أزمة الحليب… قصة انهيار القطاع

"العشوائي" يحكم القبضة على السلسلة ومسؤولية الوزارة والشركات قائمة سيطرت مشاعر الدهشة والصدمة على المستهلك المغربي، عندما اختفت مادة الحليب من متاجر الأحياء وبعض الأسواق الكبرى، ووجد نفسه مضطرا لخوض رحلة بحث بين المحلات، لتحصيل علبة حليب، في وقت ألف فيه المغاربة أن بلدهم فلاحي، ولا يعاني اضطرابات في سوق المواد الأساسية، إذ لم تسبق على الأقل في العقدين الأخيرين، أزمة أو ندرة في المواد الأساسية، خاصة الحليب، فكيف وجد المغاربة أنفسهم في قلب الأزمة؟ ومن المسؤول عنها؟ وهل كان بالإمكان تجنبها؟ وما دور وزارة الفلاحة والشركات المصنعة للحليب في هذه الأزمة؟ وهل الفلاحون والمنتجون ضحايا أم مشاركون؟. هذا التحقيق سيحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، وسيتطرق إلى جذور الأزمة، وسيحاول «ترتيب» المسؤوليات حسب النتائج المتوصل إليها، بعد استقراء آراء جل الفاعلين في سلسلة الحليب، التي يجمع كل الذين يدورون في فلكها على أنها معقدة ومرتبطة، وأن المس بإحدى ركائزها يؤدي إلى انهيار السلسلة، وهو ما وقع بالفعل في الأشهر الأخيرة، إذ انتقلنا من وضعية كان فيها العرض أكثر من الطلب، إلى وضعية يتسابق فيها المواطن المغربي على علب الحليب. إنجاز: عصام الناصيري /تصوير (أحمد جرفي) تعيش سلسلة الحليب في هذه المرحلة، أزمة غير مسبوقة، تتمثل في عدد من المؤشرات، أبرزها تراجع حجم القطيع بنسبة خصاص قدرتها الوزارة بـ 20 ألف رأس، والتي تسعى إلى تعويضها في المرحلة المقبلة، إضافة إلى تراجع حجم الولادات بأزيد من 50 في المائة، وبالمقابل نجد أن القطاع غير المهيكل في سلسلة الحليب، انتقل من 25 في المائة إلى أزيد من 50 في المائة. فلاحون يشككون في أرقام الوزارة الأرقام سالفة الذكر مصدرها وزارة الفلاحة، والفدرالية البيمهنية لسلسة الحليب (ماروك لي)، لكن الخبراء والفلاحين لهم رأي آخر حول هذه الأرقام، إذ يعتبرونها مغلوطة، وأن حجم الضرر الذي لحق بالسلسلة أكبر بكثير، خاصة أن الوزارة ومؤسساتها لا تملك أرقاما محينة، كما أن هناك تلاعبا من قبل أعوان مكلفين من الوزارة. محرك الشك في أرقام الوزارة ومؤسساتها، يكمن في أن ترقيم القطيع يتم بشكل عشوائي أحيانا، إذ أن الأعوان المكلفين بالترقيم، يضعون أكثر من حلقة في كل رأس، لأن البيطريين يتلقون تعويضا ماليا عن كل بقرة يرقمونها. وأكد أحد الفلاحين الذين تحدثت إليهم "الصباح"، أن أرقام القطيع غير مضبوطة، لأن هناك أبقارا تحمل أكثر من حلقة، ناهيك عن غياب تحيين الأرقام، خاصة بعد عملية الذبح المفرط، التي عاشها القطيع في الفترة الأخيرة. بداية الأزمة يؤكد الكثير من الفلاحين الكبار الذين تحدثت إليهم "الصباح"، وزارت ضيعاتهم، وأيضا بعض الخبراء، أن عوامل الجفاف وحرب أوكرانيا، سرعت فقط انهيار سلسلة الحليب، التي كانت تسير بخطى ثابتة نحو الهاوية، ودليلهم في هذا الطرح، أنه إلى حدود الأشهر الأولى من أزمة كورونا، وصل الفلاحون إلى مرحلة كان فيها فائض في الإنتاج، وبدأ التفكير في طريقة لتصدير هذه المادة إلى الدول الإفريقية، غير أن ما سيقع بعد مارس 2020 سيكون له ما بعده، وسيؤثر سلبا على السلسلة، وسيفقد الفلاحون الثقة في الشركات والوزارة. يقول عبد الحق بوتشيشي، رئيس الجمعية الوطنية لهيأة تقنيي تربية المواشي، إن فائض الإنتاج أدى إلى تخلي شركات تجميع الحليب عن المنتجين، وهنا بدأت المشاكل الحقيقية، التي أدت إلى الأزمة، أما الجفاف والأعلاف وغيرها فهي عوامل مساعدة فقط. يضيف بوتشيشي أن شرارة الأزمة انطلقت حينما أصبح المنتجون يصلون إلى معدلات إنتاج كبيرة، والشركات المجمعة للحليب لا تقتنيه، لأنها ليست في حاجة إليه، والوزارة لم تجد سوقا خارجية لبيع المنتوج، وبالتالي فالمنتج قرر التخلص من بعض الأبقار، خاصة المنتجة للحليب، لأنه أصبح يرى نفسه يستثمر في مجال لا أحد يريد منتوجه. تحول صناعي رغم أن المغرب بلد فلاحي، وينتج الحليب منذ مئات السنين، ويربي فلاحوه الأبقار، إلا أن هذا الإنتاج ظل محدودا إلى حدود العقد الأخير، حينما قررت الدولة الدخول إلى مرحلة أخرى من الإنتاج، المبني على المعايير العلمية والبيوتكنولوجيا، من أجل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي، وخصصت دعما كبيرا ومواكبة للفلاحين الكبار على وجه الخصوص، واستقطبت مستثمرين للقطاع، الأمر الذي نقله من معيشي إلى صناعي وإنتاجي. مرت سلسلة إنتاج الحليب بالمغرب بمراحل، وكانت هناك إستراتيجية للدولة، من أجل أن نصل إلى 96 في المائة من الاكتفاء الذاتي، وهو ما تحقق بعد سنوات، بعد الاعتماد على البيوتكنولوجيا، واستيراد نوعية محددة من الأبقار، والتلقيح الصناعي وتحسين النسل، وبرامج الكلأ، وتهييء يد عاملة وتكوين تقنيين متخصصين في تربية المواشي، ناهيك عن مهندسين وأطباء بيطريين وغيرهم. ضربة قاضية بسبب الجائحة بدأ الانهيار في سلسلة الحليب مباشرة بعد مارس 2020، وهي الفترة التي كان فيها العرض أكبر من الطلب، خاصة أن ذروة إنتاج الحليب في المغرب تكون في الفترة ما بين فبراير ويوليوز من كل سنة، على اعتبار أنها الفترة التي تشهد ولادات الأبقار، إذ بعد تطبيق الحجر الصحي، وجد الفلاح نفسه أمام معضلة غير مسبوقة، اختلت فيها السلسلة ولم تعد الشركات تقتني الحليب بالوتيرة العادية، الأمر نفسه بالنسبة إلى القطاع غير المهيكل، (المحلبات وبعض المقاهي ...)، لأن الجميع أغلق أبوابه. في تلك المرحلة سيسارع الفلاحون إلى بيع قطيعهم للسماسرة بأسعار بخسة، كما أنهم توقفوا عن تلقيح أبقارهم، ما سينعكس على حجم القطيع، وسيتراجع معه أوتوماتيكيا إنتاج الحليب، وسبب هذا الأمر فقدان الثقة، وخوف المستثمرين، ناهيك عن مشكلة كبيرة، تتمثل في توقف تلقيح الأبقار، والسبب أن هذه العملية أسندتها الوزارة إلى بعض الجمعيات، في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، رغم أن هذه العملية تتعلق بالأمن الغذائي للمغاربة، وبالتالي أصبح الفلاح يتصل بالجمعيات لتلقيح أبقاره، لكنه سيفاجأ أن جلها أوقفت نشاطها نتيجة حالة الخوف التي كان يعيشها العالم، بسبب فيروس كورونا. هذه المعطيات، سيؤكدها عبد الرحمان بن لحكل، المدير العام للفدرالية البيمهنية المغربية للحليب، في التصريحات التي أدلى بها لـ "الصباح"، باعتباره ممثل جميع الفاعلين في القطاع، سواء تعلق الأمر بالمنتجين (الفلاحون)، أوالمصنعين (شركات تجميع وتوزيع الحليب)، وهو الممثل الرسمي للسلسلة في جلسات الحوار مع الوزارة. وتجدر الإشارة إلى أن الشركات التي تواصلت معها "الصباح"، رفضت الإدلاء بأي تصريح مباشر، ووجهتنا إلى بن لحكل باعتباره الناطق باسمها في هذا المجال. تختزل وزارة الفلاحة أسباب ندرة الحليب، في ثلاثة عوامل لا رابع لها، وهي تداعيات وباء كورونا والجفاف وأزمة الحرب في أوكرانيا، لكن الفلاحين وبعض الخبراء، يضيفون لهذه الأسباب تأخرها في التدخل لمعالجة الأزمة، التي حذر منها الفاعلون في السلسلة حتى قبل بداية الوباء، ومحاباة بعض الأطراف، وجشع الشركات، وعدم تحمل مسؤولية قرار التحول إلى بلد مصنع للحليب واللحوم. عوامل خارجية بالنسبة إلى عبد الرحمان بن لحكل، المدير العام للفدرالية البيمهنية المغربية للحليب، فإن مجموعة من العوامل أثرت سلبا على قطاع الحليب، منها تداعيات وباء كورونا، التي كان لها وقع مباشر على الإنتاج والاستهلاك، الأمر الذي انعكس على المصنعين أيضا، خاصة في عملية الإنتاج، لأن الإجراءات الصحية كانت صعبة، إضافة إلى القيود التي كانت مفروضة على أنشطة الفلاح، إذ لم يعد يجد السبيل لاقتناء الأعلاف. ونتيجة لهذا العامل، يؤكد بن لحكل، فإن حجم ولادات الأبقار تقلص بـ 50 في المائة، الأمر نفسه بالنسبة إلى استهلاك الحليب، الذي تراجع بنسبة 25 في المائة، إذ كان التوزيع محدودا، لأن المقاهي وغيرها من المحلات، التي كانت تستهلك هذه المادة أغلقت أبوابها، ما أدى إلى تراجع التوزيع والاستهلاك بصورة مباشرة. وأما العامل الثاني الذي أدى إلى ندرة الحليب، فيتمثل في الجفاف، حسب الوزارة و"ماروك لي"، والذي اجتاح المملكة في خريف 2021، واستمر طيلة السنة وفي 2022 أيضا، ما جعل أسعار الأعلاف ترتفع، إضافة إلى تقليص المساحة المخصصة للزراعات الكلئية، في إطار التدابير الحكومية تفاعلا مع أزمة الماء، وبذلك انخفض إنتاج الكلأ الذي يعتبر الغذاء الأول للأبقار الحلوب ، وأسعاره ارتفعت مباشرة. وأما الحرب الروسية الأوكرانية، فكان لها تأثير على المواد الأولية التي تستعمل في الأعلاف، مثل الحبوب والصوجا وغيرها، إذ تضاعف سعرها مرتين، في حين أن سعر الحليب لم يتغير منذ 2013. إفلاس تعاونيات يرى بوتشيشي، وهو خبير في المجال الفلاحي والحيواني، أن "جل الفلاحين استثمروا في تحسين النسل والتلقيح الصناعي"، بمعنى أن المغرب لم يعد يعتمد على سلالات الأبقار المغربية في إنتاج الحليب واللحم، إنما لجأ إلى تحسين النسل، ولم يعد الفلاح ينتظر تزاوج العجول مع إناث الأبقار، بل أصبح يلقح العجلات بالسائل المنوي للعجل، بناء على رغبة الفلاح، فإذا كان يرغب في إنتاج العجلات الموجهة لإنتاج الحليب، أو إنتاج عجول لبيعها للجزارين، أو إنتاج أي سلالة يرغب فيها، فإن الأمر أصبح بيده. من جهة أخرى، فرضت الشركات بمباركة الوزارة على الفلاحين، التكتل في تعاونيات، التي استثمرت في تجهيز مراكز لتجميع الحليب، والحصول على ترخيص من المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، باعتبارهما شرطين ضروريين للتمكن من بيع الحليب للشركة. في منطقة الغرب، يقول بوتشيشي، إن الكثير من التعاونيات أغلقت أبوابها، لأن الاستثمار الذي طالبت به الدولة والشركات، لم يكن في حجم الطلب الداخلي على المنتوج، خاصة أن المغاربة ليسوا شعبا مستهلكا للحليب مقارنة بدول أوربية، أو الولايات المتحدة الأمريكية، ما أدى إلى فشل بعض المشاريع. هكذا سيشعر الفلاحون بالخذلان، بعد أن دفعوا إلى الانتقال إلى مرحلة الإنتاج الصناعي، واستثمروا في التعاونيات، لكن في آخر المطاف، وجدوا أنفسهم في مأزق، لأنهم ينتجون كميات كبيرة من الحليب، ولا يجدون من يقتنيها، لأن الشركات وصلت مرحلة التخمة من الحليب المغربي، ووصلنا إلى 96 في المائة من الاكتفاء الذاتي، ومع ذلك ظلت بعض الشركات تستورد بعض منتجات الحليب والألبان من الخارج، لأنها مربحة عكس تصنيعها في المغرب. الانهيار إلى حدود اللحظة ما تزال مسؤولية الوزارة والشركات، منحصرة في عدم إدارة فائض الإنتاج، وتجديد الثقة مع الفلاح الذي شعر بالخذلان، وأيضا عدم اتخاذ تدابير موازية لفترة الحجر الصحي، وعدم إيجاد قناة لتصريف إنتاج الفلاح وتزويده بالأعلاف، ودفع جمعيات التلقيح الصناعي لزيارة الضيعات وتلقيح الأبقار، لكن في 2021 ستقع أخطاء أخرى بالجملة، ستؤدي إلى اختلالات بنيوية في السلسلة، ستجعلها تعاني لاستعادة عافيتها في السنوات المقبلة. يقول أكبر منتج للحليب في البيضاء، الذي حلت "الصباح" بضيعته في ضواحي مديونة، إنه بعد تضافر كل تلك العوامل، "شعر المهنيون بالأزمة، ولم نجد أحدا بجانبنا، رغم أن المسؤولين على علم بأن البعض بدأ في بيع قطيعه، وأن الفلاح على حافة الإفلاس"، مضيفا أن الفدرالية البيمهنية، كانت تطالب وزير الفلاحة باجتماعات عاجلة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، غير أنه لم يول لها اهتماما". ويضيف المستثمر ذاته، أنه "بعد دخول القطاع في النفق المظلم، وبضغط من "لوبيات" الحليب والشركات، اضطرت الوزارة لاتخاذ بعض الإجراءات، من قبيل منع ذبح العجلات، لكن تبين أن الوزارة لا تفهم القطاع جيدا، إذ تحدثت في بيانها عن العجلات أقل من أربع سنوات، في حين أن الحديث عن صنف "الرباعية"، التي لا يتجاوز عمرها 30 شهرا". عندما عرضت "الصباح" هذا التصريح على مدير الفدرالية، أجاب بالقول "لا أعتقد أن الوزارة تأخرت، بالعكس، أول لقاء كان لنا مع الوزير كان في نونبر 2021"، لكن في الواقع تاريخ هذا الاجتماع، يبين حجم التأخر لحل الأزمة التي بدأت مطلع 2020. في السياق ذاته، يقول بن لحكل إن "الهزات التي ضربت القطاع، دفعت بعض المنتجين إلى التخلي عن استثمارهم، لأنهم أصبحوا ينفقون على الأبقار من جيوبهم، ووقعت أيضا عملية ذبح كبيرة للأبقار الحلوب، للتخلص منها وبيعها للجزارين". أعلاف مثيرة للجدل قبل فترة وجيزة من نشر هذا التحقيق، تعالت أصوات الفلاحين، نتيجة ما فعلته الأعلاف بأبقارهم، إذ اشتكى الكثير من رؤساء التعاونيات، بمختلف مناطق المغرب، أن الأعلاف المدعمة من قبل الوزارة، تسبب في تراجع إنتاج الحليب بأكثر من 50 في المائة، وأن صحة الكثير من الأبقار اعتلت بمجرد تناولها تلك الأعلاف، إضافة إلى أن الكثير من الأبقار أجهضت، والبعض الآخر اشتكى من أن أبقاره لم تعد تظهر رغبة في التلقيح. وطرحت "الصباح" هذا الأمر على أحد كبار الفلاحين، وخبراء في تربية المواشي، ورئيس "ماروك لي"، وكلهم أكدوا أن الأعلاف تسببت فعلا في مشاكل للفلاحين، وأضرت بقطيعهم. بالنسبة إلى أحد الفلاحين فالعلف الذي توفره الدولة، والذي تقول الوزارة إنه دعم، هو عبارة عن علف إنقاذ وليس علف إنتاج، موضحا أنه "لا نستطيع أن نطعم أبقارنا هذا العلف، لأن لدينا أبقارا تنتج 40 لتر يوميا من الحليب، لهذا نطعمها علف الإنتاج الممتاز". وأضاف أن "تركيبة العلف والمواد التي يجب أن تتوفر فيه أعدها بنفسي، وبنسب دقيقة، واقتنيه من شركة خاصة، بمبلغ يصل إلى 6 دراهم للكيلوغرام، في حين أن المدعم لا تتجاوز كلفته 4 دراهم". وأشار المتحدث ذاته أن أعلافه تحتوي على الصوجا والذرة وزريعة القطن، إضافة إلى عدد من الفيتامينات والمكملات الغذائية. وقال هذا المنتج، في حديثه مع "الصباح" "أعرف الكثير ممن استعملوا العلف المدعم، وتسبب لهم في خسائر فادحة في صفوف القطيع"، موضحا أنه توصل بشحنة من العلف المدعم في الصيف الماضي، لكنه لم يستعمله وحده، بل خلطه بعلف من نوعية جيدة، يصل سعره إلى 6 دراهم للكيلوغرام الواحد، لأن العلف المدعم غير صالح لإطعام الأبقار، حسب تعبيره. بالنسبة إلى عبد الحق بوتشيشي، رئيس الجمعية الوطنية لهيأة تقنيي تربية المواشي، فإن ما أصاب قطيع بعض الفلاحين من خسائر، راجع إلى عدم الاستثمار في العنصر البشري، إذ أن الكثير من المنتجين غير مؤهلين، للتعامل مع مشاريع استثمارية في القطاع الفلاحي، ذات طابع صناعي وليس معيشيا، وأن المخططات والإستراتيجيات المعتمدة من قبل الوزارة، لم تراع هذا الجانب. وأوضح بوتشيشي أن تلك الخسائر، سببها تغيير النظام الغذائي للأبقار بشكل مفاجئ، ما يؤدي إلى أضرار صحية بالقطيع، إذ وجب إدخال الأعلاف الجديدة في النظام الغذائي بالتدرج، لأن هناك بكتيريا في أمعاء الأبقار، ألفت التغذية على نوع من معين من المواد، فإذا تغيرت بشكل مفاجئ، يحدث اختلال في جهازها الهضمي. السعر "المقدس" يعتبر سعر الحليب في المغرب شبه "مقدس"، مثله مثل سعر الخبز، وعرف على أنه من المواد الأساسية، التي لا يجب العبث بأسعارها كيف ما كان الوضع الاقتصادي، وفي الوقت الذي ارتفعت أسعار جل المواد، إضافة إلى كلفة الإنتاج، أصبح من الضروري رفع سعر الحليب، لأن كلفته تضاعفت عند الفلاح، لكن الشركات أصرت على السعر نفسه، واضطر الفلاح إلى توجيه إنتاجه إلى السوق العشوائية، لأنها تدفع أكثر، ودخلت الشركات مرحلة شح الإنتاج، إذ لم تعد تجد ما تجمعه من الفلاحين بالسعر المقترح، ما أدى إلى أزمة عرض في الأسواق. وهناك الكثير من الهواجس التي تحول دون رفع سعر الحليب، أبرزها خوف الشركات من حملة مقاطعة جديدة، وإحدى الشركات اكتوت بلهيب المقاطعة، ما ولد نوعا من التواطؤ بينها وبين الدولة، التي تتجنب ما أمكن الزيادة في بعض المواد الأساسية، لكن هذا التواطؤ لم يكن في مصلحة الفلاح، الذي ارتفعت كلفة إنتاجه للحليب، ولم يعد باستطاعته بيع المنتج بـ 4 دراهم للشركات المصنعة. يقول أحد كبار المنتجين في حديثه مع "الصباح"، "أنتج بشكل يومي 3 أطنان من الحليب، ولا أبيع سوى 200 لتر للشركات، والباقي أبيعه لأرباب المحلبات، بسعر 5 دراهم أو 5 دراهم و50 سنتيما". ويعلق بن لحكل بالقول، "عندما اشتدت أزمة الحليب عرف القطاع غير المنظم تطورا صاروخيا، لأن بعض الأشخاص أصبحوا يحصلون على الحليب من عند الفلاح بكميات كبيرة، بإضافتهم درهما واحد على السعر الطبيعي، وأغروا المنتجين، إلى درجة أنهم أصبحوا يشكلون أكثر من 50 في المائة من القطاع في فترة الأزمة، وهذا الأمر أثر على السلسلة ككل". ويشير المتحدث ذاته إلى أن كلفة إنتاج الحليب تتطلب عددا من المصاريف، وتشكل تغذية الأبقار ما بين 65 في المائة و70، من الكلفة الإجمالية، وأي تغير يطرأ على أسعار المواد الكلئية يؤثر مباشرة على سعر الحليب، وبما أن السعر مستقر فإن الفلاح يتضرر بشكل كبير. إجراءات وزارية يعتقد الخبراء والفلاحون أن الوزارة أهملت القطاع لأشهر، وأن تدخلها جاء متأخرا جدا، واختلت السلسلة، وتكبد المنتجون خسائر لا حصر لها، لكن بالنسبة إلى الوزارة ورئيس فدرالية "ماروك لي"، فمواكبة الأزمة كانت منذ البداية، غير أن الواقع الموضوعي لا يدعم هذه التصريحات، لأن التدخل جاء في يونيو الماضي، في ما يتعلق بالأعلاف، والقرارات الأخرى لم تتخذ إلا في الشهرين الأخيرين. يقول عبد الرحمان بن لحكل، "بدأنا الاشتغال مع الوزارة منذ بداية الأزمة، واتخذت 4 إجراءات مهمة وهي في طور التنفيذ، أولها دعم الأعلاف المركبة الخاصة بالأبقار الحلوب، الموجه للفلاح الذي يبيع منتوجه للجهات المراقبة، وليس العلف الذي كان يمنح للفلاح من أجل إنقاذ الماشية". ويضيف أن الأعلاف وزعت عبر أشطر، 27 ألف طن منها في يونيو 2022، موضحا أنه "كان دعما مهما، تحملت فيه الدولة عبئا ماليا كبيرا، لأنها عادت إلى السعر المرجعي الذي كان في يناير 2020، أي درهمين و50 سنتيما، مع العلم أنه وصل اليوم 4 دراهم و80 سنتيما". وكشف بن لحكل أن الشطر الثاني في طور الإنجاز وتقدر قيمته بـ 47 ألف طن، مؤكدا على أن من يستفيد من هذه الأعلاف هو القطاع المنظم، أي منتجي الحليب الذين يزودون السوق عبر التعاونيات والشركات المجمعة، ويقصد المتحدث هنا، الفلاحين الكبار والمتوسطين. وعند الحديث عن القطاع غير المنظم، فيقصد به صغار الفلاحين، الذين يملكون بقرتين أو ثلاثا، وليست لهم موارد استثمارية لتطوير مشاريعهم، ليصبحوا قادرين على البيع للشركات، التي تقتني المنتوج وفقا لشروط قاسية، لكنها تبقى ضرورية من أجل السلامة الصحية. وإذا كان الفلاح الصغير أكثر حاجة إلى الدعم بالأعلاف، فإن الوزارة لا تدعمه لأنه لم يتمكن من الانخراط في المنظومة الصناعية، رغم الخسائر التي لحقت به. وجدير بالذكر أن القطاع غير المنظم يشكل حصة الأسد في السلسلة، إذ يقدر حسب الفدرالية في الأيام العادية ما بين 25 في المائة و35، وأنه بلغ في فترة الأزمة التي نعيشها اليوم، إلى أكثر من 50 في المائة، ويقدر بعض الخبراء أن الرقم يمكن أن يصل إلى 80 في المائة، وهذا يعيبه كثيرون على مخططات الوزارة ورؤيتها للقطاع، وتتهم بأنه تدعم فقط كبار الفلاحين، ولا تهتم بالصغار الذين يعيشون من الفلاحة ولا يربحون منها. وأما الإجراء الثاني للوزارة، فيتمثل في دعم انتاج العجلات الذي توقف في 2020، ويعتقد بن لحكل، أن هذا إجراء مهم في إعادة تكوين القطيع، "لأننا لاحظنا أنه تعرض لذبح مفرط، ومن الضروري إعادة تكوينه"، وخصصت الوزارة دعما آخر لاستيراد الأبقار الحلوب، ويفسر بن لحكل هذا القرار بالقول "لأننا وجدنا أننا نعاني خصاصا يقدر بـ 20 ألف رأس، سيتم جلبها من الخارج بدعم من الدولة، لتعزيز القطيع وهيكلته لاستمرار الإنتاج"، مؤكدا على قرار وزارتي الفلاحة والداخلية المتعلق بعدم ذبح الأبقار الحلوب. "العشوائي" سحب البساط من شركات الإنتاج بن لكحل قال إن الإجراءات الوزارية تأخر تنزيلها والأعلاف لم يستفد الفلاح الصغير منها قال عبد الرحمان بن لكحل، مدير الفدرالية البيمهنية المغربية للحليب، إن القطاع العشوائي أو غير المنظم في تجميع وبيع الحليب (المحلبات...)، سحب البساط من شركات تجميع الحليب، عندما قرر هذا القطاع الزيادة في سعر اقتناء الحليب، بدرهم و20 سنتيما، وإغراء الفلاحين، في الوقت الذي لم تضف الشركات بشكل متأخر، سوى 60 سنتيما أو 70، ما جعل هذا القطاع يبتلع أكثر من 50 في المائة من الإنتاج. وأوضح بن لكحل أن بعض الإجراءات الوزارية، من قبيل توزيع الأعلاف تأخرت، نتيجة "المساطر المعقدة"، مؤكدا أن المستفيد من هذه الأعلاف هم المنتمون إلى القطاع المنظم، أي الذين يبيعون منتوجهم للشركات، وهي الفئة المحسوبة على المستثمرين والفلاحين المتوسطين، في حين أن الفلاح البسيط الذي لا يستطيع التعامل مع الشركات، لم يصله نصيبه من العلف. < لا أعتقد أنها تأخرت، بالعكس، أول لقاء كان لنا مع الوزير كان في نونبر 2021، وطرحنا عليه المعطيات والمشاكل القائمة، ومند تلك الفترة دأبنا على عقد لقاءات مع أطر ومسؤولي الوزارة، وكان هناك تجاوب. يمكن أن نؤاخذ الوزارة على تأخير تنزيل تلك القرارات على أرض الواقع، لأن هناك مساطر قانونية ضرورية، فمثلا مسألة دعم الأعلاف كانت من الأولويات، وأمر ذو طابع استعجالي، وربما أنه عرف تأخيرا بسبب مساطر لا غنى عنها، وتطلب الأمر عقد صفقات والوضع معقد وليس سهلا، هذا ما يمكن ربما أن اعتبره مؤاخذة، وإنما في النهاية الفلاحين توصلوا بحصصهم. الشطر الأول وزع، والثاني في طريقه، والثالث نترافع من أجله، وأظن أن الاجتماعات تواصلت على أعلى مستوى، ووجدنا الاستجابة من الوزارة. < هذا صحيح، ولأن الحليب مادة حيوية وأساسية وحساسة، وأي تغير في ثمنها يغضب المستهلك، فربما سيهضم زيادة في الخبز عكس علبة الحليب. فعلا كان هذا الواقع قائما، عملنا مع الوزارة من أجل المحاولة بما أمكن أن نأخذ الإجراءات الكفيلة للحد من الأزمة، وفي الوقت نفسه يظل سعر الحليب مستقرا عند المستهلك. كانت معادلة صعبة جدا، وفكرنا فيها جميعا. لاحقا، قامت بعض المصانع بمجهودات، ورفعت السعر ما بين 20 في المائة إلى 30، حسب كل مصنع، لأن هناك أنواعا مختلفة من هذه المصانع، ومع ذلك بقي السعر عند المستهلك مستقرا، لكن هذا المجهود قابله القطاع غير المهيكل، فإذا كان المصنع يضيف للمنتج 60 سنتيما أو 70، فإن هذا القطاع يرفع السعر بـدرهم واحد و20 سنتيما، ويسحب البساط من المصنع، ويستحوذ على المنتجين، ونحن واعون بهذه النقطة، وطرحناها على الوزارة، التي تتعامل مع هذا الموضوع، وليس من السهل محاربة القطاع غير المهيكل، لكن يجب البحث عن آليات لدمجه في المنظومة، لتجنب الأضرار على صحة المستهلك، ومساعدة المستثمرين في القطاع. < هي ليست مشكلة الربح، وسأجيب بكل صراحة، الجميع يعيش أزمة، ويعيشها المنتج بدرجة أولى (الفلاح)، الذي نعتبره الحلقة الضعيفة في سلسلة القيم، والمصنع أيضا متضرر، لأن كلفة عوامل الانتاج ارتفعت، سواء تحدثنا عن التعبئة أو النقل، ولا يجب أن ننسى أن الحليب، يتطلب وسائل لوجستيكية ضخمة ليصل إلى المستهلك، بداية من جمعه من عند المنتجين والتعاونيات، ونقله إلى المصانع، ونهاية بتوزيعه على نقاط البيع. تقريبا 3800 شاحنة التي تجوب جميع مناطق المغرب، من أجل أن يصل الحليب إلى أقرب نقطة من المستهلك، ولدينا 80 ألف نقطة بيع، وأريد أن أؤكد أن المصنعين يتكبدون مصاريف ضخمة لجمع الحليب وتصنيعه وتوزيعه. وبما أن الحليب المبستر، باعتباره مادة حيوية وأساسية، ويجب الحفاظ على سعره الأصلي، كان هناك تحول بسيط للمشتقات من أجل تقليص مصاريف تصنيع وجمع وتوزيع الحليب، من أجل التقليص من تلك المصاريف، وليس لأن الشركات تحقق أرباحا فاحشة في المشتقات، بل لتقليص حجم الخسائر. هذه النقطة وضعت على طاولة النقاش مع الوزارة، وهي واعية بها، وربما نفكر في أن تستفيد عملية التجميع والتوزيع، من المنح التي تصرف لمهنيي النقل، لأن الحليب المبستر، يجب أن يجمع ويوزع في مدة زمنية قصيرة، ولا يمكن الاحتفاظ به أو تخزينه، لهذا يحتاج إلى وسائل لوجيستيكية ضخمة، وهذه العملية نشبهها بـ "الجيمناستيك"، هدفها تقليص الخسائر، وأؤكد لكم أن الموضوع في يد الوزارة. < قلت سابقا إن منظومة الحليب لها خصوصية. التعاونيات التي تكلفت بتجميع الحليب، وتسلمه للمصانع، تضعنا أمام حالتين، الأولى عندما يكون المصنع تعاونية فإنه بناء على القانون التعاوني، يحق للفلاح أن يبيع لها منتوجه كيف ما كانت الأوضاع، والثانية عندما يكون التعامل مع القطاع الخاص، الذي في حالة الانتاج المرتفع، تكون بعض المشاكل، لكن هناك مصانع جهزت بوحدات تجفيف الحليب، التي تساعد على جمع الفائض من عند الفلاح، واستعمال النوع المجفف في مشتقات الحليب. ويجب في المستقبل أن نكثر من وحدات تجفيف الحليب، لأن ولادات الأبقار تكون في مرحلة محددة من السنة، تمتد حوالي 3 أشهر، يليها مباشرة ارتفاع صاروخي في الإنتاج، وتمتد هذه الفترة من نهاية فبراير إلى بداية يوليوز عادة، ولو أن التكنولوجيا تمنحنا اليوم إمكانية برمجة الولادات، لكنها تتطلب وقتا لنصل إليها. *مدير الفدرالية البيمهنية المغربية للحليب

أزمة الحليب… قصة انهيار القطاع

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

"جنية" تعيد الأسمر إلى الغناء

أخبار الصباح

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات