مقصلة “الباتريموان” بالبيضاء

لوائح المباني ذات القيمة التراثية "تقتل" الاستثمار بعاصمة الاقتصاد وتقبر حركة التنمية والتشغيل تطرد المباني ذات القيمة التاريخية بالبيضاء (أو ما يسمى كذلك) مزيدا من المستثمرين خارج أسوار المدينة، وتفرض على آخرين توقيف مشاريع بملايين الدراهم، لم تحصل على رخص البناء، بمبرر وجودها في دائرة مبان، أو مساكن، أو وحدات، أو مصنفات مدرجة في المعمار التراثي القديم. وتتحكم الوكالة الحضرية للبيضاء في لائحة جرد بحوالي 2018 موقعا تراثيا ومعماريا وتاريخيا في مجموع تراب المدينة، لم تستكمل، بعد، مراحل التقييد والتصنيف، لكن تعتبرها "خطا أحمر" يمنع الاقتراب منه من قبل المواطنين وملاك المباني والعقارات والمستثمرين والمنعشين العقاريين. منذ 2019، بدأ ملاك العقارات والمساكن والوحدات، التي يحتمل أن تكون ذات قيمة تراثية، يشعرون بالخطر، بعد أن منعوا، على نحو صريح، من التصرف في ممتلكاتهم، عن طريق الهدم، أو الإصلاح، أو البناء، وإعادة بالبناء، بداعي شمولها بلائحة "الجرد". إعداد: يوسف الساكت في زاوية شارعي الزرقطوني وأنفا بمقاطعة سيدي بليوط، ترتفع حواجز مشروع استثماري ضخم، تخفي حفرا عميقة، كان من المفروض أن تشكل بداية لوضع الأساسات والطوابق الأرضية لبناء فندق دولي مصنف، حصل أصحابه على جميع الرخص الأولية، والوثائق الأساسية وأدوا ما بذمتهم من رسوم إلى الجماعة والدولة. فيلا "موفيليي" فجأة توقف كل شيء، بعد أن توصل أصحاب المشروع (من المغرب والخارج) بأمر من السلطات العمومية تمنعهم من البناء، بدعوى أن المنطقة كانت تضم فيلا قديمة "مدرجة في المباني ذات القيمة التاريخية"، وهي المعلومة التي ظهرت عدم صحتها في ما بعد (أنظر الوثيقة رفقته). الفيلا المعنية اسمها "موفيليي"، صدر في حقها قرار بالهدم في يونيو 2020، وانتهى أمرها، بينما لا يزال مشروعا استثماريا بملايين الدراهم، معلقا بين السماء والأرض في زاوية شارعي الزرقطوني وأنفا، رغم الأحكام الصادر عن محكمة الاستئناف الإدارية، ووصفت قرارات التوقيف الصادرة عن ولاية البيضاء-سطات "شططا في استعمال السلطة، مع التأكيد على ضرورة إلغائها. فمن أجل فيلا قديمة تحوم شكوك حول سياقات تصنيفها تراثا، وقرار هدمها، يتعرض استثمار مغربي/دولي إلى الضياع منذ أكثر من ثلاث سنوات، وتضيع معه أحلام بناء وحدة فندقية عبارة عن برج من 14 طابقا ويضم 104 غرف وأجنحة وهو ثمرة شراكة بين شركة ماريوت الدولية وشركة "تاور سيفت أرت"، وكان من المفروض ان يشغل 250 شابة وشابا بشكل مباشر، تضاف إلى مئات مناصب الشغل غير المباشرة. ويشكل مشروع فندق "ماريوت" نموذجا من نماذج منتشرة كثيرة في تراب العاصمة الاقتصادية، يتعرض أصحابها إلى عنف رمزي ومادي شديدين، حين يفرض عليهم مقايضة استثمارات بملايير الدرهم، بالحفاظ على مبان ومساكن وعقارات قد تحمل قيمة تراثية وتاريخية، وقد لا تحملها. من هنا وهناك بمقاطعات سيدي بليوط والمعاريف ومرس السلطان والفداء والحي الحسني وعين الشق، تتعرض مشاريع عقارية باستثمارات بملايين الدراهم إلى العرقلة والتوقف، بسبب الفزاعة نفسها، أي "المواقع الأثرية والبنايات التاريخية المرتبة والمقيدة في عداد الآثار"، وهو حق يراد به باطل، حسب متضررين طرقوا كل الأبواب وبذلوا مجهودات في إيصال وجهة نظرهم، دون أي نتيجة. وأحصت "الصباح" 5 مشاريع كبرى بحي لاجيروند بمقاطعة مرس السلطان ومشاريع عقارية أخرى بمنطقة السيال بالحي الحسني وسيدي بليوط، رفضت السلطات الترخيص لأصحابها بالبناء، بحجة "القيمة التراثية والتاريخية". ووجد فاعلون في قطاع الإنعاش العقاري، في هذه المقاطعات، صعوبة في الحصول على رخص للبناء، لأن "البنايات، أو الأراضي، أو العقارات التي قاموا باقتنائها، مدرجة ضمن مقترحات التقييد والتصنيف والترتيب في إطار المواقع الأثرية والبنايات التاريخية بالبيضاء". وقال منعشون لـ"الصباح" إن هذه "المعلومة" لا تطفو على السطح إلا بعد وصول ملف طلب رخص البناء إلى مراحله النهائية في منصة "كازا إيربا" للرخص بالشباك الوحيد للتعمير، وبعد أن يكون صاحب المشروع انتهى من جميع المراحل، بما فيها شراء العقار وتحفيظه، وأداء ثمنه والتأكد من صنفه في تصميم التهيئة وباقي الإجراءات الأخرى، ومنها أساسا "الكاداستر" والاطلاع على ورقة المعلومات الخاصة بالعقار، المسلمة من الوكالة الحضرية. وقد لا تتضمن ورقة المعلومات الخاصة بالعقار، التي تعتبر بمثابة دستور له، أي معطيات عن وجود العقارات والمباني المعنية في دائرة المصنفات ذات القيمة التراثية والتاريخية، لكن تظهر فجأة هذه "المعلومة"، حين يصل الملف إلى مرحلة الحصول على رخصة بالبناء. "قانون الجرد" وتعتبر البيضاء المدينة الوحيدة في المغرب (ربما في العالم) التي تتحول فيها لائحة جرد مبان وعقارات ومساكن ووحدات يحتمل أن تكون ذات قيمة تاريخية وتراثية، إلى "قانون ملزم"، علما أن الأمر يتعلق، فقط، بمرحلة أولى في مسطرة طويلة من الدراسة والترتيب والتصنيف والترتيب والتسجيل تتكلف بها وزارة الثقافة، باعتبارها الجهة الوصية. ففي ماي 2018، أعلنت الوكالة الحضرية للبيضاء، عن إطلاق الشوط الأول من دراسة لتثمين التراث المعماري والحضري والتاريخي للعاصمة الاقتصادية، إذ كانت البداية من مقاطعة سيدي بليوط، عبر جرد المآثر ووضع مخطط للحفاظ عليها. وشكلت الوكالة الحضرية لهذا الغرض، لجنة للقيادة منحت رئاستها إلى والي جهة البيضاء-سطات، ما أتاح، في البداية، جرد حوالي 2000 وحدة مبنية، وحوالي 30 فضاء حضريا تمثل مدارس هندسية متنوعة، ثم انتقل الجرد، في مرحلة ثانية، إلى مجموع تراب البيضاء، في حين اعتبرت المدينة القديمة تراثا ثقافيا وطنيا منذ 2013. وحتى قبل أن يصبح الجرد حقيقة ملموسة في شكل تراث معماري مصنف ومرتب ومعترف به (مهمة وزارة الثقافة صاحبة الاختصاص)، قررت الوكالة الحضرية إدراج خلاصات الدراسة الأولية في مشروع تصميم تهيئة مقاطعة سيدي بليوط، الذي تمت المصادقة عليه في ما بعد، بالتنطيق نفسه الذي يمنع البناء، أو التصرف في بعض المجالات، باعتبارها موضوع جرد. الوالي يغير قراره من جانبه، قرر والي البيضاء-سطات تغيير فصول القرار العاملي رقم 2564، الصادر في 25 غشت 2020، المتعلق بإحداث اللجنة العمالية لحماية التراث المعماري بعمالة بالبيضاء. وعهد الوالي إلى هذه اللجنة، التي يترأسها شخصيا، أو من يمثله، وتضم عددا كبيرا من المؤسسات والقطاعات، مهمة حماية التراث المعماري بعمالة البيضاء عبر البت في طلبات هدم أو تغيير البنايات، أو إضافة طوابق أخرى، لكن الجديد الذي حمله تعديل القرار العاملي، جاء في الفصل الثالث منه. ويؤكد هذا الفصل أنه لا يمكن التصرف في البنايات المضمنة بلائحة البنايات ذات قيمة تراثية، التي تم جردها في إطار الدراسة المنجزة من قبل الوكالة الحضرية إلا بعد استشارة اللجنة المكونة من عدد كبير من المؤسسات العمومية وقطاعات وزارية وجمعيات ومهندسين معماريين. وتسبب تشكيل هذه اللجنة وحصر مهامها في الاعتماد على الجرد المنجز من قبل الوكالة الحضرية، في مشاكل كبيرة بين ملاك المباني والعقارات الذين يرغبون في استصدار رخص للهدم والإصلاح، كما تسببت في تعطيل مصالح المواطنين والتنمية في عدد من المقاطعات. الجماعة تحمي نفسها لأن ملفات الترخيص بالهدم والإصلاح والبناء تندرج في اختصاصات المقاطعات والجماعة، وجد الفريق السابق، الذي كان يقوده العدالة والتنمية في موقف لا يحسد عليه من قبل المواطنين، خرج منه سالما (نسبيا) بتوقيع مذكرة من قبل النائب الثاني المفوض له في التعمير تضمنت إجراءين: أولا: بخصوص رخص الهدم، سيتم منح المسؤول المكلف بموضوع المحافظة على التراث والآثار بالمديرية الجهوية لوزارة الثقافة، إمكانية إبداء رأيه بهذا الخصوص بطريقة رقمية عبر منصة "رخص" وفق صيغة تمكن من التحقق بشكل أكثر دقة، مما إذا كانت البناية موضوع طلب الهدم، مقيدة، أو مرتبة، أو موضوع مسطرة تقييد أو ترتيب ضمن الآثار. ثانيا: بخصوص رخص الإصلاح، ستتولى مصالح المقاطعات المعنية التواصل مباشرة مع المديرية الجهوية لوزارة الثقافة، وإحالة الملفات موضوع الطلبات عليها قصد الحصول على رأيها بشأن مدى مساس الإصلاحات المطلوبة بالبنايات المقيدة، أو المرتبة، أو تلك التي تشكل موضوع تقييد أو ترتيب ضمن الآثار. وقال المكلف بالتعمير إن هذه التدابير ضرورية في انتظار صدور وثيقة رسمية ومحينة، عن مصالح السلطة الحكومية المكلفة بالثقافة، تحدد لائحة البنايات المقيدة، أو المرتبة أو تلك التي هي في طور التقييد، أو الترتيب ضمن الآثار. وتمر الأيام، ولا يظهر أي أثر لهذه اللائحة الصادرة عن وزارة الثقافة، بينما تحل محلها وثيقة للجرد، لا ترقى إلى مستوى مسطرة الترتيب والتصنيف والتقييد. الوزير مطالب بالتدخل لم تفهم مصادر "الصباح" التي رفضت الكشف عن هويتها في هذا الملف، كيف تتحول "مجرد" لائحة مقترحات لمواقع قابلة إلى التصنيف في مجال التراث المعماري إلى قانون معمول به في البيضاء، مؤكدة أن عملية الجرد ليست سوى مرحلة أولى من مراحل أخرى ضرورية. وقالت المصادر إن الجرد ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة لضبط بعض المصنفات التي يمكن أن تكون ذات قيمة تراثية، إذا خضعت إلى الدراسة والبحث من قبل خبراء في المجال يشتغلون تحت وصاية وزارة الثقافة من أجل تصنيفها من عدمه، وهي عملية تتطلب سنوات من العمل والدقة التقنية والأمانة العلمية. وبعد الانتهاء من مسطرة الترتيب والتصنيف والتقييد، تتحول الملفات موضوع الدراسة إلى قرارات تنشر في الجريدة الرسمية في شكل لوائح نهائية، توضع رهن إشارة المعنيين وتعلق في الإدارات العمومية ومواقع التواصل الاجتماعية، كما تضم "صفة تراث مصنف ومقيد" إلى ورقة المعلومات الخاصة بكل رسم عقاري وبشكل واضح لا غبار عليه. وأكدت المصادر أن وزير الثقافة والاتصال الحالي ملزم بالتقيد بالقانون في هذا الإطار، وعدم التورط في محاباة أي جهة على حساب الحقيقة، كما عليه إصدار تعليماته إلى مصالحه في المدينة من أجل الإشراف على تتبع الملفات المحالة عليها من قبل الوكالة الحضرية وإصدار قرار في شأنها، أي نقل المباني والعقارات والمساكن المعنية من حالة الجرد، إلى وضعية التصنيف والتقييد. واعتبرت المصادر نفسها أن الضبابية التي تسير بها هذا القطاع الحساس ستكون نتائجها وخيمة على واقع الاستثمار والتنمية بالمدينة، كما تذكي شعورا سلبيا لدى الفاعلين الاقتصاديين الذين لا مشكل لهم مع عمليات تثمين المعمار التاريخي والحفاظ عليه، لكن المشكل يكمن في نوع من المقاربة، تفتح الباب على الشك، وتكرس منطق "طلع تاكل الكرموص، نزل شكون كالها ليك". وحمل متتبعون مسؤولية ما يقع في القطاع إلى والي الجهة (سعيد احميدوش)، بصفته رئيسا للجنة الآنف ذكرها، وأساسا ممثلا لصاحب الجلالة الذي ما فتأ يوصي برفع جميع العراقيل أمام المستثمرين والاستثمار، مكلفا الولاة بهذه المهمة. كما حمل مستثمرون المسؤولية أيضا إلى وزير الثقافة والاتصال، إذ يعتبر صمته تزكية للجرائم التي تمارس في حق المدينة باسم وهم كبير اسمه "التراث"، مؤكدين أن منطق تسيير الدولة، ينبغي أن يحتكم إلى القانون، وليس إلى تصفية الحسابات والانتقام، وشعار "طحن مو". قرار زاد الطين بلة تحت عنوان حماية التراث المعماري من السرقة والنهب والتطاول، وجهت الوكالة الحضرية، في فاتح شتنبر 2020، رسالة مفصلة مرفقة بعدد من التصاميم والبيانات إلى عثمان الفردوس وزير الثقافة السابق، تطلب منه تقييد مساحة شاسعة، ضمنها مقاطعة سيدي بليوط بكاملها، في عداد الآثار التاريخية. وبمجرد توصلها بها، حول وزير الثقافة السابق الرسالة إلى قرار حمل عدد 145.21، وصدر بتاريخ 21 يناير 2021 في الجريدة الرسمية في عدد 4 مارس من السنة نفسها، ويقضي بتقييد المجال الحضري التاريخي للبيضاء في عداد الآثار، ومنع إحداث أي تغيير في المكونات التراثية لهذا المجال، قبل إخبار الوزارة الوصية بمدة لا تقل عن ستة أشهر من بداية الأشغال. ومنذ ذلك الحين، أضحى هذا القرار الوزاري أشبه بسيف ديمقليدس معلق على رقاب المستثمرين في مجال العقار والسياحة وباقي القطاعات الأخرى التي تشجع الدولة على الاستثمار فيها وتسهيل الإجراءات أمام القطاع الخاص ورؤوس الأموال المحركة للتنمية ومناصب الشغل. ولا يكاد المستثمرون ينفلتون من القرار الوزاري (الذي تجري محاولات للتراجع عنه من قبل الوزارة الحالية الوصية على الثقافة)، حتى يجدون أنفسهم مقيدين بلائحة جرد للمباني التاريخية، تشهرها السلطات العمومية متى شاءت في وجه مستثمرين، وتخفيها عن آخرين، حسب المزاج والأهواء.

مقصلة “الباتريموان” بالبيضاء

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

مشاهير

الغلاء يخيم على الحوار الاجتماعي

مقالات ذات صلة