عدل لقاض : “حنا سلمنا بين إيدكم”

رددها باستسلام بعد أن تمت محاصرته وزميله بأسئلة محرجة في ملف تزوير وصية الساعة تشير إلى التاسعة صباحا. جماعات صغيرة تضم محامين وحدهم، أو مع أقارب موكليهم أمام بوابة القاعات. الكل منخرط في نقاش، تشعر كأنها استعدادات أولية وترتيب آخر الأوراق للقضية التي سيترافعون فيها قبل ولوج قاعات المحكمة. في ظرف زمني قصير، خلت الساحة من الجميع، باستثناء بعض الأشخاص، سارع رجال الأمن إلى تخييرهم بين دخول قاعات أو مغادرة المحكمة. القاعة 7... معركة "الكولوار" شكلت القاعة 7 الاستثناء، حيث شهدت اكتظاظا غير مسبوق، لدرجة أن أغلب أقارب المتهمين لم يجدوا مكانا للجلوس، فاضطروا للوقوف، متسببين في صعوبات كبيرة لرجال الأمن ومحامين للانتقال صوب المكان المخصص لهم في المقاعد الأمامية. أمام هذا الوضع، اضطر أمنيون للتدخل لتحرير "الكولوار"، في البداية استجاب الجميع، لكن بعد دقائق عادت الفوضى نفسها، بل زادها ضجيج، بعد أن انخرط الجميع في نقاشات بصوت مرتفع، استفزت المكلفين بأمن المحكمة، ودفعتهم إلى عتاب المتورطين وتهديدهم بطردهم من القاعة في حال لم يلتزموا الصمت. في ظرف قياسي عم صمت غير عاد، خرقه فقط بكاء رضيع، سارعت والدته إلى ثنيه عن ذلك دون جدوى، كلما حاولت إسكاته ارتفع صوت البكاء، ولما صمت الرضيع، أثارت فتاة ترتدي "جلابة" غضب الجميع، عندما تعمدت المشي بطريقة مستفزة، تسبب صوت حذائها في إزعاج كبير، لم تكترث للتنبيهات وواصلت "جران الرجلين" إلى أن لحقت بقريبة لها، وانخرطت معها في حديث غير عابئة بقدسية المكان. فجأة حدثت المعجزة، إذ التزم الجميع الصمت، وبدا صوت رئيس الجلسة يسمع حتى من مكان بعيد وبوضوح كبير، يتلو أرقام الملفات ويتشاور مع دفاع المتهمين لتحديد تاريخ جديد للمحاكمة. ورطة عدلين على نقيض القاعة 7، ينبهر كل من ولج القاعة 8 بصمت غريب، وشاشتين عملاقتين مخصصتين للمحاكمة عن بعد، مع عدد قليل من الحضور، انتشروا هنا وهناك بين الكراسي. شرع رئيس الجلسة في الاطلاع على الملفات، وبتشاور مع عدد من المحامين قرر تأجيل عدد منها. في لحظة ولج مسنان بزيهما التقليدي القاعة، جلسا معا لفترة ليست بالطويلة، قبل أن يطلب منهما الانتقال إلى الصف الأمامي، حيث شرع في النظر في ملفهما. نادى رئيس الجلسة على أحدهما، إذ وقف في قفص الاتهام وهو مرتبك. تبين في ما بعد أنهما عدلان، متابعان بجناية تزوير رسم إراثة، استغله شخص للسطو على ممتلكات ملياردير، فارق الحياة بالخارج. وجد العدل نفسه في موقف حرج، بعد أن حاصره دفاع الورثة ورئيس الهيأة بأسئلة محرجة، حول ظروف تحرير رسم الإراثة وموضوع الوصية المشكوك فيها. كان يجيب بارتباك يسقطه لمناسبات في تناقض. تشعر به كأنه يتمنى لو انشقت الأرض وابتلعته على أن يكون في ذلك الموقف، بعد سنوات طويلة من العمل، خصوصا عندما سئل إن كان قد اطلع على الوصية والتأكد من صحتها. أجاب العدل بلغة المستسلم بالنفي، قبل أن يطلب منه رئيس الجلسة العودة إلى مكانه، ونادى على زميله العدل الثاني ليحل محله. ضحايا الجهل بالقانون على نقيض زميله، حاول العدل الثاني التماسك وعدم التسرع في الجواب، تفاديا لأي تضارب في أقواله. خلال رده على أسئلة محامي الورثة ورئيس الجلسة، حاول العزف على وتر، ربما ينقذه من الورطة، وهو الجهل بالمساطر القانونية، إذ جوابا عن سؤال حول استعانته وزميله بشهادة إدارية صادرة عن كتابة الضبط، باعتبارها دليلا قاطعا على عدم استئناف الطرف المدني حكما يخص الوصية موضوع الجدل بدل وثيقة عدم الطعن بالاستئناف المعمول بها، صرح أنه رفقة عدول آخرين ضحايا غياب التكوين في القانون ومساطره المعقدة، مضيفا أن تكوينهم العلمي لا يتجاوز الدراسات الإسلامية، وبالتالي يصعب عليهم التمييز بين الشهادات والقرارات الصادرة عن المحاكم، لهذا اعتقد وزميله أن الشهادة الإدارية التي استعانا بها في تحرير رسم الإراثة، تفيد بشكل قاطع عدم استئناف الحكم. وشدد العدل على أن ما جعله ورفيقه يطمئنان لصحة الوثيقة، أنها تخص حكما حصر الوصية في الثلث، على مذهب الإمام مالك، بعد أن كان صاحبها يطالب بجميع ممتلكات الهالك، قبل أن يخاطب رئيس الجلسة بنوع من الاستسلام "حنا سلمنا بين أيديكم" إقرارا بتورطهما في خطأ، حسب قوله، غير مقصود. "فاطمة ... وااا فاطمة" في خضم النقاش القانوني حول قضية تورط العدلين في التزوير، والصمت المطبق للحضور، الذين كانوا يستمتعون بنقاش قانوني نادرا ما تصادفه في جلسات المحاكم، سواء من قبل دفاع الطرف المدني والمتهمين أو ممثل النيابة العامة، الذي شدد بلغة فصيحة وقانونية على وجود التزوير وطالب بإدانة المتورطين، والطريقة المتميزة التي أدار بها رئيس الجلسة المناقشة والنباهة في طرح الأسئلة، (في خضم ذلك)، ولجت امرأة في الأربعينات من العمر خلسة إلى القاعة، وتقدمت خطوات إلى الأمام قبل أن تتوقف وتنادي على امرأة تجلس في مكان قصي، بصوت مرتفع وبتهور، "فاطيمة...وااا فاطمة"، ما استفز الحضور ورئيس الجلسة الذي ضرب بيده على المنصة بكل قوة وغضب، أربكت رجل الأمن المكلف بالحراسة الذي سارع إلى توبيخها على ما قامت به وقام بإخراجها في الحال. مصطفى لطفي

عدل لقاض : “حنا سلمنا بين إيدكم”

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

خالد الحري مدير نشر "الصباح"

التحقيق في تزوير ملفات استيراد

مقالات ذات صلة