القانون الجنائي مازال عاجزا عن حل إشكالات مرتبطة بالوضع النفسي وأعراف المجتمع وتنازلات أسرة الضحية لم يعد خافيا على المجتمع المغربي بمختلف مكوناته السياسية والقضائية والحقوقية والمدنية، الإشكال المرتبط بجرائم اغتصاب الطفولة، خاصة لما يتعلق الأمر بالفتيات، فالضحية تُغتصب مرتين، فبعد الاعتداء عليها جنسيا، إما أن ينال مغتصبها حكما مخففا عن طريق الاعتماد على ثغرات قانونية أمام انعدام دلائل تدينه رغم تورطه، أو تنازلا من قبل أسرتها. إنجاز: محمد بها أظهرت مجموعة من الأحداث التي هزت مدن وقرى المغرب، كيف تواجه عملية معالجة قضايا اغتصاب القاصرات صعوبات بالغة، تتأرجح ما بين الإدانة وضياع مستقبل الضحية أو المساومة بالزواج وإفلات المغتصب من العقاب، رغم أن الأمر ينحصر في جريمة اغتصاب تستحق تشديد العقوبة، وليس البحث عن أنصاف الحلول لمعالجة جريمة كاملة استهدفت أطفالا أبرياء وقاصرين في عمر الزهور. وعادت حوادث اغتصاب الطفولة إلى واجهة الأحداث، بعد تسجيل واقعة الاغتصاب الوحشي والاستغلال الجنسي الذي تعرضت له قاصر تيفلت، نتج عنه افتضاض بكارة وحمل، قبل أن تتفجر القضية بعد صدور حكم مخفف على المتهمين الثلاثة. وهي القضية التي أثارت العديد من الأسئلة، من بينها، هل أعراف مجتمعنا باتت تتحكم في تبني أحكام تتساهل مع اغتصاب الأطفال، خاصة إذا كان المتهم عديم السوابق وباشر إجراءات الزواج للتغطية على جريمته التي يعتبرها "خطأ" يستوجب الإصلاح؟، وهل نتوفر على قانون قادر على تحقيق الردع اللازم وتشديد العقوبة على المتورطين في الاغتصاب عوض الإفلات من الحساب والعقاب؟...أسئلة وأخرى نحاول الإجابة عنها، من خلال جلسة الأسبوع. النقطة التي أفاضت الكأس خلف الحكم الذي أصدرته غرفة الجنايات الابتدائية لدى محكمة الاستئناف بالرباط، بإدانة متورطين في اغتصاب واستغلال جنسي للطفلة سناء التي تتحدر من ضواحي تيفلت، بعقوبات مخففة لا تتجاوز في أقصاها سنتين حبسا نافذا، رغم خطورة أفعالهم الإجرامية، احتقانا كبيرا وسط الرأي العالم والحقوقيين ومختلف الشخصيات، على رأسهم وزير العدل. وتتمثل فضيحة قرار إدانة المتهمين المتابعين في حالة اعتقال، بأحكام مخففة، في معاقبة متهمين أحدهما متزوج بسنتين حبسا نافذا في حدود 18 شهرا وموقوفا في الباقي، بينما قضت في حق المتهم الثالث بسنتين حبسا. وحددت المحكمة ذاتها، تعويضا للضحية القاصر التي كانت تبلغ 11 سنة حين تعرضها لهذه الجرائم الخطيرة، في حدود 20 ألف درهم بالنسبة إلى المتهمين الاثنين، و30 ألفا بالنسبة إلى المتهم الثالث، على خلفية اغتصاب وهتك عرض الطفلة. وحسب الملف الذي اطلعت "الصباح" على نسخة منه، فإن أحد المتهمين كان أول من عرضها للاغتصاب وافتض بكارتها، قبل أن يعدها بالزواج، في حين أن المتهم الثاني كان يقتحم بيت أسرتها مستغلا غياب الأب والأم للاعتداء عليها جنسيا بطرق شاذة أمام عيني جارتها القاصر. أما المتهم الثالث والمتزوج، فكان في حالة سكر طافح، أثناء حضور الضحية حفل زفاف، قبل أن يمارس عليها الجنس بعدما أدخلها بالقوة إلى غرفة بيته وهددها بالقتل. ومن الأمور الخطيرة التي تضمنها الملف، أن الجناة الذين تتراوح أعمارهم ما بين 25 سنة و37، لم يكتفوا بتعريض الضحية للاغتصاب، بل قرروا مواصلة استغلالها جنسيا عن طريق التهديد بالقتل إن أخبرت والديها بما يجري لها. ورغم أن الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط، انتصر للضحية، حينما قرر الطعن في الحكم واستئنافه، ضمانا لإنصاف القاصر وإحقاق الحق، حيث انطلقت جلسات التقاضي المتعلقة باستئناف الحكم أمام محكمة الجنايات، إذ تأجل النظر في الملف إلى 13 أبريل الجاري لاستدعاء الشاهدة، وبينما أثبتت الخبرة الجينية أن الجنين يعود لأحد المتهمين، الذي تم الترخيص له بإنجاز وثائق البنوة والإنفاق، فإن مضمون الإدانة فتح نقاشا مجتمعيا حادا حول كيفية التعامل مع قضايا اغتصاب الطفولة. وأجج الحكم الصادر غضب مختلف الهيآت الحقوقية، التي اعتبرته فضيحة وخطأ يستوجب فتح تحقيق من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية لكشف خلفياته، ولترتيب الجزاءات وإعادة الأمور إلى نصابها. وبدوره، دخل عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، على خط القضية، بالقول إنه صعق لمضمون الحكم في حق المتهمين في ملف اغتصاب طفلة بتيفلت، معبرا عن ارتياحه لخطوة استئناف النيابة العامة الحكم، حماية للضحية وحسن تطبيق القانون. صرخات حقوقيين عبر حقوقيون عن استغرابهم لقرار غرفة الجنايات الابتدائية إدانة المتهمين بعقوبات مخففة، ضمنهم المحامي محمد الغلوسي، الذي قال إن القضاء الذي يعول عليه لردع ممارسات إجرامية في حق الطفولة يقضي بعقوبة هزيلة في حق المتهمين، عقوبة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تطبع مع الاعتداءات الجنسية على الأطفال وتشجع عليها، مؤكدا أنه على غرفة الجنايات الاستئنافية أن تتصدى لهذه الوضعية الشاذة وأن تحمي أطفالنا من الوحوش البشرية. وأضاف الغلوسي "قيل إن غرفة الجنايات قررت منح المتهمين ظروف التخفيف لعدم سوابقهم القضائية. إنه حكم شاذ يشكل انتكاسة حقوقية وانتهاكا صارخا لحقوق الضحية ويسائل خطاب التخليق والنجاعة في مرفق العدالة. هو حكم يفرض على المجلس الأعلى للسلطة القضائية إجراء بحث معمق على ظروف وملابسات صدوره وترتيب الجزاءات القانونية الضرورية". وبدوره، أصدر المرصد المغربي للعنف ضد النساء "عيون نسائية" بلاغا عبر فيه عن إدانته لمضمون الحكم المثير للجدل، مجددا تضامنه مع الطفلة سناء وأسرتها، ومع جميع ضحايا الاعتداء الجنسي بسبب المعاناة من العزلة والوصم والعقاب الاجتماعي وتعقيدات المسطرة القانونية. وانتقد مرصد عيون نسائية، اعتماد القضاء ظروف التخفيف التي يتيحها الفصل 147 من القانون الجنائي، مع أجل تمتيع الجُناة بحكم مخفف من شأنه إشاعة ثقافة التسامح مع العنف ضد النساء والفتيات، وتكريس الإفلات من العقاب في قضايا الاغتصاب. وعلى المنوال نفسه، سارت «منظمة ما تقيش ولدي»، التي عبرت عن تأسفها لاستمرار عناصر التخفيف في عقوبات الجُناة التي تعتبرهم وحوشا آدمية، ملتمسة من المحكمة في مرحلة الاستئناف تدارك هذا الخلل بتشديد عقوبة المتهمين، والضرب بشدة على كل من تسول له نفسه المساس بالأطفال والقاصرين. المغتصبون الأجانب... الفضيحة ليست قضية قاصر تيفلت ما أثار الجدل، بل هناك أحداث أخرى تتعلق بكيفية التعامل مع الجناة الأجانب، آخرها الفضيحة التي باتت تُعرف إعلاميا بملف "البيدوفيل الكويتي" التي هزت استئنافية مراكش. وتحولت جريمة اغتصاب "الكويتي" لقاصر إلى قضية رأي عام، بعد أن استطاع الفرار من المغرب فور تمتيعه بالسراح المؤقت دون شروط، عوض وضعه تحت المراقبة القضائية وسحب جواز سفره ومنعه من مغادرة التراب الوطني. وفي الوقت الذي وضعت فيه سفارة الكويت التزاما ضمانة بإحضاره للمحاكمة في حالة تمتيعه بالمتابعة في حالة سراح مؤقت، وجدت نفسها في موقف محرج بعد أن تخلف المتهم عن حضور جلسات محاكماته لما يقارب الثلاث سنوات. وشكل تخلف المتهم الأجنبي عن حضور جلسات محاكمته، موضوع احتجاجات جمعيات حقوقية ومراسلات لها، حيث قررت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع المنارة، الطرف المدني الوحيد في القضية، مراسلة المسؤولين القضائيين بمراكش من أجل إحضار المتهم لمتابعته حضوريا، مشددة على أن فراره من العدالة لن يوقف تصميمها على سلك المساطر القانونية الدولية والوطنية. وطالبت الجمعية الحقوقية السلطة القضائية ووزارة العدل ووزارة الشؤون الخارجية، بالعمل كل من موقعها واختصاصاتها على مطالبة الدولة الكويتية بتسليم المتهم الذي سبق أن اعترف بالمنسوب إليه بشكل مدقق أثناء البحث المنجز من قبل الشرطة القضائية وأثناء البحث التفصيلي لدى قاضي التحقيق، معتبرة واقعة التسامح معه وتركه يغادر أرض الوطن مسرح الجريمة فضيحة مدوية. فراغ قانوني قال عمر أربيب، رئيس فرع المنارة مراكش للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، إن قضية القاصر ضحية الاغتصاب الوحشي بتيفلت، يمكن اعتبارها واقعة تتعلق بتكوين عصابة إجرامية وجبت متابعتها بجناية في هذا الشق طبقا للقانون الجنائي. وأوضح أربيب، أن القانون الجنائي مازال متخلفا مقارنة بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ذلك أنه مازال ينص في فصوله على الاغتصاب المقرون بالعنف، والاغتصاب بدون عنف، في حين أن الاستغلال الجنسي للقاصرين واغتصابهم يعد عنفا بينا، مضيفا "اتفاقية حقوق الطفل والبروتوكول الملحق بها المتعلق بحظر الاستغلال الجنسي يقران بذلك، وأن الاجتهاد القضائي وفق القانون المقارن يعتبر كل اغتصاب عنفا، وبالتالي فالحديث عن الاغتصاب بدون عنف قد يفهم التوجه نحو التخفيف في الأحكام». وتأسف الفاعل الحقوقي، للجوء بعض القضاة إلى طرح إمكانية زواج القاصر من مغتصبها، خاصة إذا كان عمرها بين 15 سنة و18، متسائلا عن مصير تعديل الفصل 475 من القانون الجنائي المتعلق بذلك وبزواج القاصرات، مستحضرا قضية أمينة الفيلالي من العرائش وانتحارها، رفضا لإعادة اغتصابها مرات عديدة بتزويجها من مغتصبها. وأضاف أربيب، أن هناك بعض القضاة الذين مازالوا يتعاملون بعقلية داخل المجتمع ولا يحترمون سلطان القانون المحلي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، إذ بعض القضاة للأسف ينظرون للقاصر، خاصة إذا كانت فتاة عمرها 15 سنة فما فوق، على أنها مشاركة في الفعل وأنها قبلت برضاها الاغتصاب. وشدد على أن ضعف سلطة الردع القانوني بإصدار أحكام مخففة، يشجع حالات العود والتمادي في استغلال القاصرات والقاصرين جنسيا، مشيرا إلى قضية إصدار بعض الأحكام بالبراءة في حق المشتبه فيهم بدعوى عدم توفر الأدلة التي تدينهم، متسائلا عن هوية الفاعل المحتمل، خاصة إذا توفرت أدلة الاغتصاب العلمية، من شهادات وخبرة طبية تؤكد وجود الفعل المادي للجرم. ولم يفت المتحدث، الإشارة إلى وجود إشكال آخر يتعلق بتنازل الطرف المدني، خاصة أسرة الضحية، بعدما تم الوقوف على حالات تنازل فيها المشتكي أمام مواطن مغربي أو مواطنين أجانب، مما يدفع القضاء لإصدار حكم مخفف جدا، "وهو ما يتوجب معه وضع القاصر قانونيا تحت مسؤولية قاضي القاصرين إلى حين انتهاء الدعوى العمومية". وختم عمر أريبب أنه لا يمكن وضع حد للظاهرة بما فيها الاستغلال الجنسي للقاصرين من قبل الأجانب، ما لم يتم إصلاح منظومة العدالة، وتقوية دور الخلايا المعنية بالعنف ضد الأطفال والنساء سواء الموجودة بالمحاكم أو مفوضيات الشرطة، والعمل على انفتاحها على المكونات الحقوقية وكل المجالات المعنية بحقوق الطفل في شموليتها، والارتقاء بحقوق الطفل وجعل مصلحته الفضلى فوق كل اعتبار، ممارسة وتشريعا باعتماد سياسات عمومية واضحة، والقضاء على مسببات الظاهرة واجتثاثها من جذورها الثقافية والاجتماعية. محاكمة شعبية للجناة والقانون أثارت قضية الطفلة سناء ضحية الاغتصاب والحكم المخفف على مغتصبيها، نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، الذين تفاعلوا مع الواقعة المأساوية بالتعليق عليها وخوض نقاشات تحاول سبر أغوار الظاهرة المقلقة المرتبطة باغتصاب القاصرين، بحثا عن الأسباب والحلول. من بين التدوينات التي تجاوب معها عدد من "الفيسبوكيين" في العالم الأزرق، تأسف إحدى الطالبات على قضية الطفلة سناء بالقول "سمحي لينا أختي تغتاصبتي جوج المرات، ولكن حقك ماغاديش إضيع، حنا كلنا معاك والقانون فوق الجميع، ما ضاع حق وراءه طالب". ومن جهتها، التمست أستاذة بالتعليم الثانوي، مراجعة الحكم خلال مرحلة الاستئناف بتشديد العقوبة على الجناة بشكل يتناسب مع خطورة الجريمة المرتكبة، والعمل على مراجعة جذرية وشاملة للقانون والمسطرة الجنائيين، لحماية ضحايا الاغتصاب وإنصافهم. وعبرت إحدى الأمهات عن استغرابها لهذا الحكم، مشيرة إلى أنه باعتبارها أما، فإن تخفيف العقاب عن الجناة يخلف جروحا يصعب أن تندمل بالنسبة للضحية وأسرتها، مضيفة "مادامت الضحية قاصرا والجريمة ثابتة في حق الجناة حسب التقرير الطبي، فإنه كان الأجدر ألا يقل الحكم عن 20 سنة حتى يكون هناك إنصاف للضحية وضمانا لعدم تكرار اغتصاب الطفولة وإثارة العقد والأحقاد وسط المجتمع". والتمس فاعل جمعوي من المجلس الأعلى للسلطة القضائية فتح تحقيق لمناقشة وكشف خلفيات هذا الحكم المخفف جدا، مضيفا "إن الجريمة بشعة وثابتة في حق الضحية سواء تم اغتصابها، أو غرر بها فهي تظل قاصرا، ولذلك يجب إعادة النظر في الحكم الابتدائي وإرجاع الأمور إلى نصابها".