارجية المغربية، لكن ما تغير هو منهج إدارة هذا الملف في ظل التحولات الإقليمية الحادة، وتآكل بعض المرجعيات التقليدية. في خطاب بغداد، لم يكتف الملك بإعلان الموقف المبدئي الداعم لفلسطين، بل قدم خارطة طريق عملية للتعامل مع اللحظة الحرجة، تتضمن: • الوقف الفوري للعمليات العسكرية. • استئناف مفاوضات الهدنة. • دعم "الأونروا" وضمان إيصال المساعدات. • إعادة الإعمار بإشراف السلطة الفلسطينية. وهذا الخطاب لا يناور ولا يساير، بل يؤكد أن القضية لا تزال مرتبطة بقيم السيادة، والشرعية، والهوية. كما أن دور المغرب رئيسا للجنة القدس، وعبر وكالة بيت مال القدس، يحول الخطاب من مجرد تضامن إلى ممارسة ميدانية على الأرض، ويمنحه مشروعية رمزية وسياسية على المستوى العربي والإسلامي والدولي. ثانيا: السيادة الوطنية… خط أحمر في المشروع العربي الجديد حين يتحدث العاهل المغربي عن "الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، ورفض احتضان الحركات الانفصالية"، فهو لا يخاطب فقط الوضع العربي العام، بل يحمل رسائل إستراتيجية مشفرة ومباشرة: - هي رسالة دفاع ضمني عن الوحدة الترابية للمغرب في وجه مناورات الجزائر وحلفائها بشأن قضية الصحراء المغربية. - هي تأكيد على أن منطق التدخل والاختراق الإقليمي تحت غطاء "النضال" أو "التحرر"، أصبح فاقدًا للشرعية التاريخية والسياسية في ظل التحولات الجيوسياسية الكبرى. وبناء عليه، يحول المغرب مبدأ السيادة إلى نقطة ارتكاز لبناء مشروع عربي عقلاني، يقوم على احترام الحدود، وتحييد الخلافات، وفك الارتباط مع منطق الاصطفافات المحورية العقيمة. ثالثا: الجامعة العربية… بين جمود الهيكل وحتمية الإصلاح لم يتردد الخطاب في طرح نقد مبطن لمنظومة العمل العربي المشترك، ودعوة لاستكمال إصلاح الجامعة العربية بما ينسجم مع رهانات القرن 21. الإصلاح هنا لا يفهم فقط كمطلب إداري أو بيروقراطي، بل كمطلب إستراتيجي يتعلق بفعالية القرار العربي، وحضور الدول في النظام العالمي الجديد. لقد تحولت الجامعة إلى جهاز إسعافات أولية، في حين أن المطلوب هو أن تصبح منصة استباق وتحكيم وإنتاج حلول، وهذا لا يمكن أن يتحقق دون تحديث قواعد الاشتغال، ودمقرطة القرار، وتجاوز الهيمنة التقليدية لبعض العواصم. رابعا: الاقتصاد كقاطرة للوحدة وليس كعبء للمزايدات الخطاب الملكي وضع الأصبع على جرح غائر: ضعف التبادل التجاري العربي، وتفكك السوق الإقليمية، وهشاشة الاستثمارات المتبادلة. بل عبّر بشكل صريح عن خيبة أمل المغرب في جمود اتحاد المغرب العربي، الذي تحوّل من مشروع تكاملي واعد إلى هيكل عقيم بفعل الحسابات السياسية الضيقة. لكن الأهم، أن الخطاب دعا إلى التحول من اقتصاد الريع والصدف إلى اقتصاد الذكاء والتكنولوجيا، من خلال: • الاستثمار في الطاقات المتجددة. • تسريع الاندماج في الذكاء الاصطناعي. • اعتماد نماذج اقتصادية خضراء ومرنة. وهذه الرؤية تعبر عن طموح مغربي لإحداث "ثورة اقتصادية ناعمة" داخل الجسم العربي، تجعل من التعاون الاقتصادي محور السيادة والاستقلالية لا مجرد واجهة تضامنية. خامسا: المغرب وسياسة الحياد النشط في بؤر التوتر ما يميز السياسة الخارجية المغربية أنها تزاوج بين الحياد والمبادرة. لم يكتف الخطاب بالتعبير عن الانشغال حيال ما يجري في ليبيا، وسوريا، واليمن، والسودان، ولبنان، بل أكد على التزام المغرب بـ: • دعم الحلول السياسية التوافقية. • الانخراط الفعلي في الوساطات والمصالحة الوطنية. • عدم التورط في المحاور أو الدعم العسكري. ويمثل إعلان الرسمي عن إعادة فتح السفارة المغربية في دمشق نقلة دبلوماسية ذات دلالة قوية، تُبرز واقعية المغرب وانفتاحه على كل فرص الاستقرار، وأجرأة واضحة على المصالحة العربية بعيدا عن العداءات المؤبدة أو الإملاءات الخارجية. مشروع عربي بهوية مغربية هادئة إن خطاب الملك محمد السادس لا يمثل فقط الموقف المغربي من قضايا المنطقة، بل يحمل رؤية متكاملة لبناء عقل عربي جديد: عقل لا يعادي ولا يساوم، بل يخطط، ويوازن، ويبني. عقل لا يعيد إنتاج الفشل، بل يتعلم منه، وينخرط في المستقبل. هو خطاب الدولة الهادئة بنفس طويل مبني على التراكم والشرعية حاضرا ومستقبلا. دولة مترسخة بتقاليدها ورموزها تدرك أنها حين تحترم ذاتها، وتعرف حجمها، وتختار توقيت كلماتها، فإنها تحدث الفرق. وهو في الآن ذاته، دعوة ضمنية إلى كل الدول العربية لنتجاوز منطق التنافس على الريادة الخطابية، ولنؤسس لريادة جماعية قائمة على السيادة، والاستقرار، والتنمية، والتكامل الإستراتيجي. * أستاذ التعليم العالي في العلوم السياسية والقانون الدستوري (كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – أكدال)