المحكمة الجنائية الدولية بين الكونية والخصوصية الوطنية

(2/2)الذي يميز العدالة الجنائية صرامتها في التعامل مع الوقت الذي ستستغرقه المحاكمة عموما يعتبر اختصاص المحكمة من ضماناتها الأساسية، وكان الأولى أن يكون نظام روما واضحا ومتشددا في هذه النقطة بالذات، حتى لا يضيق هامش الاقتناع بحدود اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في ما هو مكمل لاختصاص المحاكم الوطنية، ويتوسع بالنتيجة واقع حلولها محل اختصاص القضاء الوطني، الشيء الذي نراه يزيد من سوء فهم تدخل المحكمة المذكورة جنائيا ووطنيا. أما بالنسبة إلى تحديد عبارة « عدم القدرة في دعوى معينة»، فتذهب المادة 17 نفسها إلى أن المحكمة تنظر في ما إذا كانت الدولة غير قادرة بسبب انهيار كلي أو جوهري لنظامها القضائي الوطني، أو بسبب عدم توافره على إحضار المتهم أو الحصول على الأدلة والشهادة الضرورية، أو غير قادرة لسبب آخر على الاضطلاع بإجراءاتها. هنا أيضا يحق لنا أن نتساءل عن المعنى الذي يمكن إعطاؤه لعبارة «الانهيار الكلي أو الجوهري للنظام القضائي الوطني»؟ صحيح، إن ديباجة نظام روما الأساسي تتحدث عن ضمان الاحترام الدائم للعدالة الدولية- والأولى وصفها قبل ذلك بالجنائية- وتحقيقها، وهذا مطمح كل الجنائيين المؤمنين بكونية وأهمية قيمة العدالة الجنائية. لكن هذا المطمح يقيده النظام نفسه في حدود ما عجزت عنه الدولة، خصوصا في مواجهتها للجرائم الأشد خطورة، مهما كانت صفة وموقع مرتكبها. وهذا أمر بنظرنا لا يمكن أن يستشف من عبارة « الانهيار الكلي للنظام القضائي الوطني»، فبالأحرى الدخول في متاهات التساؤل عن المعنى الدقيق الذي يمكن أن ننتهي إليه بخصوص عبارة» الانهيار الجوهري للنظام القضائي الوطني». إن الانهيار الكلي، بنظرنا المتواضع، لا يمكن أن يعني سوى أن النظام القضائي الوطني قد أصبح في عداد العدم- إن لم نقل انهيار نظام الدولة نفسه-، بالتالي تدخل المحكمة الجنائية الدولية هنا يصعب قبوله بيسر، لا من الناحية القانونية ولا من الناحية الإجرائية، ليشمل القضايا العادية. وحتى مع قبولنا، تجاوزا وبدون اقتناع، التدخل المؤقت للمحكمة إلى حين قيام نظام قضائي وطني جديد- وإن كانت الفرضية هنا تذهب وبشكل واضح إلى تكريس المساس بالسيادة القضائية للدولة محل التدخل بل بنظامها السياسي بالنتيجة- ومهما بلغنا في تصورنا المثالي للمحكمة الجنائية الدولية، كيف سنتصور حدود هذا التدخل، بحيث ستطرح هذه الازدواجية بين دولية هذه المحكمة وديمومتها وتدخلها الوطني المؤقت أكبر المشاكل على الإطلاق، خصوصا عندما نحاول أن نستشرف لها مستقبلا أكبر من تحفيز وتحسين الأنظمة القضائية الوطنية. هذا عن الشق الإجرائي، أما بخصوص الجانب الموضوعي، وبالرجوع إلى المادة 22 ، نجد أن نظام روما يتحدث في الفقرة الثانية عن التأويل والتفسير عندما يعرض لتعريف الجريمة. بصفة عامة، ومن دون الدخول في التفاصيل الدقيقة، يمكن القول إن التفسير يعني الإيضاح، بينما يصل التأويل إلى حد تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح ببيان غير لفظه، بحيث يظهر أن التأويل هو أعم من التفسير. ونحن من جهتنا نتساءل لماذا تخص المادة المذكورة مصطلح التأويل بتعريف الجريمة، حيث تشترط أن يؤول تأويلا دقيقا، وتستعمل التفسير في حالة الغموض، بحيث ينبغي- دائما حسب المادة نفسها- تفسير تعريف الجريمة لصالح الشخص محل التحقيق أو المقاضاة أو الإدانة؟ بل قد نصل إلى حد تسجيل استغرابنا من السماح أصلا بالتأويل، خصوصا في مادة التجريم، مادام أن الكل متفق على أن نصوصا من هذه الطبيعة إنما ينبغي الالتزام في صياغتها، وبكل صرامة، وبكل من الدقة والوضوح، بل إن ضرورة احترام هذين المحسنين التشريعيين، إن صحت هذه العبارة، يصل إلى أعلى مستوياته مع جرائم من حجم ما يدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، بحيث يمكن التساؤل مرة أخرى عن مدى صلابة مبدأ الشرعية، وهل يمكن أن يسمح، بشأن استشراف مستقبل تطبيقه دوليا، بإدخال هامش من المرونة أمام سمو مبدأ عدم الإفلات من العقاب؟ كذلك في المادة 25 من نظام روما، نلاحظ على مستوى الصياغة، خاصة في الفقرة الثالثة أن خلطا بين صفة المساهم في الجريمة وصفة المشارك في ارتكابها والفاعل المعنوي، حيث، بنظر النظام المذكور، مفهوم ارتكاب الجريمة ينسحب على كل هؤلاء، والحال أنه لا يصدق إلا على المساهم. في المادة 64، والتي ترجعنا إلى مساءلة الجانب الإجرائي في نظام روما، يحق لنا أن نحاول فهم المقصود بالمحاكمة العادلة والسريعة؟ فالذي يميز العدالة الجنائية صرامتها في التعامل مع الوقت الذي ستستغرقه المحاكمة عموما. والحكمة الإجرائية اقتضت الاحتكام إلى مفهوم الأجل المعقول. صحيح، أنه خارج الآجال المحددة قانونا، يصعب تبني أي معيار للحسم في تحديد الآجال بهذا الوصف، لكن هذا لا يعني مطلقا السقوط في السرعة. فواجب كشف الحقيقة، الذي نعتبره الهدف الأسمى لكل محاكمة جنائية، وطنية كانت أو دولية، يفرض بالبداهة مرور الوقت الضروري الكافي لرفع كل الملابسات الحائلة دون ذلك، خصوصا أن القضايا المعروضة على المحكمة الجنائية الدولية، إنما هي بالتعقيد واللبس ما يجعل الحديث عن السرعة في المحاكمة في غير محله. خلاصة القول، وبالرغم من اقتناعنا المبدئي بالأهمية الحيوية التي يمكن أن تضطلع بها المحكمة الجنائية الدولية مستقبلا، مرجعا قضائيا دوليا يساهم في تكريس سمو العدالة الجنائية باعتبارها مطلبا حضاريا يساهم في ارتقاء الدول، فإن المجتمع الدولي ما زال مطالبا بأن يدقق في صياغة بعض مقتضيات النظام المعتمد. فعملية سن القواعد الجنائية، سواء كانت موضوعية أو إجرائية، وطنية أو دولية، لتعتبر، بنظرنا المتواضع، من أعقد العمليات التي تستوجب سلوك الكثير من التريث والحكمة، ليتسنى الاهتداء إلى الصيغ الملائمة والمجسدة لنبل الغاية. ولعلها الإشكالية المحورية التي ما فتئت تواجهنا كلما رغبنا في الانفتاح على النصوص الجنائية الدولية. * أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق المحمدية

المحكمة الجنائية الدولية بين الكونية والخصوصية الوطنية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

سبع دور نشر مغربية بمعرض القاهرة

حليمـة... صرخـة أنثويـة بالألـوان

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات