دراسة في القانون : التركيبة القضائية لمحكمة العدل العسكري(2/2)

المشروع لم يملك الشجاعة الكافية لبناء جهاز قضائي متخصص لفائدة النيابة العامة الغريب في الأمر أن هذه الآجال الممنوحة للوكيل العام تصطدم مع المادة 72 من المشروع، التي بمقتضاها يجب على وكيل الملك إخبار الوكيل العام بالأمر الصادر بالسراح، وبالتالي لماذا تمديد الآجال إذا كان العلم بالقرار يتم في نفس الوقت بين جميع الأطراف؟. إن ما يؤكد هذا الدور الإداري هي المادة 77 من المشروع التي تنص على أنه في حالة وجود مساهمين ومشاركين يخضعون لاختصاص المحكمة العسكرية وتوصل إليهم قاضي التحقيق، فإن هذا الأخير يحيلهم على وكيل الملك الذي يحيلهم على الوكيل العام لاتخاذ القرار الذي يراه مناسب.إن وضعية الحق العام للمحكمة العسكرية حملت تناقضين رئيسيين، فقد ضمن لها المشروع استقلاليتها من خلال تعيين جلالة الملك للوكيل العام، في حين أدخلها المشروع في خضم التسلسل العسكري، بحيث لم يستطع تأسيس نظام للنيابة العامة مبني على وكيل الملك في مجال الجنح وعلى الوكيل العام في مجال الجنايات ويبقى السؤال ملحا، هل هذه الاختصاصات الادارية ذات البعد القضائي في عمل وكيل الملك تهم مجال الجنايات خاصة وأن الوكيل العام _وهذا طبيعي بصفته رئيس للنيابة العامة بالمحكمة العسكرية_ أن يوجه عمل وكيل الملك في الجنح دون مجال الجنايات الذي من المفروض أن يكون مجال محصورا على اختصاص الوكيل العام، مما يؤكد أن هناك إشكال قانوني سيحول وكيل الملك ليس إلى جهاز للنيابة العامة ولكن إلى كتابة للضبط تابعة للوكيل العام.إن الذي تحكم في هذا الإشكال هي إشكالية أكبر منها، وهي منصب رئيس المحكمة العسكرية، بحيث إن محاولة المشروع التغاضي على هذا المنصب لعدم تمكنه من الجواب على سؤال جوهري مفاده، ما هي الجهة التي تقوم بإدارة المحكمة العسكرية برأسيها؟ علما أن الأصل هو أن العمل القضائي هو مجال مدني، ونحن أمام محكمة عسكرية، فتعيين شخص مدني على رأس مؤسسة عسكرية ستجعله يقوم بخلق جسور مع الأجهزة العسكرية ومكوناتها، وما يتطلب ذلك من إلمام بالمجال العسكري وبلغته الخاصة وبمساطره المعقدة، و أن اختيار عسكريا سيطرح إشكال حول طبيعة تعامله مع مفهوم التبعية العسكرية لرئاسته بالتدرج، وتضاربها مع إلزامية استقلالية رئاسة المحكمة، وتناقض ذلك مع مفهوم التدرج العسكري، كما أن الرأي العام الدولي سينظر بشكل سلبي إلى ترأس عسكري لمحكمة متخصصة علما أن هذه المحكمة ستضم قضاة مدنيون في تركيبة غرفها، فاتجه المشروع نحو خلق منصب الوكيل العام له سلطة الأمر وسلطة الإشراف على النيابة العامة وعلى كتابة الضبط، ومن ثم سيتحول بشكل غير مباشر إلى الرئيس الفعلي الإداري للمحكمة العسكرية بواسطة وكيل الملك، غير أن هذه الحالة تختزل كثيرا من الاشكالات، فالمحاكم في العالم مكونة من أربعة أضلاع هي القضاء الجالس، والنيابة العامة، والدفاع، وكتابة الضبط، وفي غياب هذه المكونات الأربعة نكون مخالفين لشروط المحاكمة العادلة.والحقيقة أن المشروع لم يملك الشجاعة الكافية لبناء جهاز قضائي متخصص لفائدة النيابة العامة، لأن المنطق يقتضي أن نتعامل مع مؤسسة لا يجوز مطلقا أن تخالف ما نصت عليه الاتفاقيات الدولية المتعارف عليها في هذا المجال، كما لا يجوز للمحكمة العسكرية بما أنها ليست محكمة استثنائية بل هي محكمة متخصصة، أن تختلف في تكوينها وفي أجهزتها على باقي المحاكم المتخصصة كالمحاكم التجارية والمحاكم الإدارية.أما أن نعالج إشكالية الرئاسة من خلال خلق منصب الوكيل العام تحال عليه اختصاصات إدارة العدل العسكري بشكلها العام، فإن تغيير الموقع الجغرافي من إدارة الدفاع الوطني إلى داخل المحكمة العسكرية أو تغيير الصفة، لن يغيب حكما قاسيا مفاده أن الرئاسة الإدارية للوكيل العام للمحكمة يحولها _بقوة طبيعتها هته_ إلى محكمة استثنائية.إن هذه الملاحظات التي تتسم بنوع من التشاؤم لا يمكن أن تلغي في كل الأحوال ملاحظات إيجابية حول المشروع وعلى رأسها:أن المشروع من ضمن إشراقاته هو خلقه لما يسمى بتعدد مراحل التقاضي، حيث أبقى على الاستئناف الجنحي وأضاف إليه الاستئناف الجنائي والغرفة الجنحية، وما أضاف على هذه الإطلالة الإيجابية إطلالة أخرى، هي أن أعضاء الغرفة الابتدائية الجنحية اثنين منهما مدنيين وعسكري والرئيس من بين المدنيين، ونفس الشيء في غرفة الجنايات الابتدائية، وفي غرفة الجنح الاستئنافية نجد ثلاثة مستشارين منهم الرئيس مدنيا وقاضيين مدنيين ثم مستشارين عسكريين، هذا طبعا إذا علمنا أن القضاة المدنيين ورؤساء الغرف يعينون وفق الفصل 24 من المشروع من طرف الرئيس المنتدب للسلطة القضائية، والحقيقة أن هذا الفصل بما يوحي من إيجابية فإننا نرى أنه من الأفيد أن ننص فيه صراحة على أن يتم التعيين من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وليس من طرف الرئيس المنتدب، لأن الصيغة الحالية مخالفة لمقتضيات الفصل 113 من الدستور الذي يعطي هذه السلطة للمجلس الأعلى للقضاء وليس للرئيس المنتدب، وبناء عليه جاء هذا الفصل في المشروع مخالفا للدستور ويتوجب معه تصحيحه ليكون مسايرا لمضمون الدستور.من جهة أخرى ورغم أهمية هذه التحولات الإيجابية _كما أشرنا سابقا_ والتي يمكن الإشادة بها، فإن ما يهم القضاة العسكريين يطرح سؤال كبير يتعلق بالفرق بين المستشارين والقضاة العسكريين، فنحن نتحدث على فصيلين عسكريين و فصيل واحد يعين من طرف جلالة الملك وهم المستشارون العسكريون كما هو واضح في المشروع، مما يضمن استقلاليتهم.فالمادة 23 من المشروع تنص على أن لجلالة الملك بصفته القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب، صاحب الاختصاص في إصدار مقررا بقائمة الضباط المؤهلين للمشاركة في أشغال المحكمة العسكرية، بينما نصت المادة 27 على أنه يقوم بمهام النيابة العامة وقضاء التحقيق القضاة العسكريون، والإشارة الوحيدة التي في المشروع هي ما يخص هذه الفئة التي وصفتهم بأنهم قضاة وعسكريون ويكونون سلكا قضائيا مستقلا، ويخضعون لنظام قضائي خاص بهم، وحيث أن عدم إحالة تعيينهم من طرف جلالة الملك تطرح سؤالا مشروعا، هل سيخضعون للمجلس الأعلى للسلطة القضائية رغم أن لهم الصفة العسكرية نظرا لكون صفتهم كقضاة تربطهم بالفصل 113 من الدستور؟ أم أنهم أنفسهم ونظرا لصفتهم العسكرية سنربطهم بمقتضيات المادة 53 من المشروع؟ ولكل الاحتمالين دلالته، علما أن المشروع حينما نص على نظام خاص بهم فقد منح الاختصاص للسلطة التنظيمية، ولأننا في المجال العسكري فإن أي قانون تنظيمي سيحال على المجلس الوزاري هو ضمن اختصاصات جلالة الملك كقائد أعلى للقوات المسلحة الملكية.إن هذا النقاش في مختلف هذه الجوانب المشار إليها أعلاه، يفرض علينا نوعا من التفكير العميق في الانعكاسات التي ستكون لهذه المحكمة على مدى احترامنا للالتزامات الدولية وللنصوص الدستورية المنظمة للمجال القضائي ومفهوم المقومات الإدارية والقضائية للمحكمة لضمان شروط المحاكمة العادلة للعسكريين. بقلـم : عبد اللطيف وهبي, محام بهيأة المحامين بالرباط

دراسة في القانون : التركيبة القضائية لمحكمة العدل العسكري(2/2)

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

ارتفاع متزايد في أحكام ثبوت الزوجية

جيمس: سأذهب إلى الريال مغمض العينين

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات