الفنان الذي نقل الأغنية المغربية من التراث إلى الحداثة شكل مسار الفنان الراحل السلاوي صلة الوصل ما بين التراث الموسيقي والفولكلور المغربي، وما بين الإنتاجات الموسيقية الحديثة. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جوانب من مسار هذا الفنان الذي طبع الأغنية بطابع التحديث رغم رحيله في سن مبكرة تاركا إنتاجا غنائيا عابرا للزمن والأجيال. إعداد: عزيز المجدوب خلال اللحظة التي ودع فيها الفنان الحسين السلاوي الحياة ذات يوم حزين من أيام 1951، لم يكن عمره يتجاوز الثلاثين، أو يمكن أن يكون قد تجاوزها بقليل، كانت كافية بالنسبة إليه لكي يبصم اسمه في تاريخ الفن المغربي، بل ويشكل فيها لحظة مفصلية تم فيها الانتقال من الأغنية المغربية من طورها الخاضع للطابع التراثي، إلى الانفتاح على التجديد والحداثة الموسيقية انطلاقا من استثمار الموروث المتعدد للمغرب. ظلت حياة الحسين السلاوي يكتنفها الغموض، فحتى التسجيلات التي ظلت تحفظ منجزه الغنائي، كانت تعطي الانطباع بأن هذا الصوت الأجش المنبعث منها لشيخ خبر مجاهل الغناء، قبل أن يكتشف الجميع أن صاحبه لم يكن سوى شاب عشريني، لحظة تسجيلها، فارق الحياة في ظروف يشوبها لبس كبير، وهو في ريعان شبابه، ومجده الفني، يرحل كما رحل عباقرة الفن في العالم الذين ودعونا في سن مبكرة، مثل موزار وسيد درويش وغيرهما. وشكلت أغاني الفنان الحسين السلاوي نافذة فنية عكست بوضوح نمط العيش، وملامح الحياة اليومية عن المغاربة، خلال مرحلة نهاية الثلاثينات، إلى حدود وفاته في مطلع الخمسينات، من خلال التعابير والمفردات التي تضمنتها وكذلك المواضيع التي تطرقت إليها، فضلا عن الطفرة الموسيقية التي أحدثها السلاوي بأغانيه من حيث الألحان، واستعادة الإيقاعات وروح الموسيقى التراثية المغربية، مع توظيف آلات موسيقية غربية كان من السباقين إلى استعمالها، مثل البيانو والكلارينيت والأكورديون والساكسفون ما منحها روحا متجددة، قاومت الزمن وحافظت على راهنيتها إلى يومنا هذا. شغف موسيقي مبكر مثلما اكتنف الغموض وفاة الحسين السلاوي، كان هناك أيضا تضارب حول سنة ميلاده، المتأرجحة ما بين 1918 و1921، لكن الثابت فيها، هو أن الفتى الأسمر رأى النور في مدينة سلا، التي ظل يحمل انتسابه إليها طيلة حياته، رغم لقبه العائلي الحقيقي هو "الملّاوي". فارق والده بوشعيب الحياة بدوره مبكرا، تاركا أسرته تحت عهدة زوجته الشابة فاطمة الرباطية، التي وجدت نفسها في مواجهة أعباء الحياة، بخمسة أطفال، فقدت اثنين منهم، في حين أولت كل اهتمامها لطفلها الحسين، ليكون مؤهلا لتقاسم الأعباء معها، خاصة أنها كانت تشتغل في حمام شعبي لتوفر لأطفالها لقمة العيش. وهكذا دخل الحسين السلاوي "المسيد"، وكل طموح والدته، أن يكمل تعليمه، إلا أن مخايل التمرد بدت على الطفل بشكل مبكر، إذ سرعان أبدى ميولا غريبا للغناء، لدرجة أنه عوض أن يرتل القرآن الذي يحفظه كان يغنيه، ما كان يعرض لعقوبات من قبل الفقيه، إلى أن قرر طرده بشكل نهائي. ورغم مساعي والدته لإرجاعه لمواصلة الدراسة، إلا أن الفتى المتمرد، كان يفضل حياة الحرية والانطلاق، حتى عندما ألحقته الأم ليتعلم حرفة يدوية مع خياط تقليدي، إلا أن الخياط بدوره بدأ ينتبه إلى أن خيوط "البرشمان" تنقص شيئا فشيئا من محله، ليكتشف أن الفاعل سوى الحسين السلاوي الذي كان يصنع منها آلات وترية موسيقية بدائية، فكان مصيره الطرد من جديد. انجرف السلاوي خلف شغفه بالغناء والموسيقى، وكانت "الحلاقي" بمثابة المتنفس الأول والمزود الرئيسي للمادة الغنائية الخام التي تشبع بها الفتى الأسمر، إذ كان يتردد عليها بشكل دائم ويقضي سحابة يومه في تعقب رموز هذا الفن الفرجوي، إلى أن ربط صداقات مع بعضهم على رأسهم بوجمعة الفروج ومولاي بّيه اللذان لازمهما وتعلم منهما الشيء الكثير. "الحلقة" المدرسة الأولى لم يطل المقام بالسلاوي إلا فترة قصيرة بفضاءات سلا، حتى يمم وجهه شطر البيضاء، التي كانت حينها مدينة تعيش فورة تحولات جذرية، تسير في اتجاه جعلها قطبا اقتصاديا وعمرانيا، أتاح للفتى الصغير، الذي كان عمره لا يتجاوز الخامسة عشرة، الانخراط بسهولة في عوالمها ومجالاتها الشعبية، خاصة الفضاءات التي كانت تحتضن "الحلاقي"، منها ساحة "البلدية" بدرب السلطان، التي تم الإجهاز عليها أخيرا، و"البحيرة" بالمدينة القديمة وغيرهما. وبفضاءات الدار البيضاء بدأ الحسين السلاوي يشكل له جمهورا خاصا، كان يقبل بشكل كبير على إنتاجه الغنائي، الذي كان يردد فيه الفتى الأسمر، ما التقطته ذاكرته الطفولية من أهازيج وأنغام وقفشات وخفة دم، مثلما كان يؤدي إنتاجا غنائيا متنوعا بناء على طلب جمهور الحلاقي المتعدد الأذواق. كانت الحلقة بمثابة المحطة التي احتك فيها السلاوي، وأظهر فيها نبوغا استثنائيا، وشخصية فنية متفردة، كل شيء يقول فيها إن مسار هذا الفتى منذور للغناء والموسيقى، وهو ما جعل الأنظار تلتفت إليه مبكرا. ومن بين الأسماء التي انفتح عليها السلاوي في بداية مساره الفني، هناك شخص يدعى أحمد بودروة، كان عازف بيانو، كما كان يمتلك شركة لتسجيل الأسطوانات بدرب السلطان تحت اسم "بودروا فون"، تتعامل مع كبريات شركة الأسطوانات العالمية مثل شركة "باثي ماركوني". اقتنع بودروة مبكرا بموهبة الحسين السلاوي، فخاض معه مغامرة تسجيل أولى أغانيه، في مطلع الأربعينات، هي أغنية "با سيدي با" التي كانت بمثابة مفتاح شهرته، قبل أن يقرر خلال أوج الحرب العالمية الثانية سنة 1942 السفر إلى فرنسا، لتسجيل أغنيته الشهيرة "راسي ما داز عليك وباقي"، لتتوالى تسجيلاته داخل وخارج المغرب، إلى أن بلغ إنتاجه الغنائي ما يقارب 45 أغنية مع شركة "باثي ماركوني". استقى السلاوي موضوعاته من صميم الواقع المغربي وصلب الأحداث المستجدة في البلاد، فغنى عن الأمريكان في الحرب العالمية الثانية عندما نزلت جيوشهم في شواطئ الدار البيضاء، وتحدث عن دهاء البدوي في أغنية " احضي راسك" كما تطرق إلى جمال الطبيعة المغربية والمدن التي عزلها الاستعمار بحدود وهمية، وغنى لطنجة عروس الشمال المغربي أغنية "طنجة يا العالية". نهاية مبكرة في بداية الخمسينات، وبالضبط في يناير 1951 بدأ الحسين السلاوي يتأثر بأعراض المرض، الذي حد من تحركاته وقدرته على التواصل مع جمهوره، ولم يجد بجانبه إلا زوجته التي لازمته كظله عندما توارى إلى الخلف، وكان يعاني آلاما شديدة، ولم تنفع معه حصص العلاج الشعبي ولا وصفات الأطباء. اضطر الفنان الحسين السلاوي العودة إلى المغرب بعد أن استبد به المرض في الديار الفرنسية. تدهورت حالته الصحية بشكل غريب ومعقد، حيث كان جسده هشا إلى درجة أن الأطباء نصحوه بالتمدد على فراش قطني، بل إن الطبيب الخاص الذي كلفه الملك الراحل محمد الخامس بإنقاذ حياة فنان الشعب، أكد في تقرير طبي بأنه لا أمل في شفائه، وأن حالته ميؤوس منها، فقد لاحظ الطاقم الطبي الفرنسي أن جسد الحسين يعرف تساقطا غريبا لجلده الذي نخره المرض، وعزا التقرير ذلك إلى انشغاله بالطرب وعدم عرض حالته الصحية على أطباء باريس قبل استفحال المرض الخبيث، حينها غادر المصحة وعاد إلى البيت، حيث فارق الحياة يوم 16 أبريل 1951 وتم دفنه في مقبرة سيدي بلعباس بسلا، تاركا ابنه محمد السلاوي الذي واصل مسار والده إلى حين وفاته نهاية 2013، ثم حفيده حاتم السلاوي الذي ما زال يحافظ على إرث والده وجده الفني. منجز غنائي عنوانه الحداثة والتنوع من خلال استعراض عناوين بعض أغاني الفنان الحسين السلاوي، يتضح التنوع فيها كما هو الشأن بالنسبة إلى أغنية "احضي راسك" و"الماريكان" و"يا موجة غني" و"هو تاني" و"طنجة يا العالية" و"محلا النزاهة مع الناس لقدام" و"الكاس حلو" و"يا الكحلة" و"مولاي يعقوب" و"يا غريب ليك الله" وغيرها، إذ يمثل هذا الإنتاج الغنائي المزاج الفني للسلاوي المرتكز على استلهام تجاربه الشخصية وخبرته في الحياة المستمدة من تجواله وأسفاره في كل مناطق المغرب، وخارجه خاصة بفرنسا، فضلا عن أذنه الموسيقية التي كانت تلتقط أنغاما مختلفة وتعيد إنتاجها بطريقة إبداعية تعكس عبقريته السابقة لعصرها. وتشكلت الفرقة الموسيقية التي رافقت الحسين السلاوي من عازفين قارين، منهم هو نفسه على آلة العود أو الكنبري وموسى عسول التونسي عازف القانون التونسي، وثلاثة أفراد آخرين يجمعون بين العزف على الإيقاع والكورال، وهم مولاي أحمد الفيلالي الملقب ب"اجعيبة" ومولاي أحمد الملقب ب"عينين الميرنا" والجزائرية بهية فرح وبنت العربي، إضافة إلى عازفين آخرين منهم صديقه أحمد بودروة، وموسيقيون آخرين فرنسيون وإيطاليون شاركوا في بعض أغانيه عازفين على آلات، مثل الكلارينيت والأكورديون والفيولونسيل.