ابنة درب السلطان التي عانقت العالمية وترسخت في وجدان الأجيال صوتا وصورة غيب الموت، نهاية الأسبوع الماضي، الفنانة والممثلة نعيمة المشرقي عن سن ناهز الحادية والثمانين، لتطوى بذلك صفحة من صفحات الإبداع المغربي في صيغته الأنثوية، إذ شكلت الراحلة واحدة من الأسماء النسائية في مجال التمثيل والتنشيط الإذاعي والتلفزيوني ووجها ألفه المغاربة طيلة عقود لدرجة أن ملامحها ونبرات صوتها صارت جزءا من ذاكرة المشاهدة المغربية. في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" إلى أهم المحطات الفنية لهاته الفنانة الاستثنائية. إنجاز: عزيز المجدوب في درب السلطان وتحديدا بدرب كرلوطي كان الميلاد والنشأة، في مطلع أربعينات القرن الماضي. هذه الرقعة التي تنتمي إلى النسيج العريق لأحياء الدار البيضاء الشعبية، كانت لحظة ميلاد نعيمة المشرقي وسنوات طفولتها الأولى تضج بالحركية، وتنضح بالقيم المغربية الأصيلة التي كانت الأحياء الشعبية مهدا وحاضنا لها. في درب كرلوطي ترعرعت أسماء سيكون لها شأن كبير في مجالات مختلفة، منها الفن والرياضة والأدب وغيرها، مثل الحاجة الحمداوية ومصطفى الداسوكين والزعري والمخرجة فريدة بورقية والنجم الكروي الراحل مصطفى شكري الشهير ب"بيتشو" واللائحة طويلة. وفي الأحياء القريبة التي تشكل معالم درب السلطان، كانت الحركة الفنية والمسرحية على وجه التحديد، في أوجها، وهو ما أفرز العديد من التجارب المسرحية التي بدأت تظهر في هذا المجال الشعبي، منذ مطلع الخمسينات وبداية الستينات، فأفرزت أسماء من قبيل عبد القادر البدوي وشقيقه عبد الرزاق وعبد العظيم الشناوي وعبد اللطيف هلال، ومصطفى التومي ومحمد مجد وعائد موهوب ومحمد الحبشي ومحمد بنبراهيم ثم شفيق السحيمي وثريا جبران وغيرهم. في هذا الوسط وهذا المناخ تشبعت نعيمة المشرقي بعشق المسرح، خاصة أن مجال درب السلطان كان يعج بالقاعات السينمائية، إذ يعتبر الحي الوحيد الذي كان يضم أزيد من عشر قاعات سينمائية، ساهمت بشكل كبير في توجيه فئات عريضة من شباب هذا الحي نحو التعلق بفنون التمثيل والفرجة السينمائية والمسرحية. مع مسرح الصديقي في هذا السياق سعت نعيمة المشرقي إلى تكوين نفسها في مجال المسرح فاستفادت سنة 1958، من التداريب التي نظمتها وزارة الشبيبة والرياضة بمركز الفن الدرامي بالمعمورة تحت إدارة الأستاذ بيير لوكا وشاركت في عدة مسرحيات من بينها "كاليغولا" للممثل والمخرج الراحل مصطفى التومي و"البغلة المسحورة" من إخراج شارل نوغيس وتشخيص فرقة المعمورة و"ألعاب الحب والصدفة" من إقتباس وإخراج الطيب الصديقي. وابتداء من سنة 1962 قررت التفرغ للمسرح بشكل احترافي وانضمت إلى فرقة المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط، التي كان الرائد الراحل الطيب الصديقي مديرا تقنيا لها إلى جانب مديرها العام الفرنسي سيليريي... قد رسمت خطواتها الأولى إبداعيا، كما يقول ذلك الإعلامي والمسرحي محمد بهجاجي، عبر فرقة الرائد الطيب الصديقي الذي تألقت معه على الخشبات بعد حضورها في "قصة الحسناء" و"سفر شون لي" و"مولات الفندق" عن لاكونديرا لكولدوني وفي "محجوبة" عن مدرسة النساء لموليير (من 1960 إلى 1961)، وفي "المصادفة" لماريفو 1962 و"مومو بوخرصة" لأوجين يونيسكو 1964 و"سلطان الطلبـة" 1965 و"مدينة النحاس" 1966 ثم "ديــــــوان سيدي عبد الرحمن المجذوب" 1967... بعد تلك التجربة كانت المعمورة التي كان عبد الرحمن الخياط أحد أعمدتها الأوائل حيث شاركت في مسرحية "فليفلة" عن "أرلوكان خادم السيدين" لكولدوني بإخراج الخياط سنة 1968 و"الفضوليات" عن "النساء العالمات" لموليير بإخراج عبد الصمد دينية ثم مع عبد الرحمن الخياط في "الناعورة" 1970 . من ثم تكرست، يقول بهجاجي، عنوانا كبيرا للاختيار الفني الراقي الذي يناهض، بلا صخب، تيار الرداءة والابتذال. من جانب آخر تتبع الناقد أحمد سجلماسي محطات من مسار نعيمة المشرق في السينما والتلفزيون، منذ أول وقوف لها أول مرة ممثلة أمام كاميرا السينما في مطلع الستينيات، أولا في الفيلم الإسباني الطويل "انتقام دون ميندو" (1962) لفرناندو فرنان غوميـز (1921-2007)، وهو عبارة عن كوميديا اجتماعية يطغى عليها الطابع المسرحي، ثم بعد ذلك في فيلمين طويلين آخرين الأول مغربي والثاني فرنسي إسباني إيطالي مشترك. يتعلق الأمر بفيلم "حديث الأجيال" (90 دقيقة) لزوجها السينمائي عبد الرحمن الخياط، خريج معهد الدراسات السينمائية العليا بباريس سنة 1962 (الدفعة 17 تخصص: إخراج وإنتاج ومحافظة)، وهو عبارة عن أوبيريت أو ملحمة غنائية بمشاركة ممثلين كمحمد الخلفي ونعيمة المشرقي ومطربين كعبد الهادي بلخياط وعبد العاطي أمنة ولطيفة أمل وغيرهم، أنتجته التلفزة المغربية في عهد مديرها الراحل عبد الله شقرون (1926- 2017) وصور بكاميرا 35 ملم انطلاقا من سيناريو كتبه عبد الله المصباحي. وقد ساهم في إنجازه سينمائيون آخرون من قبيل لطيف لحلو وعبد الله الزروالي... أما الفيلم الثاني فهو بعنوان "الدار البيضاء، عش جواسيس" للمخرج الفرنسي آنري دوكوان (1890- 1969). وهذا الفيلم الأخير عبارة عن دراما ذات مسحة بوليسية تجسسية لا تخلو من قصة حب وتوابل أخرى. تألق سينمائي ويواصل سلجماسي تعقبه لمسار المشرقي مضيفا أنها ظهرت في مجموعة من الأفلام السينمائية المغربية والأجنبية، التي شخصت فيها أدوارا مختلفة أبانت من خلالها عن علو كعبها ممثلة محترفة وموهوبة. من هذه الأفلام الطويلة والقصيرة نذكر العناوين التالية تباعا: "عرس دم" (1977) لسهيل بن بركة و"44 أو أسطورة الليل" (1981) لمومن السميحي و"أيام شهرزاد الجميلة" (1982) لمصطفى الدرقاوي و"بادس" (1988) لمحمد عبد الرحمان التازي و"حجر الصحراء الأزرق" (1992) لنبيل عيوش و"فرسان المجد" (1993) لسهيل بن بركة و"البحث عن زوج امراتي" (1993) لمحمد عبد الرحمان التازي و"البند الثاني" (1994) للمخرج الإيطالي موريتسيو زاكارو (بتعاون مع محمد عسلي) و"للا حبي" (1996) لمحمد عبد الرحمن التازي و"زنقة القاهرة" (1998) لمحمد عبد الكريم الدرقاوي و"فاتن" (1999) لمحمد فاخر و"مقهى الشاطىء" (2000) للفرنسي بونوا كرافان (ساهم في إنتاجه لطيف لحلو) و"خط الشتا" (2000) لفوزي بن السعيدي و"وبعد" (2001) لمحمد إسماعيل و"جارات أبي موسى" (2003) لمحمد عبد الرحمان التازي و"الأهالي" (2006) للفرنسي من أصل جزائري رشيد بوشارب و"إيمان سيء" (2006) للفرنسي من أصل مغربي رشدي زيم و"الدار الكبيرة" (2009) للطيف لحلو و"دم وماء" (2014) لعبد الاله الجوهري و"كيليكيس.. دوار البوم" (2018) لعز العرب العلوي لمحارزي و"دموع الرمال " (2018) لعزيز السالمي و"كازا ما بيل" (2020) لليلى مسفر و"خريف التفاح" (2020) لمحمد مفتكر... من أنجح هذه الأفلام تجاريا هناك فيلم محمد عبد الرحمان التازي "البحث عن زوج امراتي"، الذي شخصت فيه دور إحدى الزوجات الثلاث لتاجر المجوهرات الحاج بنموسى، وهو كوميديا اجتماعية اجتمعت فيها كل توابل النجاح الجماهيري. ومن الأفلام ذات القيمة الفنية والفكرية، التي خلفت صدى طيبا لدى نقاد السينما ورواد الأندية السينمائية، بشكل خاص، وحصد بعضها العديد من الجوائز نذكر فيلمين دراميين اجتماعيين على الأقل هما "بادس" لنفس المخرج و"خريف التفاح" لمحمد مفتكر، وقد حصلت المشرقي على جائزة أفضل تشخيص عن دورها في هذا الفيلم الأخير سنة 2021 بمهرجان السينما العربية بمالمو (السويد)... كما وقعت على حضور مميز على شاشة التلفزيون، منذ ستة عقود، في بعديه الدرامي والتثقيفي مثل مسلسل "أولاد الحلال" لمحمد حسن الجندي ثم "دار الضمانة" إلى جانب الممثل محمد مفتاح، والسلسلة التثقيفية "ألف لام" ثم "الحبيبة مي"، كما حضرت في أشرطة تلفزيونية مثل "علال القلدة"، و"وتسقط الخيل تباعا" و"ثمن الرحيل" . ولم يقتصر حضور نعيمة المشرقي على السينما والمسرح والتلفزيون، بل كان لها حضور مميز في مجالات أخرى، ممثلة أو صوتا إشهاريا أو مقدمة ومنشطة لسهرات وبرامج إذاعية وتلفزيونية وغيرها، فضلا عن حضورها في المجالات الاجتماعية سفيرة للنوايا الحسنة (اليونيسيف) ومستشارة للمرصد الوطني لحقوق الطفل، وعلى الواجهة النقابية عضوا نشيطا داخل وخارج النقابة الوطنية لمحترفي المسرح، وعلى الواجهة الجمعوية والثقافية والمهرجانية وغيرها عضوا في لجن تحكيم المهرجانات المسرحية والسينمائية والتلفزيونية أو في الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري...