تهريب الذهب… رائحة التواطؤ

تضارب الأرقام يؤكد استفحاله وغموض يلف التراخي في محاربته رغم خطره على الاقتصاد البحث في ملف تهريب الذهب غريب ومثير، فالوقائع والأرقام وتصريحات الفاعلين في القطاع تؤكد ذلك بيقين، لكن من الصعب تعقب أساليبه وطرقه وتوجيه أصابع الاتهام إلى جهة محددة، كأن هناك تواطؤا من الجميع، وأبسط دليل على ذلك طرح تساؤل عاد جدا، وهو لماذا الصرامة والزجر في ضبط التهريب و تبييض الأموال بقطاعات أخرى، فيما يتم رفع اليد بشكل مبهم وغير مبرر عن قطاع الذهب والفضة، ما فتح بابه على مصراعيه لكل من هب ودب، حتى شكل سوق الذهب المغربي استثناء عالميا، ترتفع أسعاره وتنخفض، بجرة قلم للوبي متحكم في هذا القطاع، دون حاجة إلى إطلالة صباحية على البورصة العالمية. إنجاز: مصطفى لطفي من بين العقبات التي صادفت إنجاز هذا التحقيق، تحفظ بعض الفاعلين الجمعويين عن الإدلاء بأي تصريح. منهم من نفى بشكل قاطع وجود تهريب، وتمسك أن الحلي والمجوهرات المعروضة للبيع مغربية الصنع، وأن ما يتم ترويجه في وسائل الإعلام يحمل الكثير من المبالغة، وهو الطرح الذي رفضه آخرون، وأبدوا استعدادهم تقديم يد العون في هذا الملف، لكن بتحفظ ومع طلب عدم ذكر أسمائهم، باستثناء يوسف الباز، رئيس الجمعية المهنية للصياغين بإنزكان، وعضو مؤسس لإتحاد الوطني للحلي والمجوهرات، الذي قرر خوض في هذه المغامرة دون حرج، ببساطة لأنه من ضحايا مافيا الغش وتهريب الذهب والفضة، كما هو الأمر بالنسبة إلى آلاف من المهنيين بكل ربوع المغرب. يعتبر يوسف الباز، شاب في الأربعينات من العمر، كنزا ثمينا من المعطيات خلال إنجاز هذا التحقيق. بصدر رحب قبل بالفكرة، وتم تحديد موعد بمقهى وسط البيضاء. حضر قبل الموعد بربع ساعة، بدا نحيفا، كأن "فقصة" القطاع أفقدته عدة كيلوغرامات من وزنه. استقبلنا بابتسامة وترحاب كبير، ودون انتظار قدوم النادل للوقوف على طلباتنا، أطلق العنان للسانه للحديث بطريقة هتشكوكية، ساهمت شيئا فشيئا في رفع اللبس عنه. على طريقة المؤرخين، أجرى يوسف الباز مقارنة بين وضعية سوق الذهب بالمغرب في سنوات السبعينات، التي قسمها إلى فترة ما قبل 1977، حيث كان الصانع يقتني الذهب الخام عن طريق "بون"، وتحت إشراف الدولة، وما بعد هذا التاريخ، حيث تم فك الارتباط مع ثقافة "البون"، خصوصا بعد ارتفاع أسعار الذهب على المستوى الدولي، مشددا على أنه منذ تلك السنة إلى بداية الألفية الثالثة، كان الذهب الخام يدخل إلى المغرب بطريقة غير قانونية واستمر هذا الوضع إلى يومنا هذا لغياب آلية قانونية واضحة، تمكن المهنيين من الحصول على المعدنين النفيسين الذهب والفضة، باستثناء المجوهرات المستعملة والمكسرة المعدة لإعادة التدوير. وواصل حديثه بروية وترتيب منطقي للأحداث، ينم عن اختزانه كنزا معرفيا حول القطاع، بأنه إلى حدود فترة الثمانينات والتسعينات، شهد سوق الذهب والفضة ازدهارا كبيرا، حيث كان المغرب من أكبر البلدان في العالم المصدرة لمجوهرات المعدنين النفيسين، إذ تصدر الفضة صوب أفريقيا عبر موريتانيا ودول الجنوب، والذهب عبر مدن الشرق، إلى الجزائر وصولا إلى ليبيا وحتى المشرق العربي. القرار الخطيئة هذا المجد لم يدم طويلا بعد تلك الفترة، إذ سيحدث انقلاب غير مفهوم على المستوى الرسمي، ويوضح يوسف الباز بدقة هذه المسألة، أنه في 2000، وبشكل غير متوقع، قررت إدارة الجمارك، السعي إلى رفع يدها عن مراقبة قطاع الحلي والمجوهرات، وطالبت بإلحاقه بقطاع الصناعة التقليدية، وبررت ذلك بتفرغ أطرها في مراقبة السلع والمنتوجات القادمة من الخارج. لقي هذا القرار الصادم، حسب يوسف الباز، معارضة شديدة من قبل المكتب التنفيذي للاتحاد الوطني لحرفيي الحلي والمجوهرات، لأسباب وجيهة، أولها الخوف من فقدان هيبة رقابة الدولة على القطاع عبر إدارة الجمارك، لما تملكه من تجربة ووسائل بشرية ولوجستيكية ومختبرات لضبطه، كما أن تخليها عنه يعني غياب الزجر والعقاب، وبالتالي التمهيد للفوضى والتسيب والتزوير. تم التراجع بالفعل على هذا القرار آنذاك، لكن تلته سنوات من تقصير إدارة الجمارك في المراقبة، فكانت النتيجة كارثية على قطاع الذهب والفضة بالمغرب، إذ بدأت موجة من التلاعبات في جودته والتورط في تزوير دمغة الجمارك، لدرجة أن جهات تمكنت، طيلة الفترة من 2000 إلى 2010، يؤكد يوسف الباز، من ترويج الذهب المغشوش، خصوصا في المدن الصغيرة التي تبعد جغرافيا عن مختبرات إدارة الجمارك، حتى وصل الأمر بالتجار والصناع إلى التوجس من اقتناء الحلي القديمة للخوف من أنها مغشوشة، أو شرائها من عند المستهلك بأقل من نصف ثمنها، ولم يتم تصحيح هذا الخلل إلا بعد أن كسب السوق مناعة ذاتية شيئا ما. رخصة التصدير المؤقت ... "الوحلة" سيزداد الوضع قتامة في قطاع الذهب بالخصوص، سيما بعد فتح باب رخص التصدير المؤقت. والأصل في هذه الرخصة هو تصدير مؤقت لسلع مصنعة محليا قصد تحسين الصنع في حالة تعذر إتمام صنعها بالمغرب، على أن تعاد داخل أجل محدد، ويعفى صاحبها من الضريبة والرسوم الجمركية. إلا أن جهات استغلت هذا الامتياز للتحايل على قانون الاستيراد، على اعتبار أن الحلي المصنعة في المغرب معفية من الضريبة على القيمة المضافة على خلاف السلع المستوردة. يوضح يوسف الباز هذه النقطة أكثر، بالقول إنه يتم تصدير الذهب الخام وليس سلعا مصنعة جزئيا قصد تكملة أو تحسين صنعها بالخارج كما هو منصوص عليه في القانون، ودون التصريح بإبراء الذمة، حيث يصدر الذهب على شكل سبائك إلى الخارج، سيما تركيا و إيطاليا، وبعدها يتم جلب مقابلها حلي ومجوهرات جاهزة كاملة الصنع بهذه البلدان و الأخطر أنه إلى حدود 2019 كانت السلع المصرح بها تدمغ بدمغة الاستيراد بمختبرات إدارة الجمارك مما يعتبر تورطا صريحا لجهات رسمية في شبهة تزوير الدمغة وجريمة الغدر، لعدم تحصيل أموال عمومية على اعتبار أن السلع التي تحمل دمغة الاستيراد غير معفية من الضريبة على القيمة المضافة. ويقول يوسف الباز إن هناك قرائن تفيد شبهة استغلال هذه الرخصة في تهريب كميات كبيرة من الحلي والمجوهرات بطرق ملتوية من قبل عصابة مكونة من مغاربة وأتراك، مبرزا أنه سلم إلى أحد المسؤولين في إدارة الجمارك في 2019، رسالة توضيحية في الأمر تضم معطيات استقاها من أحد المعروفين باستغلال رخص التصدير المؤقت، بعد أن وعده ذلك المسؤول بفتح تحقيق في الموضوع، الشيء الذي لم يتم إلى يومنا هذا، وهو ما ساهم في دق آخر مسمار في نعش ثقة الحرفيين في المؤسسات، والذين أجبر بعضهم على احتراف مهن أخرى بعد تعرضهم للإفلاس. انهيار وانقراض أقر فاعلون في قطاع الحلي والمجوهرات، أن أزيد من 90 في المائة من الحلي والمجوهرات التي تروج بالأسواق الوطنية مستوردة من الخارج أو مهربة، بعد أن تحول المغرب قبل 20 سنة فقط، من دولة مكتفية ذاتيا ومصدرة للحلي والمجوهرات إلى دولة تستورد النسبة المشار إليها من احتياجاتها، وهو رقم صادم يكشف أن الجانب الإنتاجي بالقطاع انهار بالكامل أو أوشك على ذلك. وساهم في هذا الوضع، حسب مهنيين وحرفيين، توقيع المغرب على اتفاقية التبادل الحر دون اتخاذ الإجراءات الكافية لحماية المقاولات والحرفيين المغاربة، أو على الأقل، تقديم يد العون ماديا وتقنيا لتأهيل مقاولاتهم لمواكبة التطور الكبير الذي تشهده صناعة الحلي والمجوهرات في العديد من البلدان المنافسة، من قبيل تركيا والصين، على نقيض قطاع النسيج، الذي سعت الدولة إلى تأهيله وقدمت له ضمانات وحماية كبيرة من المنافسة الأجنبية. هذا الوضع تسبب في نتائج كارثية على القطاع برمته، حيث وفي غياب أرقام رسمية واضحة، على اعتبار أن القطاع غير مهيكل، يتحدث المهنيون عن إغلاق أزيد من 4000 ورشة بفاس وحدها، وهو رقم مخيف جدا، والأمر نفسه بمراكش، التي كانت توصف بالقلعة التاريخية للحرفيين والصناع، وانقراض الحرفيين في الصويرة وأكادير وتزنيت، وإنزكان التي كانت بها إلى حدود 2009 ألف ورشة تقريبا في حين لا يتجاوز عددها حاليا عشر ورشات صغيرة فقط. وفي ظرف عقد من الزمن، انتقلنا من دولة مصدرة للفضة عبر الجنوب والذهب عبر الشرق، إلى دولة مستوردة، وأغلب المنتوجات تجلب في "النوار". التهريب وتضارب الأرقام الرسمية كشف الباز أنه في 2017، واستجابة لرسالة وجهها إلى كاتبة الدولة في الصناعة التقليدية، تم تكليف إطارين من الوزارة بمواكبة المهنيين في زيارتهم للمعرض الدولي للمجوهرات بتركيا، حيث تم استغلال الزيارة لعقد لقاءات بحضور أطر الوزارة ونائبة قنصل المغرب، وممثلين عن المهنيين مع فاعلين أتراك في القطاع، للاستفادة من تجربتهم وخبرتهم في المجال، تمهيدا لوضع مخطط إستراتيجي تحت إشراف الوزارة الوصية للنهوض بقطاع الذهب بالمغرب. وفي إحدى اللقاءات التي تنظم على هامش المعرض الدولي للمجوهرات بتركيا، وفي عرض لرقم معاملات القطاع لديهم، تفاجأ الجميع بعرض رقم مفاده أن تركيا صدرت إلى المغرب في 2017، 25 طنا من المجوهرات وهو رقم ضخم. وأكد الباز أنه لما عادوا إلى الأرقام الرسمية التي أعلن عنها في دراسة المخطط الإستراتيجي لقطاع الحلي والمجوهرات، تبين أنه في تلك السنة، استورد المغرب ثلاثة أطنان من كل دول العالم، يعني أن 22 طنا دخلت المغرب سرا في حالة صحة هذه الأرقام، مما كان يستدعي فتح تحقيق عاجل في الموضوع، وهو ما طالبوا به ساعتها، لكن دون جدوى. ووقف المخطط نفسه على تضارب بين الأرقام الرسمية، إذ أن رقم المعاملات المعلن للقطاع يساوي 2.05 مليار درهم وهو رقم يشمل مجوهرات الذهب والفضة والحلي المقلدة "بلاكيور"، في حين حسب الدراسة ذاتها، طبعت بمختبرات إدارة الجمارك في تلك السنة أزيد من ستة أطنان من الذهب بين المصنع محليا والمستورد، وهذه الكمية وحدها تفوق رقم المعاملات الرسمي المعلن دون احتساب الفضة و"البلاكيور"، في حين خلصت الدراسة نفسها، حسب معطيات ميدانية، إلى أن رقم المعاملات التقريبي للقطاع يقارب 20 مليار درهم، مما يؤكد أن القطاع أصبح ملاذا آمنا للتهريب وتبييض الأموال. الغريب، يوضح يوسف الباز، أن كل شكايات المهنيين وممثليهم التي وجهت إلى إدارة الجمارك باعتبارها المسؤول الأول عن المراقبة حسب القانون، تجابه بطلب مدها بأسماء المهربين والطرق التي يسلكونها، دون اتخاذ أي إجراء يذكر، في حين أن هذا من صميم مسؤوليتها واختصاصها. تحايل على القانون ظلت الأزمة ترخي بظلالها في قطاع الذهب دون إجراء يذكر إلى حدود 2020، وبالضبط خلال فترة جائحة كورونا، وقتها تدخلت كاتبة الدولة السابقة المكلفة بالصناعة التقليدية، وبعد رسالة يوسف الباز بصفته الجمعوية، وضح فيها التأثير الكارثي لهذه الرخصة على المهنيين، وانتصارا منها للصانع المغربي، أصدرت قرارا على الفور بوقف الموافقة على تسليم رخص التصدير المؤقت. خلف القرار ارتياحا كبيرا، بين شريحة مهمة من المهنيين خصوصا ممن لم يتحركوا ويستسلموا لإغراءات المهربين المستغلين لرخصة التصدير المؤقت. واعتبر المهنيون هذا القرار آنذاك، بداية سعي الدولة لإنهاء عهد الفوضى والتسيب في قطاع الذهب، فتبين بعد مدة قليلة أن قرار وقف الرخصة كان يهم الصناع التقليديين فقط، أما الشركات الكبرى المحظوظة فقد استثنيت من هذا القرار لأسباب غريبة وغير مفهومة، على اعتبار أن القطاع الوصي عليها هو وزارة التجارة والصناعة. واحتكرت هذه الشركات استغلال رخص التصدير المؤقت بكل اختلالاتها التي تخالف القانون وفي مخالفة صريحة لأبسط قواعد المنافسة العادلة.

تهريب الذهب… رائحة التواطؤ

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الحبس لجنود بالحسيمة

بورصة البيضاء .. افتتاح التداولات على وقع الارتفاع

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات