الهروس: تكريم الاجتهاد الفقهي المالكي للمرأة (الحلقة الأخيرة)

عدم هضم حق الزوجة باستحقاقها لنصيبها من الأموال المكتسبة أثناء قيام الزوجية (الحلقة الأخيرة) فمن فتاوى الفقهاء المغاربة في هذا الشأن فتوى أبي عبد الله محمد بن الحسن الشهير بابن عرضون الزجلي الشفشاوني عاش في القرن العاشر الهجري كان حيا في حدود سنة 1549 م / 956 ه وتوفي سنة 992 ه / 1584 م نص فتوى ابن عرضون كما جاءت في نوازل العلمي 2 / 101 سئل أبو عبد الله سيدي محمد بن الحسن بن عرضون عمن تخدم من نساء البوادي خدمة الرجال من الحصاد والدراس وغيرها، فهل لهن حق في الزرع بعد موت الزوج لأجل خدمتهن ؟ أو ليس لهن إلا الميراث ؟ فأجاب : الذي أفتى به القوري مفتي الحضرة الفاسية أن الزرع يقسم على رؤوس من نتج عن خدمتهم، زاد عليه مفتي البلاد الغمارية جدنا للأم أبو القاسم بن خجو على قدر خدمتهم، وبحسبها من اتفاقهم، أو تفاوتهم، وزدت أنا لله عبد، بعد مراعاة الأرض والبقر والآلة، فإن كانوا متساوين فيها أيضا فلا كلام، وإن كانت لواحد حسب له ذلك ). قال محمد ابن عرضون بعد نقل فتوى القوري : ( ولا فرق في ذلك بين الزرع والزيتون، لكون السؤال وقع على العنب وغيره، ولا بين من تعاطى خدمة، وغيره يتعاطى أخرى ، لجريهم في ذلك مجرى المفاوضة، وجرى الحكم من أشياخنا بإعطاء من بلغ عشرة أعوام لقوة المظنة في تعاطي أولاد البوادي الخدمة، ومقامهم مقام غيرهم من الرجال). وقد أشار إلى هذه الفتوى صاحب العمل الفاسي في قوله : و خدمة النساء في البوادي للزرع بالـدرس و الحـصـاد قال ابن عرضون لهن قسمه على التساوي بحساب الخدمه لـكـن أهـــل فـاس خـالـفـوا قالوا لهم في ذاك عرف يعرف يقول العلامة المهدي الوزاني والمعنى أن ابن عرضون قال أي أفتى في خدمة نساء البادية للزرع بالحصاد والدراس والنقل والتذرية والتنقية بأن لهن قسمة فيه على التساوي بينهن بحسب الخدمة فيه، فكل واحدة منهن تأخذ منه بقدر عملها ، فمعنى القسمة على التساوي . وإن كانت فتوى محمد ابن عرضون مقتصرة على الحصاد والدراس في حالة الموت، فإن فتوى أخيه أحمد ابن عرضون عامة في الأحوال والأعمال وجريا على ما كان مطبقا بالبلاد الغمارية . و مستند ابن عرضون ومن وافقه ما ورد في الأثر من أن عامرا بن الوارث كان قصارا وامرأته ترقم الأثواب حتى اكتسبا مالا كثيرا ، فمات عامر و ترك أموالا ، فأخذ ورثته مفاتيح المخازن و اقتسموا المال، ثم قامت عليهم زوجته و ادعت عمل يدها وسعايتها ، فترافعت مع الورثة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقضى بينها وبين زوجها المتوفى بشركة المال نصفين، فأخذت الزوجة النصف بالشركة، والربع من نصيب الزوج بالميراث لأنه لم يترك أولادا، وأخذ الورثة الباقي . والمستند الثاني لهذا الحق هو العرف وما جرى به العمل في بعض المناطق بالمغرب فقد أجاز فقهاء سوس و جبالة (غمارة ) حق سعاية المرأة بناء على ما جرت به العادة و العرف، باعتباره أصلا من أصول التشريع الإسلامي ودليلا يرجع إليه لمعرفة الأحكام الفقهية إذا أعوز النص الشرعي من الكتاب والسنة، حتى قرر فقهاء المذهب أن الثابت بالعرف كالثابت بالنص والعادة محكمة والعادة كالشرع. والمستند الثالث هو الاجتهاد الفقهي وفي كتب النوازل المغربية ما يغني في الصدد ثم إن مبدأ العدل والإنصاف ومراعاة المصلحة التي هي أصل في الشرع يستدعي عدم هضم حق الزوجة باستحقاقها لنصيبها من الأموال المكتسبة أثناء قيام الزوجية تحقيقا للمساواة بين طرفي العلاقة الزوجية، وهو حق متبادل على العموم لا يمكن لأحد أن ينكره. وقد عارض رأي ابن عرضون عدد من العلماء كالعلمي وعبد القادر الفاسي بعدة اعتراضات لا يسمح المقام بتفصيلها. ووجاهة فتوى ابن عرضون غير خافية نظرا لما كانت ولازالت تعانيه المرأة الجبلية من مشاق ومجهودات قد لا يتحملها زوجها، من سقي وحطب وغرس وتنقية أرض وجني للثمار وزرع ودرس وحصاد وطحن ورعي للماشية ونقل للمؤن على الظهر، بل والبناء والترميم المعروف عن نساء بعض البوادي، جعلته ينتصر لها في مواجهة زوجها، لأن ما نشأ من ممتلكات أثناء الحياة الزوجية هو نتيجة مجهودات مشتركة تستدعي نيلها نصيبا منها وفق قدر العمل، وهو ما تعارف عليه أهل البوادي الجبلية. وقد وقف المشرع المغربي موقفا وسطا ما بين الرأيين فهذب هذا الحق الذي أقرته فتوى ابن عرضون في المادة 49 من مدونة الأسرة هذه الأخيرة جاءت بعدة مستجدات كإقرارها لمبدأ استقلال الذمة المالية لطرفي العلاقة الزوجية وإمكانية الاتفاق على تدبير الأموال المكتسبة أثناء الحياة الزوجية بتضمين هذا الاتفاق في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج تخضع لمقتضيات قانون الالتزامات والعقود خلافا لعقد الزواج الذي تحكمه مدونة الأسرة أركانا وشروطا، كما تطرقت إلى وجوب إشعار العدلين للزوجين بمقتضيات المادة 49 ( تحت طائلة المسؤولية التأديبية والمدنية)، وكذا إلى حالة عدم توثيق الاتفاق وكيفية الإثبات. خاتمة : لا يخفى على المتمعن لما سلف ذكره في شأن تكريم الاجتهاد الفقهي المالكي للمرأة مدى أهميته باعتباره اجتهادا متسما بالمرونة في تنزيل الأحكام و مسايرا للتطور، ويمثل تنشيطا للاجتهاد الفقهي وتجديدا له من شأنه أن يؤدي إلى استقرار المعاملات والتصرفات والعلاقات الأسرية والاجتماعية، من خلال وسطية المذهب الذي يفتي في الواقع مراعيا المصالح المرسلة ما لم تتعارض مع أصل أقوى منها والعرف وما جرى به العمل وفق المقاصد الشرعية، ويكفي الباحث الألمعي سبر أغوار التراث الفقهي المالكي وخاصة النوازلي ليتأكد له بالدليل المخرس والحجة أن فقهاءنا وقضاتنا الأجلاء قد أوجدوا حلولا بديعة لمشكلات ونوازل مستعصية وفق منهج علمي رصين على ضوء مقاصد الشرع. جواد الهروس * باحث في الفقه الإسلامي والقانون

الهروس: تكريم الاجتهاد الفقهي المالكي للمرأة (الحلقة الأخيرة)

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

النسخة الخامسة من برنامج "أكري فوس"

"البيوت أسرار" على "الأولى"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات