«تبكي مو وليس مي» … الهيني: عنوان فساد الفكر وضحالته

قال محمد الهيني القاضي السابق والمحامي بهيأة الرباط، إن القاضي عليه أن يستحضر بديهيا في كل أعماله وقراراته هاجس العقاب الدنيوي والأخروي بصرف النظر عن هذه الجزاءات وفعاليتها، لكن هناك فرق بين استحضار الأمر واعتباره هاجسا مسيطرا عليه. وأضاف في حوار مع «الصباح» أن الشجاعة الأدبية للقاضي واستقلاله المهني الشخصي يعتبران من روافد العدالة والضمير المهني، الذي يقتضي التطبيق السليم للقانون في أبعاده الحقوقية مع نبذ كل خوف أو تأثير. غالبا ما تثار لفظة «تبكي مو» من قبل بعض القضاة للهروب من تحمل مسؤولية قراراتهم، هل هو انعكاس لواقع حقيقي؟ > لا أخفيكم سرا أن هذه المقولة الشعبية حاضرة نسبيا في المجال القضائي، وهي انعكاس لواقع حقيقي نسبي لا يرتفع، يقتضي ميلا للتشديد والعقاب أكثر من الميل لمعقولية العقوبة وعدالتها أو التصريح بالبراءة في حال عدم ثبوت الأفعال الجرمية. وللأسف فإن هذه الظاهرة على شيوعها الشعبي ونسبيتها الواقعية لم تحظ بدراسة اجتماعية وحقوقية، لاسيما بالنسبة إلى المشتغلين في مجال الاجتماع القانوني لتفسير أسبابها وتجلياتها في تمظهرات عمل جميع أجهزة العدالة، ولا يقتصر الأمر كما يبدو على المجال الجنائي وانما يمتد لجميع مجالات عمل القضاة، وإن كانت الظاهرة اجتماعيا محصورة في المجال الجنائي لخطورة القرارات والاحكام على الحرية وحقوق الإنسان. لذلك فالبعض يعتبر أن الاجتهاد وفق المقولة الشعبية نفسها له انعكاسات خطيرة على وضعية القاضي المهنية، وهو أساس مشاكل القاضي، وعليه فالأجدر التمسك بالمقاربة النصية وحرفية النصوص والاختفاء وراء العقوبات لتبرير تطبيق سيء للقانون، فلا مجال للبراءة ولا لعدم المتابعة ولا للسراح المؤقت ولا للتطبيق العادل للقانون ولا في تفسيره ولا في تقصي غايات المشرع ولا حماية الحقوق والحريات، وكأن الأمر عمل المشرع وليس عمل القاضي المفترض فيه ذلك لصيانة الأمن القانوني والقضائي. إن الشجاعة الأدبية للقاضي واستقلاله المهني الشخصي يعتبران من روافد العدالة والضمير المهني، الذي يقتضي التطبيق السليم للقانون في أبعاده الحقوقية مع نبذ كل خوف أو تأثير، وبالتالي فالشجاعة الأدبية تحارب كل هذه المقولات الشعبية التي لن تجد مجالاتها أو طرق اشتغالها إلا عند عينة قليلة يتملكها الخوف وتعوزها القدرة والكفاءة المهنية على حماية الحقوق والحريات. مارستم القضاء لفترة معينة، هل كان الهاجس التأديبي يستحضر في القرارات التي كنتم تتخذونها؟ > طبيعي جدا أن القاضي عليه أن يستحضر بديهيا في كل أعماله وقراراته هاجس العقاب الدنيوي والأخروي بصرف النظر عن هذه الجزاءات وفعاليتها، لكن هناك فرق بين استحضار الأمر واعتباره هاجسا مسيطرا عليه، لأن ذلك يحد من ملكة الاجتهاد والإبداع والتحفيز ويصبح القاضي خائفا مهووسا من العقاب التأديبي في كل صغيرة وكبيرة، لذلك فالإحساس بالمسؤولية والتشبع بمبادئ الاستقلالية المدعومة بالشجاعة والكفاءة من مقومات القاضي النزيه والكفؤ الذي لا يخاف في الحق لومة لائم. فالمواطن والمجتمع لا يريدان فقط عدالة نزيهة، بل الاستقلالية والشجاعة والضمير هي المقومات الحقة لضمان الثقة في عدالة الأحكام والقرارات ومقبوليتها للمتقاضين، التي هي عنصر الرضى عن أداء خدمات العدالة . فمقولة «تبكي مو وليس مي» الشائعة شعبيا في كل مجالات الحياة والمهن والوظائف «ليست فقط عنوان فساد الفكر وضحالته، بل أيضا فساد عمل تعكس فقرا قيميا يكرس منظومة تعادي الجرأة والشجاعة وتزرع الخوف، يرغب الجميع في القطع معها حتى وإن كانت تمظهراتها الواقعية أو العملية قليلة أو شبه منعدمة. يعتبر البعض أن السلطة التقديرية هي سيف مسلط على رقاب القضاة، إلى أي حد يمكن تأكيد ذلك؟ > أبدا، السلطة التقديرية هي صمام أمان المشرع والقاضي وكذا المتقاضي، فلا قضاء دون سلطة تقديرية باعتبارها آلية لتفريد العقوبة بين الحدين الأدنى والأقصى لها، وإلا كنا أمام «روبوتات» وحلت الآلة محل الإنسان، وهذا لا يمكن أن يحصل في يوم من الأيام، لأن العدالة تحتاج لروح تحيا به وليس فقط أنظمة معلوماتية وإلكترونية لا مكان فيها للرحمة ولا لإنسانية القاضي. ولا يمكن لأي مشرع مهما اختلفت الأنظمة القانونية والقضائية أن يلغي السلطة التقديرية للقضاة والمحاكم، لأنها أساس وجود القضاة وهي آلية لعملهم واشتغالهم لا غنى عنها، وفوائدها على العدالة أكثر من سلبياتها، فليست هي قرينة الفوضى، بل هي سلطة مقيدة بضوابط تشريعية وبآليات قضائية مستخلصة من تجارب القضاة وأعرافهم وخلاصات مساراتهم، تهدف إلى ضمان عدالة وأنسنة العقوبات، وصون حقوق الإنسان، وضمان الأمن القانوني والقضائي. هل القضاة يعانون من انعدام الثقة؟ وهل استطاع المجلس الأعلى للسلطة القضائية إعادة الثقة لهم؟ > أؤكد أن القضاء محصن بضمانات دستورية صلبة ومتينة، أساسها سلطة قضائية مستقلة اقرها دستور 2011، تضمن الاستقلال الفردي تحت رعاية ضمير القاضي والمجلس الأعلى للسلطة القضائية والمؤسساتي بضمان جلالة الملك، ومن ثم فهذه عوامل أساسية لثقة القضاة وتحصين وضعياتهم المهنية وضمان تعزيز ثقة المتقاضين في الجهاز القضائي .ومن ثم فقد ساهم المجلس الأعلى للسلطة القضائية مساهمة كبيرة ومتميزة في تفعيل ضمانات استقلالية السلطة القضائية وتحصينها وإعادة الاعتبار لثقة القضاة، من خلال حمايتهم من كل ضغط أو تأثير وتفعيل الضمانات الممنوحة له، خلال حياتهم المهنية بشفافية واستحقاق وعدل وضمان التخليق والتحفيز، لكن لايزال العمل مستمرا بشأن عدم المساءلة حتى بالنسبة للمخالفات المهنية الجسيمة، المرتبطة بأحكام الإدانة وليس البراءة فقط، وبالنسبة أيضا لرفض السراح المؤقت وإعمال المراقبة القضائية وليس فقط تلك القاضية بمنح السراح أو المراقبة، وكذا تحصين الوضعية المالية والاجتماعية للقضاة ودعم حرية التعبير والتنظيم، والحد ما أمكن من المتابعات المتعلقة بمضمون ونوعية الأحكام والقرارات متى كانت لا صلة لها بالتخليق أو التكوين والمخالفات البسيطة واليسيرة المتصلة بالتأطير القضائي، والتي ليس مجالها التأديب. وهنا من اللازم أن أستحضر قرارا رائدا للمحكمة الدستورية، اعتبر أن مخالفة القاضي للأجل المعقول للبت، لا يمكن أن تكون أساسا لمسؤوليته التأديبية باعتبار أن ذلك موجهات ترتبط بآليات تسيير الملف وطبيعته ونوعيته، وهذه ضمانة كبرى في هذا المجال. تحصين القضاة في نظركم ماهي الآليات التي تمكن من الحد من تفكير «تبكي مو»؟ > يتعين الانخراط من قبل الدولة والجامعة والمؤسسات القضائية والتنظيمات المهنية القضائية والمحامين في مشروع وطني، لدعم الشجاعة الأدبية للقضاة، وتعميم نشر الاحكام والمقررات القضائية المبدئية لتصل لعموم القضاة والمواطنين، بما يضمن استقلالية القضاة وتحصينهم من كل التأثيرات غير المشروعة وضمان الثقة في أحكامهم وإعداد دراسات وتصورات وتقييمات نوعية في هذا المجال، من قبل كل المختصين، لاسيما علماء الاجتماع القانوني والخبراء في علم القانون والقضاء وإشراك المتقاضين، لأن تطوير العدالة ببلادنا يعتبر رهانا مجتمعيا، لضمان مجتمع دولة الحق والقانون تسوده الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومبتغاه التنمية الشاملة. أجرت الحوار: كريمة مصلي في سطور - محام بهيأة الرباط - دكتور في الحقوق - خبير دولي في قضايا العدالة وحقوق الإنسان - مستشار وقاض سابق.

«تبكي مو وليس مي» … الهيني: عنوان فساد الفكر وضحالته

المحامي بهيأة الرباط قال إن التشبع بمبادئ الاستقلالية المدعومة بالشجاعة من مقومات القاضي النزيه والكفؤ

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تحديات تطبيق قرينة البراءة

الداخلية تجهض ريعا بـ 47 هكتارا

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات