عنوان ربع قرن من حكم الملك محمد السادس بقلم: د. يوسف بونوال (*) خمس وعشرون سنة مرت من حكم صاحب الجلالة الملك محمد السادس. ربع قرن بحصيلة إيجابية، رغم التحديات. مسيرة التطور والنماء بإنجازات مهمة وخصوصا مهيكلة على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدبلوماسية الجيوإستراتيجية. وسنركز على الجانب الاقتصادي، باعتباره يتداخل على جميع المستويات وكذلك يشكل الآلية الدافعة المشتركة لتنمية اجتماعية مستدامة لضمان الكرامة لكل المغاربة وتوفير فرص الشغل والاستثمار وخلق الثروة والولوج للخدمات التي تكرس لمفهوم المواطنة، كالتعليم والصحة والأمن والعدالة، أي شروط العيش الكريم. إن الاقتصاد مدخل أساسي لنجاح الدبلوماسية الجيوإستراتيجية للمغرب، والتي تخول له امتدادا قويا ومؤثرا في القارة الإفريقية خدمة للمصالح العليا للبلد و على رأسها الوحدة الترابية بأقاليمنا الجنوبية. منذ بداية حكم جلالة الملك محمد السادس، ارتكزت السياسات الاقتصادية وفق الرؤية الملكية أساسا على ضرورة خلق اقتصاد متنوع ومنتج كفيل بتحقيق نمو وتنمية بأثر مباشر على تحسين مستوى عيش المغاربة، وتموقع المغرب ضمن الاقتصاديات الصاعدة. لقد انتقل الناتج الداخلي الخام من 46 مليار دولار إلى أزيد من 140 مليار دولار، تقدم مهم وملموس نتيجة رؤية استباقية أساسها نهج سياسة تعتمد تحسين وتجويد مناخ الأعمال وتشجيع الاستثمارات من خلال إصلاح منظومة العدالة وإصلاح الإدارة العمومية عبر تبسيط ورقمنة المساطر. منذ بداية حكم صاحب الجلالة، عرف المغرب أوراشا كبرى في البنيات التحتية والطاقات المتجددة والصناعات التصديرية مع الحرص على ضمان سيادة صناعية تقوية "لصنع بالمغرب". الوجود القوي للمغرب في إفريقيا من خلال رساميل شركات وطنية مغربية خصوصا في القطاعات الإستراتيجية كالقطاع المالي والاتصالات والنقل الجوي والطاقات المتجددة، هو وجود ذو بعد جيوسياسي لتقوية مكانة المغرب على الصعيدين الإفريقي والعالمي. إن الاستثمار في البنيات التحتية الضخمة من أهم نجاحات حكم الملك محمد السادس خلال هذا الربع قرن. وسنعطي بعض الأمثلة كالميناء المتوسطي بالبحر المتوسط، الذي يعتبر من ضمن أكبر وأهم عشرين ميناء بالعالم، ما جعل المغرب، وبفضل موقعه الجيوإستراتيجي، محطة رئيسية للتجارة البحرية العالمية، وهو موقع سيتعزز بشكل أكبر بفضل بناء ميناءين مهمين بالناضور والداخلة، ما سيخفف العبء عن الميناء المتوسطي بطنجة، ويسهم في تنمية شرق المملكة، وجعل الداخلة البوابة الفعلية للامتداد المغربي بإفريقيا. إنها بنيات تحتية ضخمة تجعل من المغرب قاطرة للتنمية الاقتصادية على امتداد الساحل الأطلسي الإفريقي، كما عرف النقل البري كذلك تطورا مهما خلال 25 سنة من حكم جلالة الملك محمد السادس. وهنا نشير فقط إلى انتقال شبكة الطرق السيارة من 89 كيلومترا سنة 1999 إلى أزيد من 2000 كيلومتر خلال هاته السنة. وتوسعت في الوقت نفسه شبكة النقل الجوي، حيث تضاعف أسطول الخطوط الملكية المغربية، مرتين لتصير رقما مهما وصعبا في إفريقيا وعلى الأخص وجودها في رساميل الشركات الإفريقية للملاحة الجوية. القطار الفائق السرعة TGV عنوان لتطور النقل بالمغرب، وفق رؤية ملكية لتوفير مؤهلات التنمية الجهوية عبر ربطها بالطرق، وتنمية البنيات التحتية شرط أساسي لتسهيل جلب الاستثمارات الخارجية، وتسريع دورة الإنتاج الاقتصادية عبر مرور السلع والخدمات. وأعطى جلالة الملك محمد السادس أولوية كبرى لقطاع الصناعة والاستثمار فيه كالصناعات الغذائية والصناعات الدوائية والنسيج والمعادن والسيارات وقطاع الطائرات. إن الاهتمام بالتصنيع من خلال جدب الاستثمارات الداخلية والخارجية كان له انعكاس مباشر على الناتج الداخلي وخلق فرص الشغل ونسبة النمو. إن الحس الاستباقي لأهمية الصناعة المحلية، جعل المغرب من الدول القليلة التي استطاعت تدبير تحديات جائحة كوفيد 19 عبر التدخل المباشر للدولة، وكانت الآثار واضحة خصوصا على مستوى تزويد السوق الداخلية بالسلع الغذائية ومنتجات التعقيم والتنظيف والوقاية. بالإضافة إلى تعويض الفئات المتضررة عن طريق "صندوق تدبير جائحة كورونا"، وإعطاء مجموعة من القروض التفضيلية للمقاولات الصغرى جدا والصغرى و المتوسطة، حتى تستعيد عافيتها و توازنها المالي. وتعتبر الحملة الوطنية للتلقيح وبالمجان والانطلاقة الفعلية لتصنيع اللقاحات من ركائز بناء سياسة طبية وقائية قادرة على مواجهة الطوارئ المباغتة، والتي قد تهدد منظومة الصحة الوطنية. لقد أصبح المغرب حديث المهتمين بصناعة السيارات وجهة عالمية لجدب استثمارات بالملايير، وهاته المكانة التي أصبح يحتلها المغرب في هذا القطاع، هي نتاج عمل جبار وفق رؤية ملكية على امتداد أكثر من عشرين سنة، عن طريق تقوية البنيات التحتية وتجهيز المناطق الصناعية، وتأهيل العنصر البشري من المهندسين والتقنيين والعمال المؤهلين، بقدرة إنتاجية وصلت إلى 700 ألف مركبة سنويا. وبطموح كبير لتجاوز هذا الرقم، نجح المغرب في التأسيس لصناعة السيارات واستطاع أن يستقطب شركات دولية للاستثمار في القطاع، آخرها شركتان أوربيتان افتتحتا مصنعا في المنطقة الحرة بطنجة وشركة عالمية أخرى بالقنيطرة، والتي بدأت أعمال التوسعة لرفع طاقتها الإنتاجية إلى 450 ألف سيارة سنويا. لقد أصبحت المملكة تحتل رتبة متقدمة عالميا من حيث التنافسية في صناعة السيارات، لتدخل في سباق مع دول كبرى كالهند والصين، برقم إيرادات تجاوزت 120 مليار درهم خلال 2023 ، وأكثر من 220 ألف فرصة شغل، يكون قطاع السيارات أخد صبغة القطاع الإستراتيجي في جلب العملة الصعبة والتشغيل. وأعلن المغرب منتصف ماي 2023، عن صنع أول سيارة محلية تحمل اسم "نيو"، لتدخل البلاد ضمن قائمة الدول المنتجة في القطاع بعد سنوات من التجربة في التركيب والتجميع، وجلب استثمارات لشركات دولية. وكانت علامة "صنع في المغرب" المحفز لصناعة سيارة محلية من شأنها الإسهام في جعل المغرب منصة تنافسية في قطاع إنتاج السيارات والموجهة أساسا إلى السوقين، الإفريقي والعربي. حضور إستراتيجي بإفريقيا لتقوية الوجود الجيوإستراتيجي للمغرب في القارة الإفريقية، كانت المبادرة الملكية لتمكين دول مجموعة الساحل الإفريقي (مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد) من الاستفادة من المحيط الأطلسي عبر خلق سوق تجارية إقليمية وتحقيق تنمية شاملة، هي مبادرة تندرج وفق رؤية من شأنها تمكين هذه الدول من التحكم في كل ثرواتها الطبيعية والبشرية. إنها مبادرة يلعب فيها المغرب دورا محوريا تجسيدا لمبدأ التعاون جنوب ـ جنوب، الذي يقوم على أساس شراكة رابح ـ رابح. ورغم وجود بعض الصعوبات المرتبطة بالسياسات الأمنية لدول الساحل، فإن المشترك القوي يكمن في الجانب الاقتصادي، حيث سيلعب المغرب الدور المحوري لتوفره على بنيات تحتية قوية، كميناء الداخلة الأطلسي ومشروع الربط البحري، بين هاته الدول والدول الأخرى. (*) خبير اقتصادي رئيس منظمة المهن والمقاولات