في الأيام العادية، يمضي المغربي يومه في إيقاع هادئ نسبيا، يرتشف قهوته السوداء بترو، يتبادل أطراف الحديث حول جودة "بلبن" أو أداء فريقه المفضل في آخر مباراة، لكن ما إن تطل رائحة رمضان من بعيد، حتى يتحول هذا الهدوء إلى زوبعة من الحركة والعجلة. فجأة، يصبح الجميع أبطالا خارقين على الطريقة المغربية: يركضون في الأسواق حاملين أكياس الطماطم في يد و"الشباكية" في الأخرى، يحسبون الدقائق المتبقية، قبل أن يغلق "مول الحانوت" الباب، وكأن العالم سينتهي إن لم يكملوا استعداداتهم قبل أذان المغرب. "اللهطة"، تلك الكلمة التي لا تحتاج شرحا لمن عاشها، ليست مجرد ظاهرة موسمية، بل مسرحية شعبية كبرى تعرض سنويا على خشبة المغرب بأكمله. ديكورها الأسواق المزدحمة التي تضج بالحياة، وأبطالها مغاربة مسلحون بالقلق والعجلة، ومؤثراتها الصوتية عبارة عن خليط من أبواق السيارات، وصياح الباعة الجائلين، وأحيانا تلك النقاشات الحامية حول من يستحق الدور أولا في طابور "الحريرة"... إنها سمفونية الفوضى الرمضانية. لكن "اللهطة" ليست مجرد سباق ضد الزمن لتأمين مكونات الإفطار، بل هي مرآة تعكس جوهر بعض المغاربة: فوضويون بطبعهم، وعاطفيون بقلوبهم، ومولعون بالمبالغة في كل شيء. ومن يراقب هذا المشهد يتساءل: لماذا كل هذا الزخم لشهر يفترض أن يكون للروحانيات والسكينة؟ الإجابة تكمن في تلك الروح المغربية التي لا تعرف الاعتدال، فحتى في صيامها تحتفل، وفي تقشفها تبالغ. في كل زاوية من زوايا "اللهطة"، تجد قصة، فهناك الأم التي تتحول إلى قائدة عسكرية تحشد أبناءها لجلب "الخبز الرغيف" قبل نفاد الكمية، وهناك الشاب الذي يقف في طابور طويل لشراء "البغرير"، وهو يتمتم بأن "هاد العام سالا الصبر"، ولا ننسى البائع الذي يرفع صوته معلنا عن "التمر الغالي" كأنه يبيع كنزا، بينما يعلم الجميع أنه سيشترى مهما كان الثمن. ورغم كل هذه الفوضى، هناك جمال خفي في "اللهطة". إنها لحظة يجتمع فيها المغاربة، كل بطريقته، فالهرولة في الأسواق ليست فقط لملء الموائد، بل طقوس تتجاوز الحاجة العملية لتصبح تعبيرا عن تلك القدرة المغربية على خلق الفرح حتى وسط الضغط والزحام. و"اللهطة" أيضا تبرز جانب الأنانية، حين يتسابق البعض لتخزين ما لا يحتاجونه، تاركين آخرين دون حصة، وتظهر الفجوة بين من يستطيع شراء "الشباكية" بكميات ومن يكتفي برائحتها من بعيد، فهي ليست مجرد عادة، بل حالة نفسية واجتماعية تختصر المغربي في أصدق صوره. للتفاعل مع هذه الزاوية: mayougal@assabah.press.ma