شواطئ البيضاء.. استجمام على مرمى الصواريخ

أن يظهر في شاطئ، عتاد حربي، مؤلف من صواريخ منصوبة باتجاه السماء، أمام خيام خضراء داكنة، تؤوي عشرات الجنود، ومن حولها شاحنات مركونة بتواز، وفوق واحدة منها «رادار» يرصد أدنى حركة غريبة، قد تأتي من جهة البحر، وفي محيطه أطفال وشباب عراة، إلا من سراويل صيفية قصيرة، يقفزون من فوق صخور لتتلاطم أجسادهم مع الأمواج، وسط ضجيج يعبر عن فرحة وسرور، ببرودة مياهها في صيفهم القائظ، غير مبالين بما حولهم، ليس مشهدا يجب أن تصفه، بالضرورة، قصاصة أخبار قادمة من خارج الحدود، أو يكون لقطة ترد في صور نشرة أخبار تلفزية عن أحد البلدان التي اضطرت فيها الجيوش إلى القيام بعمل الشرطة، وتعايش فيها الأطفال مع السلاح كلعب العيد. لأنه في هذه المرة، أصبح واقعا مغربيا خالصا، وبالتحديد في شاطئ «العنق» وسط البيضاء، في حدث لم يعايش البيضاويون مثيلا له منذ زمن بعيد. لقد خرج الجيش من الثكنات الموصدة، وبدون سابق إنذار، جعل دفاعه الجوي على أهبة الاستعداد، ولما غابت المعلومة عن الناس، ولم يجدوا أمامهم سوى تأويلات وتفسيرات وتنبؤات لخبراء عسكريين، جلها متناقض مع البعض الآخر، انقسموا إلى مشدوه مرتاب، ومصدق لما تورده الصحف، وطائفة لا مبالية، وأخرى متحمسة لرؤية المزيد من السلاح والجنود يغادرون، أخيرا، الثكنات التي كانوا فيها لأن البلاد آمنة إلا من بعض جرائم وخلايا إرهابية أكثرها نائمة وتتكلف الشرطة بتفكيكها قبل استيقاظها. فإليكم تفاصيل القصة منذ بدايتها.الجيش يغادر الثكناتالسبت 9 غشت 2014، عقرب الساعة يشير إلى العاشرة والنصف ليلا، بالقرب من مسجد الحسن الثاني، وبالضبط على مستوى المدارة الطرقية حيث يتقاطع شارع مولاي يوسف الشهير والطريق المؤدية نحو عين الذئاب، في الممر الأرضي، سرب من الشاحنات والمقطورات العسكرية، يخفرها شرطيان بدراجتين ناريتين من الحجم الكبير، واحد في المقدمة يفسح الطريق، والثاني من الخلف، ليحول بين السرب وأي طارئ قد يتسبب فيه سائق مدني متهور. بالنسبة إلى رشيد، واحد من قاطني «درب لوبيلا»، الذين آلفوا في تلك الساعة من الليل الخروج إلى باحة مسجد الحسن الثاني، سعيا نحو إطلالة على أمواج البحر، وعلى أضواء السفن الراسية على مياه الساحل استعدادا لولوج ميناء المدينة، فهذا السرب العسكري «لا يمكن إلا أن يكون واحدا من التحركات العادية للجيش، لنقل عتاد من ثكنة مدينة إلى أخرى»، وهذا الرأي، يشاطره فيه خلانه في تلك الليلة.في الحقيقة ستخيب توقعات رشيد هذه المرة، عندما سيعلم أن ذلك السرب من الشاحنات العسكرية، لم تتجاوز مسافة رحلته بين النقطة التي مر فيها من أمامه، وبين وجهته الحقيقية سوى مئات الأمتار، فالشاحنات بعدما تجاوزت نقطة التقاطع بين نهاية شارع الزرقطوني، الذي يخترق أعلى بنايات العاصمة الاقتصادية خصوصا البرجين التوأمين «توين سانتر»، والشارع المؤدي من ميناء المدينة نحو عين الذئاب، انعطفت، يمينا، ومرت من زنقة «العنق» التي يوجد بها ملهى ليلي.أما اللحظات الأولى التي حطت أثناءها قافلة قوات الدفاع الجوي رحالها، بعدما بث الليل خيوط ظلامه على «بلوك العساسة»، وهو تجمع سكني عشوائي، فلم يعاينها سوى ياسين، شاب يقطن بالـ"بلوك"، ومعه بعض الجيران، ويحكي قائلا «وصلوا حوالي الحادية عشرة ليلا، وقلة من الشباب واكبت وصولهم، أما الآباء والأمهات فقد كانوا يغطون في النوم وتفاجؤوا بالمشهد في الصباح. في البداية تمت تهيئة مساحة خالية، فشرع الجنود في نصب خيامهم عليها، وبعدها أنزلوا عتادهم من الشاحنات، بإشراف من كبار رؤسائهم». ذلك العتاد، هو نفسه منصات الصواريخ المضادة للطائرات، والبطاريات، والـ"رادارات" ذاتها التي تشغل قصتها بال المواطنين منذ حوالي أسبوعين. وكل ما يعلمونه أن القوات المسلحة لبلدهم غادرت فعلا الثكنات، واستنفرت الرجال والسلاح تحت مرأى أبناء البلد ووسط بعضهم، وكأن لسان حالها يقول، «المهم أننا هنا، أما الباقي فهي تفاصيل قد يحين موعد الكشف عنها». المهمة المستحيلةفي الدار البيضاء، وإلى حدود منتصف الأسبوع الموالي للذي قدم فيه الجيش، بقي نبأ إقامته لمعسكر في شاطئ «العنق»، حبيس أسوار «بلوك العساسة»، وحده شريط «فيديو» التقطه هاو بهاتفه الذكي، وبثه في قناة على «اليوتوب»، البوابة الرقمية المشهورة دوليا، ليتم تناقله بين بعض مرتادي المواقع الإلكترونية للتواصل الاجتماعي، بحذر شديد، لأنهم غير متأكدين من صحة تاريخ تصويره المشار إليه من طرف الشخص الذي قام بإذاعته.الجمعة 15 غشت، مر يومان عن ظهور الفيديو، وبدأت الألسن بالأحياء المطلة على شاطئ «العنق» تهمس بأن «العسكر أتى فعلا بسلاحه ليجاور المصطافين». حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا، يتوجه صحفي من طاقم «الصباح» برفقة المصور الفوتوغرافي للجريدة، نحو «بلوك العساسة» لاستطلاع الوضع كما هو على الميدان، على الرغم من يقينهما أن حق الحصول على المعلومات، كانت وثائق أو صورا، عن أمور تتعلق بأسرار الدفاع الوطني والأمن القومي للبلد، تحرمه عليهما القوانين الدولية قبل قوانين البلد.تمر سيارة صغيرة بيضاء اللون من زنقة «العنق» بتراب مقاطعة آنفا بالبيضاء، وتتجه رأسا نحو «بلوك العساسة»، حيث ينزل الجيش، وبتجاوز منعطف قصير، تلوح بوابة الوجهة من وراء الزجاج الأمامي للسيارة، وأمامها رجال يرتدون سراويل زرقاء داكنة، وأقمصة من اللون نفسه لكنه فاتح، بالاقتراب أكثر يتأكد للقادم أنهم رجال شرطة يحرسون معسكر الجيش ! وبنباهة نادرة، يخفض السائق السرعة، ويمد يده نحو آلة تصوير، يوجهها نحو المستقبلين، وهو يضمن أن بحوزته أولى صور الموقع، ولو كانت زاوية الالتقاط عشوائية.تتوقف السيارة، ويدنو من ركابها رجل أمن على كتفيه نياشين رتبة «مقدم شرطة»، وبنظرة سريعة، أجرى مسحا حتى للمقعد الخلقي الفارغ، فينطق بأول سؤال «فين غادين آسيدي؟»، تطول المحادثة، وتتسرب إليها حتى المراوغة في الكلام، دون جدوى، ليختمها الشرطي، «هذا يتجاوزني، ويتجاوز حتى رؤسائي، إنه أمر يخص العسكر، وأعتقد أن استحضار مصلحة الوطن وأمنه من تربص الأعداء، كافيان لتقتنعا بعدم إمكانية تجاوزكما للبوابة». الاقتراب إذن، من خيام العسكر، التي لا تبعد سوى بـ10 أمتار من البوابة، مهمة مستحيلة بوجود الشرطة. يعود الزائران غير المرغوب فيهما أدراجهما، وبعد عشرات الأمتار، يلاحظان أن حافلة للسياح حلت بالمكان، والمثير للانتباه أكثر في المشهد، أن أغلبهم يحملون آلات تصوير، عالية الدقة، ويصوبون عدساتها باتجاه البحر، نحو الباحة الخلفية لمسجد الحسن الثاني، حينها يتمنى الصحفي الراغب في صورة لمعسكر الجيش لو كان، في تلك اللحظة واحدا من أولئك السياح ! عموما، الواقع في بعض الأحيان لا يسع كل الطموح، ولابد من تجريب شيء آخر.بالالتفات نحو البوابة، تلوح شابة بوشاح أسود، تغادر «البلوك»، وهي منشغلة بمحادثة هاتفية، تواصل السير، وتقترب من حيث يقف الزائر المرفوض، يقاطعها بإلقاء التحية والاستئذان، فتقفل الخط في وجه محادثها من وراء الهاتف، تتلقف أسئلة الزائر، فتجيب «في الحقيقة رجال الشرطة أمام البوابة لا يحتاجون إلى تفتيش أو مراقبة بطائق هوية الوافدين، فمعهم واحد من شباب البلوك، ويعرف القاطنين من الغرباء، ويزكي مرور الضيوف حالما كانت معلوماتهم عن الأسرة المستقبلة غير ملتبسة».11 شتنبر "كازاوية" قبل تاريخ ظهور الجيش في الشاطئ بالدار البيضاء، وعلى مستوى الصحف ووسائل الإعلام، لم يرد ما يفيد بأن البلاد تجري فيها تحركات غير عادية للجيش، وكان أبرز خبر تهتم به الصحافة هو أشغال مؤتمر حركة التوحيد والإصلاح الإسلامية، الجماعة الأم لحزب العدالة والتنمية، وكل ما يوجد، هو عدد سابع غشت من يومية «الصباح»، وورد في صفحته الأولى، خبر بعنوان عريض، ويكشف أن «المغرب مهدد بنسخة من هجمات 11 شتنبر»، وتحته عنوان صغير فيه أن «تحذيرات أمريكية تستنفر الدفاعات الجوية لدول شمال إفريقيا».ويقول المقال ذاته إن «دائرة الاستنفار العسكري، اتسعت لتشمل المغرب بعدما وصل الأمر بالجزائر وتونس إلى نصب منصات إطلاق صواريخ مضادة للطائرات، إثر توصلها بتقارير استخباراتية غربية تؤكد أن تنظيمي القاعدة بالمغرب الإسلامي وأنصار الشريعة، دشنا عملية تلغيم طائرات ليبية بالمتفجرات، من أجل شن هجمات جوية تستهدف منشآت حيوية في دول شمال إفريقيا»، ثم أشار المقال الإخباري إلى أن «المغرب لم تصل به حالة الطوارئ حد التحرك العسكري، واقتصر الأمر، فقط، على وقف البرنامج العادي لرخص العطل لدى الجنود».صبيحة يوم السبت 16 غشت، الجرائد في الأكشاك، وفي المقاهي، ومع أولى رشفات القهوة الصباحية، يطالع البيضاويون، على صفحاتها الأولى، أبرز خبر عن مدينتهم، ومعه صور لمعسكر الجيش، لكنها، كلها، ملتقطة من زاوية بعيدة، وبالضبط من باحة مسجد الحسن الثاني، أي على بعد كيلومترين من المعسكر. وفي المضمون، تصريحات لـ»مصادر مطلعة»، وأخرى لـ»خبراء عسكريين»، تخبر أن البلد مهدد في أمنه من طرف جماعات إسلامية مسلحة، وأنباء عن اختفاء 11 طائرة مدنية من مطار ليبي من المرجح أنها وقعت بيد تنظيم القاعدة، وأخرى عن اختفاء 20 مليون قطعة سلاح من البلد ذاته.امحمد خيي صمت رسمي بتوالي الأيام، تظهر روايات جديدة، وتقارير جديدة، ومعلومات على لسان مصادر ترفض الكشف عن هويتها، مقابل صمت مطبق من القوات المسلحة الملكية. أما الشباب والشيب فتعليقاتهم تتراوح بين رأي يقول «أنا أثق في جيش وطني، لا مدعاة للخوف، ففي حال وجد ما يستحق إصدار بلاغ فلن يتوانى عن ذلك»، ورأي يقول «لا نريد منهم معلومات عن أسرار الدفاع، فقط تطمين بسيط أرى أنه من صميم المصلحة العامة»، أما شريحة أخرى فهي لا مبالية ولا يسمع لها أدنى اهتمام، وفئة تخشى أن «يكون الاحتراز من الإرهاب، مبررا للتضييق على الحريات»، لكن المؤكد، من كل هذا، أن الجيش حل بشاطئ «العنق» في البيضاء، ليزاحم المصطافين، الذين يواصلون ارتياده بالوتيرة نفسها، في مشهد كان فيما مضى من السنوات نادرا جدا.

شواطئ البيضاء.. استجمام على مرمى الصواريخ

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الجهـة الشرقيـة... الهـدوء الـذي يسبـق العاصفـة

طائرات لتأمين التجمع الكيماوي بالجرف الأصفر

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات