السياسة الجنائية… مدخل الإصلاح الحقيقي

العيماني: الوضع الدستوري القائم لا يسمح بتولي مؤسسة وزير العدل الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية يرى عبد السلام العيماني، عضو المجلس الأعلى للقضاء، ووكيل الملك بابتدائية الرباط أن الوضع القاتم الذي كانت ترسم فيه السياسات الجنائية السابقة، تغير بشكل كبير خاصة بعد إقرار دستور سنة 2011، إذ أن أول مظهر من مظاهر التغير هو إعادة النظر في بناء السلط والمؤسسات وإعادة توزيع أدوارها، بالنظر إلى أن التعديلات الدستورية التي شهدها المغرب لم تستكمل دورتها بعد، إذ لابد من أن تتوج تلك التعديلات بطفرة تشريعية تفضي إلى إيجاد قوانين منسجمة مع المقتضيات الدستورية الجديدة، وما التزم به المغرب أمام المنتظم الدولي من تشبثه بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا. العيماني يؤكد في إحدى دراساته أن الدستور الذي أوكل إلى السلطة القضائية ممثلة في القاضي مهمة حماية الحقوق والحريات، قد أوجب بطريق غير مباشر على السلطتين التشريعية والتنفيذية أخذ رأي السلطة القضائية في كل ما يتعلق بمسألة التجريم والعقاب على اعتبار أنها تمس بالحقوق والحريات التي يتعين أن يتمتع بها كل فرد على حدة.و من هذا المنطلق يشير إلى أن الإرادة الحقيقية للدولة المغربية في إشراك السلطة القضائية قد عبرت عنها من خلال مقتضيات الفصل 113 من الدستور الحالي والتي تنص على أنه: « يضع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بمبادرة منه، تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ويُصدر التوصيات الملائمة بشأنها. يُصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بطلب من الملك أو الحكومة أو البرلمان، آراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بسير القضاء مع مراعاة مبدأ فصل السلط...». ويضيف أن المتمعن في هذه المقتضيات الدستورية سيجد أن مسألة التقرير في الحقوق و الحريات لم تعد أمرا محسوما لجهة السلطة الحكومية، وإنما أصبحت أمرا تشاركيا، تساهم فيه كل الجهات الموكول لها نصيب من اتخاذ القرار و التنفيذ. و يمكن رصد معالم السياسة الجنائية المستقبلية، في ظل المستجدات الدستورية، من خلال المستوى التشريعي، إذ لا يمكن الحديث عن إقرار سياسة جنائية مأنسنة ومتسمة بالطابع الحقوقي من غير إشراك للسلطة القضائية، لأن أي سياسة في مجال التجريم والعقاب يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف الواقعية التي تنبثق منها ظروف وملابسات الجريمة ذاتها، فلا يعقل أن يتم إقرار جرائم بعينها أو رفع صفة التجريم عن أفعال أخرى من غير أن يكون للعاملين والمتدخلين في منظومة العدالة أي رأي، فالمآل الأول و الأخير إلى النص التشريعي سيعود لهم، وبالتالي فإن مسألة إشراكهم في بناء التصور التشريعي يجب أن يكون حاضرا عند وضع القوانين و النصوص خاصة في ميدان التجريم. ثم على المستوى المؤسساتي، بحيث يمكن أن تكون فترة ملاءمة التشريعات للمقتضيات الدستورية مناسبة لإعادة النظر في وضعية المؤسسات السجنية ومراكز إيواء الأحداث من حيث تبعيتها للسلطة القضائية، على اعتبار أن تنفيذ العقوبة و ظروف ذلك التنفيذ تعتبر جزءا من مهام العمل القضائي. وبالإضافة إلى ذلك فإن الدولة المغربية مطالبة بتوفير الظروف المناسبة والشروط الملائمة لتدخل مؤسسات المجتمع المدني في بناء تصور متكامل للسياسة الجنائية، إذ أن هذه المؤسسات يمكن أن تلعب أدوارا طلائعية في التوعية الاجتماعية بما يفيد التحسيس بمخاطر الجريمة و تبيان آثارها الاجتماعية، سواء من خلال الجمعيات أو المبادرات المندمجة في هذا السياق. كما أن لمؤسسة الإعلام دور مهما عند تنفيذ بنود السياسة الجنائية على أرض الواقع، وهو ما سيسهل الوصول إلى النتائج المرجوة، خاصة أن عملية صناعة الرأي العام تمر بالضرورة عبر القوات الإعلامية من جرائد و صحف و مجلات ولما لا عبر القنوات المعلوماتية الحديثة كشبكات التواصل الاجتماعي و غيرها. أما المستوى الثالث فيتعلق حسب وكيل الملك بما هو الحقوقي، إذيجب أن تتغير أسس و معايير بناء السياسة الجنائية، إذ يتعين أن يتم هجر المنطق الأمني الصرف لتحل محله النظرة الحقوقية المتكاملة و المندمجة. فإذا كانت للدولة حقوق يجب احترامها والضرب على أيدي كل من يمس بها، فإن للأفراد كذلك حقوقا يجب أن تراعى في كل مراحل المحاكمة، بدءا من ضمان المحاكمة أمام محكمة مستقلة و انتهاء بصدور حكم قضائي عادل. لذلك فإن مراعاة البعد الحقوقي يجب أن تتأسس على إشراك الفاعلين الحقوقيين الأساسيين، سواء القضاء باعتباره فاعلا حقوقيا بموجب الدستور الذي أوكل له مهمة حماية الحقوق والحريات الراجعة للأفراد و الجماعات، أو المجلس الوطني لحقوق الإنسان باعتباره مؤسسة دستورية موكولا لها أمر ممارسة نوع من الحكامة الحقوقية، وما إلى ذلك من المؤسسات التي يعتبر تدخلها منتجا في سيادة القانون واحترامه.ويرى العيماني أن هذه الجوانب لا يمكن أن يكون لها أثر إلا من خلال إعادة ضبط العلاقة القائمة بين السلط الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، على مستوى وضع سياسة جنائية رصينة. فالوضع الدستوري القائم لم يعد يسمح بأن تتولى مؤسسة وزير العدل أمر الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية، لأن القضاء لم يبق مرفقا تابعا لمرافق المؤسسة التنفيذية بل أصبح سلطة مستقلة بذاتها، وبالتالي فإن أي تدخل من وزير العدل من شأنه أن يمس بذلك الاستقلال، وبالتالي تضيع أبسط شروط المحاكمة العادلة. و في هذا السياق يمكن القول بأن النظرة التشاركية للمؤسسات والسلط في بناء سياسة جنائية قوية وفعالة ومنتجة هي السبيل إلى تطوير المنظومة التشريعية الجنائية المغربية، سواء في مجال الحقوق و الحريات الأساسية، أو في ما يتعلق بالحقوق المدنية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية.واعتبر أن الحديث عن صياغة علمية ورصينة للسياسة الجنائية يقتضي أن ترتكز الرؤية على مستويين، مستوى مركزي ويهم الحالة الجنائية العامة التي تهم الأمن على المستوى الوطني، ومستوى محلي و يراعى فيه نوع من الخصوصية المحلية التي تؤدي إلى شيوع نوع من الجرائم المطبوعة بالطابع المحلي، وبالتالي فإن استراتيجية التعامل مع الجرائم ذات الطابع الوطني أو عبر الوطني، لن تكون هي التي يجب التعامل بموجبها مع الجرائم ذات الطابع المحلي، الشيء الذي يولد نوعا من الاختلاف سواء من خلال الفاعلين أو الوسائل المستعملة، كما يجعل من المقبول تعدد المراكز التي تتخذ القرار في شأن تنفيذ مقتضيات السياسة الجنائية، وهو الأمر الذي يجعل مسألة اللامركزية في صياغة وتنفيذ السياسة الجنائية أمرا مقبولا.

السياسة الجنائية… مدخل الإصلاح الحقيقي

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

مسيرة الرباط طالبت بإسقاط الحكومة

4 في المائة من سجناء "بولمهارز" بسبب "البارصا" و"الريال"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات