“حراكة” قاصرون متشردون بسبتة

«الصباح» تروي معاناتهم بعد أن توقف حلم الهجرة بالمدينة المحتلة أعدادهم بالمئات خلال هذه الفترة، وخلال فترات أخرى تصل إلى الآلاف... أعمارهم تنطلق من سن السابعة، وقد تتجاوز أعمار بعضهم أحيانا الثلاثين عاما... إنهم شباب مغاربة يتحدرون من أقاليم ومدن عديدة، جمعهم هدف العبور إلى الضفة الأخرى في رحلات "حريك" يكون أحيانا جماعيا، وأحيانا أخرى فرديا، وعند الوصول إلى الثغر السليب - مدينة سبتة - تنطلق رحلة معاناة جديدة لم يكن الكثيرون يعتقدون أنها بانتظارهم.. رحلة تشرد وجوع واعتداءات مختلفة قد تصل حد هتك العرض... في الربورتاج التالي محاولة لرصد محنة قاصرين من "الحراكة" المغاربة الذين يعيشون حياة تيه وتشرد، بالنسبة لمن يرفضون منهم الاستقرار في المراكز الاجتماعية التي تعدها السلطات الإسبانية بسبتة السليبة، محاولين اقتناص أقرب فرصة للعبور إلى فضاء "شينغن" الفسيح... يوسف الجوهري (موفد الصباح إلى سبتة المحتلة) عندما دخلت "الصباح"، إلى سبتة المحتلة لاستطلاع أوضاع "الحراكة" المغاربة، الذين اعتادوا الانتشار بمحيط الميناء، كانت هذه العينة من "المرشحين للهجرة" قد اختفت عن الأنظار، مفضلة التواري والاختباء، بعد ليلة عاصفة تم خلالها تبادل العنف وإحداث الفوضى بينهم، ما جعلنا نجد صعوبة في البحث والتقصي من أجل الوصول إلى بعضهم. لم نفقد الأمل، فبعد محاولات متوالية عثرنا على طفل قاصر في عمر الزهور.. اسمه "محمد"، يتحدر من الفنيدق، وبالضبط من حومة "راس الوطا"... كان يتحرك في محيط الميناء عند الأدرج، وعلامات العياء والاعتداء بادية على جسده.. كان أول سؤال وجهناه إليه يتعلق بالسبب في اختياره عيش حياة التشرد والتسكع، وعدم الانتظام في المراكز الاجتماعية التي تشرف عليها السلطات السبتية، والتي عادة ما يكون أقرانه مرحبا بهم داخلها...؟ فكان جوابه جاهزا، متذرعا بأن فراره من المركز كان "بدافع الإفلات من الاعتداءات التي ينفذها القاصرون ضد بعضهم"، مستدلا على ذلك بآثار الحروق التي غزت ساقيه، ذلك أن أترابه أو من هم أكبر منه سنا، كانوا يستغلون خلوده للنوم ليقدحوا الولاعة في الأجزاء السفلى من سرواله، معرضينه للحرق، لذلك اختار هذا الطفل - حسب زعمه – حياة التشرد في انتظار أن يتمكن من تنفيذ مخططه للهجرة. "محمد"، وأمثاله كثيرون، ممن يهيمون على وجوههم في محيط الميناء، اعترف بتلقائية أن رحلة بحثه عن الفرار من أوضاعه الأسرية، رغم حداثة سنه، جعلته يجرب صنوفا مختلفة من الإدمان، لعل أولها إدمانه على تدخين السجائر، ومنها تجريب استنشاق أدخنة لفافات التبغ المحشوة بمخدر الشيرا... وربما قد تكون هذه الأصناف جزءا يسيرا من أنواع الإدمان المختلفة، التي باح بتعاطيه لبعضها واحتفظ بالبعض الآخر سرا بينه وبين نفسه، غير محبذ إطلاع محدثه عن تفاصيلها.. يقول "محمد"، وهو طفل في سن التمدرس، ولازال بإمكانه تسطير مستقبل آخر لنفسه غير الذي وجدناه عليه، إنه "نفذ محاولات عديدة" من أجل "الإفلات والعبور" بغاية استكمال رحلة الهجرة غير الشرعية، لكن محاولاته السابقة جميعها باءت بالفشل، إذ كان يقع بين أيدي المراقبين الذين يعيدونه إلى نقطة انطلاقه من سبتة. ولأنه يرفض المكوث في المراكز الاجتماعية، رغم أنه قاصر لم يبلغ بعد سن الرشد القانونية، فهو يفضل الاستمرار في عيش حياة التشرد، بحثا عن فرصة جديدة ينفذها، قبل أوان رشده. مراكز اجتماعية للقاصرين ولأن الكثير من "الحراكة" يعبرون البحر سباحة، وضمنهم قاصرون وأطفال، فقد أعدت السلطات السبتية ثلاثة مراكز من أجل استقبال والعناية بهذه الفئة التي تحرص السلطات على وضعها بعيدا عن حياة الشارع، لأن القانون يمنع ترحيل القاصرين ممن يعبرون إلى سبتة، كما أن الدولة الإسبانية، حسب ما استقته "الصباح" من بعض المغاربة المقيمين بهذه المدينة المحتلة، تقدم الدعم والمساعدة للاعتناء بالقاصرين "الحراكة" إلى غاية بلوغهم سن الرشد الذي يخول لهم المكوث بصفة قانونية، بعد أن يكونوا تلقوا تكوينات خلال سنوات إقامتهم بالمراكز الاجتماعية. وحسب ما صرحت به فعاليات مدنية مغربية بسبتة المحتلة، فإن هذه المدينة تتوفر على ثلاثة مراكز اجتماعية لإيواء القاصرين، أولها مركز "لاإيسبيرانسا"، ويتألف مبناه من طابقين، أحدهما علوي يضم خلال هذه الفترة من السنة 70 قاصرا، والثاني سفلي ويضم 80 فردا، من الذكور فقط. أما ثاني مراكز الإيواء السبتية فيقع فوق حي "برنسيبي"، ويطلق عليه اسم "بينييرس" ويضم، حسب ما صرحت به مصادر مطلعة، كذلك حوالي 70 قاصرا، ويجمع بين جدرانه الذكور والإناث. أما ثالثها فهو "مركز أحداث البحر الأبيض المتوسط"، ويقع بحومة "بَاريلا" ويختص في استقبال القاصرين من الذكور والإناث الذين تبلغ أعمارهم 10 سنوات دون أن تتعدى 14 سنة، كما أن عدد المستقرين به في الغالب لا يتجاوز عشرة أفراد. وحسب مصادر "الصباح"، فإن خدمات هذا المركز لا تقتصر على استقبال القاصرين من "الحراكة"، ولكنها تشمل كذلك بعض الأطفال الذين يعيشون مشاكل مع أسرهم، ويدخلون في شنآن مع الأبوين، إذ تلجأ الأسر إلى الاستعانة بخدمات هذا المركز الذي يتدخل من أجل تقديم الدعم النفسي والتربوي لهذه العينة من القاصرين، التي تقيم به بحثا عن الاستقرار النفسي والاجتماعي. حضن دافئ في وحشة الاغتراب في خضم ما يعيشه القاصرون من "كر وفر" مع السلطات والحرس المدني، يطفو على سطح الأحداث اسم امرأة تسلمت مشعل العمل الإنساني من أبويها. هي واحدة من المغربيات المقيمات بسبتة السليبة اللواتي ندرن أنفسهن لتقديم يد المساعدة والعون، لشباب وأطفال أغرتهم ظروف العيش في الضفة الأخرى من أجل خوض مغامرة الإبحار نحو المجهول، لذلك اختارت هذه الأم المغربية أن تكون حضنا لأبناء وطنها الذين يحاولون العبور، انطلاقا من سبتة إلى باقي التراب الإسباني. اسمها "صباح أحمد محمد دودوح"، وهي متطوعة اختارت تقديم يد العون إلى يافعين وأطفال في عمر الزهور، وحتى بعض البالغين يجدون في بيت هذه المغربية المقيمة بحي "روساليس" بسبتة ملجأ لهم، به تقدم لهم وجبات تعمل على إعدادها رفقة صديقات لها، ولديها يستحمون ويغيرون ملابسهم، ويقضون ساعات تعيد إليهم دفء الأسرة وحضن الأم الذي فقدوه عندما قرروا الهجرة صوب المجهول. فمنذ سنين عديدة واصلت "صباح" عملها الإنساني، الذي صرحت لـ "الصباح" أنها ورثته عن والديها اللذين فتحت عينيها عليهما وهما يسخران إمكانياتهما من أجل الوقوف إلى جانب شباب وأطفال مغاربة تقطعت بهم السبل في رحلة الهجرة إلى الضفة الأخرى، فصاروا يعيشون حياة التشرد والتسكع، هائمين على وجوههم بانتظار فرصة "الحريك"، والمغادرة باتجاه مدن أخرى بالتراب الإسباني، ومنها إلى باقي دول أوربا إن كان الحظ حليفا لهم. «صباح" التي فتحت بيتها للقاصرين من "الحراكة" وأعدت مستودعا وضبته لاستقبالهم، ومن موقعها متطوعة، دون أن تنخرط في جمعية أو تؤسس إطارا جمعويا أو منظمة، ترى أن " الأسر المغربية التي تشجع أو تهمل أطفالا صغارا، وتتركهم يلجؤون إلى المغامرة والهجرة سباحة وتسللا عبر اقتحام السياجات الحدودية، أو على متن وسائل نقل يلجونها خلسة من سائقيها، تتحمل المسؤولية"، لأن المكان الطبيعي لأطفال دون سن العاشرة هو صفوف الدراسة، وليس "الحريك"، ولأن الطريق إلى "إسبانيا الموعودة" حسب هذه المناضلة الإنسانية التي تتلقى مساعدات ودعم صديقات لها، "ليست مفروشة بالورود"، وإنما قد "تكون كذلك محفوفة بالمخاطر والتعذيب والاستغلال والاعتداء الجنسي"، من أجل ذلك اختارت هذه المرأة وهي تستقبل "الصباح" بمنزلها بسبتة أن تدعو "الآباء والأمهات المغاربة إلى الاعتناء بفلذات أكبادهم ومراقبتهم والمحافظة عليهم"، و"عدم السماح لهم بخوض رحلات مليئة بالأخطار والاستغلال"، لأن "المصير المجهول هو ما ينتظرهم بسبتة". الهجرة بحثا عن قدم اصطناعية بمنزل المتطوعة الإنسانية "صباح" صادفنا "ياسين" وهو واحد من المرشحين للهجرة إلى إحدى الدول الأوربية، الذي اختار الحديث لـ "الصباح"، رافعا أكف الدعاء لمن كانت سببا في دعمه والوقوف إلى جانبه، مصرحا بأنه "لن ينسى فضلها عليه". تعتبر حالة "ياسين"، المتحدر من ضواحي بني ملال، فريدة، كما أنها قد تبدو غريبة، بل إن من يسمع عنها دون أن يشاهدها يتساءل: "كيف لمعاق أن يسافر سرا عبر البحر، لأنه شاب بساق واحدة، بعد أن فقد الثانية في حادثة سير بمسقط رأسه ببني ملال دهسته خلالها شاحنة وهو على متن دراجته النارية وعندما استفاق من غيبوبته، أدرك أنه صار من مبتوري الأطراف. وكانت المعاناة مضاعفة، تجسدت في بتر رجله وفقدان عمله، هو الذي كان يشتغل لحاما، ليجد نفسه معاقا لا يقدر على الوقوف دون عكازين، فبالأحرى أن يجد فرصة عمل أو يواصل الاشتغال في مجاله الأول. وبعد رحلة محنة بحثا عن العلاج، الذي كان يقطع مسافة 60 كيلومترا من أجل الوصول إليه، وفي ظل غياب العناية والرعاية الطبية اللازمة، اختار "ياسين" خوض مغامرة ركوب الأمواج، مجربا محاولة الهجرة سرا لبلوغ سبتة التي وصلها غشت الماضي. يقول "ياسين" إن رغبته في "الحريك" كانت بدافع أساسي، تمثل في الحصول على قدم اصطناعية، بعد أن سئم الوعود التي كان يتلقاها من أفراد عائلته أو مقربين من محيطه العائلي، في تمكينه من "الرجل الاصطناعية" الملائمة التي من شأنها أن تجعله يتحرك بحرية، ودون الاعتماد على عكازين، والتي تلقى بشأنها نصيحة بأنه لن يجدها في المغرب، وإنما قد يبلغها في الضفة الأخرى من المتوسط. غامر "ياسين" الملالي عوما، فوصل إلى سبتة، وبعد أشهر قليلة من الانتظار، جاءت البشرى التي طالما انتظرها، حيث قال إن "أياما قليلة تفصله عن بلوغ مبتغاه والتمكن من العيش في وضع قانوني قد يتيح له التنقل في دول أوربية أخرى. وهو يشارك "الصباح" بشراه، لم ينس "ياسين" الثناء على من يعتبرها الجدار الذي اتكأ عليه فحماه في غربة بمدينة لم يكن له فيها صديق أو قريب، رافعا أكف الدعاء لمن أطعمته وكسته، وفتحت باب مسكنها على مصراعيه، له وللكثيرين غيره، فكان لهم الملجأ والمأوى. وإذا كان "ياسين" قد قارب على بلوغ الاستقرار بعد المغامرة غير المأمونة العواقب التي استعان فيها بلوح خشبي، فإن المئات من "الحراكة"، وضمنهم عديد من القاصرين لازالوا يراوحون مكانهم، تارة يمتثلون للعيش بالمراكز الاجتماعية بسبتة السليبة، وأخرى يفرون منه بحثا عن "حرية مزعومة!!.."

“حراكة” قاصرون متشردون بسبتة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

هـذه أعـراض الأنفلونـزا

درون "بوليساريو"!

مقالات ذات صلة