هموم الثقافة وأحلامها

لا أحد ينكر دور الثقافة في نهارات التقدم وليالي التراجع التي تعرفها مسيرات الشعوب والأمم، فليست هناك ظاهرة واحدة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حتى علمية وتقنية لا تخلو من البعد الثقافي. قد تبدو الثقافة محفزة وملهمة وصانعة للوعي ومهذبة للوجدان.. وقد تبدو أيضأ مغيّبة مدمرة مزيفة للوعي ومشوّهة للوجدان.. وعلينا نحن أن نختار ونسعى. وليس للإنسان إلا ما اختار وما سعى. الثقافة من حولنا حاضرة بقوة تتسبب في خلق الأزمات تارة بقدر ما تسهم في تجاوزها والخروج منها تارة أخرى. أهم وأخطر قضايانا وأزماتنا ذات جذور وأسباب ثقافية، ولن يقدر لنا مواجهة هذه الأزمات والقضايا من دون إدخال المكوّن الثقافي في أي استراتيجية للمواجهة، لنأخذ مثلاً الديمقراطية التي هي مظهر مأزقنا الحضاري، ومصدر همنا السياسى لنكتشف أنها ثقافة وذهنية بقدر وربما قبل أن تكون نظاما دستوريا وآليات سياسية. أما على المستوى الدولي، فإن أهم وأخطر الظواهر والأزمات العالمية التي نعانيها مصريين وعربا، فهي أيضا ذات أبعاد ثقافية بالأساس، فالتوتر العالمي الحاصل منذ أحداث شتنبر، وما لحقها من إعلان الحرب على الإرهاب تكاد تكون ظاهرة ثقافية برمتها، بل إن مظهر الالتباس الدائم في علاقة العالم العربي- إسلامي بالغرب ذو جذور ثقافية، حتى إن أخذ ظاهريا شكل الصراع الجيوبوليتيكي. وبالإضافة إلى المستويين المحلي والدولي، فإن الثقافة تبدو على المستوى العربي الإقليمي حاجة ملحة كعنصر لتوحيد الأمة يعيد لها ذاكرة الشعور، بالتلاحم في عصر التكتلات الإقليمية والعالمية. والثقافة هى حصن العرب الأخير الذي يحمي التخوم الخلفية العميقة لديارنا من أخطر وأذكى أشكال الغزو والسيطرة. ليس سوى الثقافة ما يلملم ما بعثرته السياسة في هذا الوطن العربي واسع الأرجاء ضيق الآفاق. الثقافة بهذا المعنى هي التي يمكن أن تلهم العمل الاقتصادى العربي، بل ومجمل حركة التنمية البشرية الشاملة بمحفزات التقدم وأحلام النهوض. لهذا كان من الطبيعي أن يكون للاهتمام بالثقافة أولوية على قائمة أي أجندة إصلاحية، وكان من الطبيعي أيضا أن يكون البحث عن مشروع ثقافي هو أحد شواغل النخبة والمجتمع والدولة، لكن السؤال الجدير بالطرح هو تحديد المقصود بهذه العناوين والمصطلحات البرّاقة التي تراجع حماس الناس بشأنها، ولعلهم أصيبوا بالضجر بسببها، وهم الذين تنتهي أحلام السواد الأعظم منهم عند حد الحصول على رغيف خبز ومسكن بسيط وفرصة عمل. ومن هنا على وجه التحديد، حيث السؤال عن دور المكوّن الثقافي في العمل العربي المشترك، كانت الدعوة التي أطلقتها مؤسسة الفكر العربي في بيروت منذ عدة أشهر لعقد قمة ثقافية عربية على غرار القمة الاقتصادية العربية التيعقدت في الكويت العام الماضى. وإعمالا لهذه الدعوة، كان تجاوب جامعة الدول العربية التياستضافت لقاء ثقافيا في رحابها، بحضور الأمين العام للجامعة عمرو موسى، والأمير خالد الفيصل رئيس مؤسسة الفكر العربي وعدد من المثقفين المصريين والعرب. بدا هذا اللقاء الثقافي غير الرسمي فرصة لطرح العديد من الأفكار والرؤى ليس فقط حول سبل الإعداد والتحضير لكيفية عقد مثل هذه القمة الثقافية العربية المنشودة بل أيضا حول أسئلة وهموم الثقافة والبحث عن مشروع ثقافي عربي. ولعل أول سؤال يقفز إلى الذهن عند الحديث في هذا الموضوع هو تعريف الثقافة ذاتها. التساؤل الطبيعي والمنطقي إذا هو أي ثقافة نقصد؟ وأي مشروع ثقافي نريد؟ ثم هل يقدر النجاح حقاً لفكرة عقد قمة ثقافية عربية، أم أن الأمر لن يعدو أن يكون مجرد نقاش وجدل وربما بضع توصيات تضاف لما سبق أن عرفته المؤتمرات والمنتديات العربية؟ لنبدأ بالتساؤل المنهجي الأول أي ثقافة نقصد؟ وهو سؤال يتكرر دائماً عند الحديث عن أي مشروع أو إصلاح ثقافي، ولنعترف أن هناك تعريفات للثقافة، ربما بقدر ما يوجد من مثقفين!! وقد تتباين رؤانا حول تعريف الثقافة أو تحديد من هو المثقف. ثمة أزمة مصطلح ثقافي إذاً تسهم في إضفاء الالتباس على فكرة أي مشروع ثقافي. المطلوب على أي حال هو أن نتجاوز، ولو مؤقتا هذا الجدل الاصطلاحي حول تعريف الثقافة بحثا عن مفهوم مبسط ووظيفي، فلا شك أن هناك مفاهيم للثقافة شديدة التجريد وبالغة الاتساع. وهناك مفاهيم أخرى تبدو أقل تجريدا واتساعا. ولعلنا نحتاج في هذا المقام، وبما أننا نتحدث عن مشروع ثقافي أو إصلاح ثقافي إلى طرح مفهوم مبسط ووظيفي للثقافة ينطلق من اعتبارها مكوّنا تنويريا وإصلاحيا في أي مشروع نهضوي عربي. ولكى يتحقق هذا فلا بد من تجاوز تعريف الثقافة ذاتها وصولا إلى مفهوم للتنمية الثقافية التي تربط الثقافة كمضمون وقيم مع أدواتها وآليات نشرها. ولعلّ أبسط مفهوم وظيفي يمكن الانطلاق منه للتنمية الثقافية هو اعتبارها "كل ما يسهم من رؤى وقيم ووسائل لتنمية العقل وتهذيب الوجدان". السؤال الآن، هو كيف يمكن توظيف الثقافة لتصبح جزءا من مشروع نهضوي عربي؟ من الطبيعي أن تتباين الرؤى والإجابات عن سؤال كهذا، لكن إذا كنا نسعى حقا لرؤية تربط بين الثقافة والنهضة ارتباط السبب بالنتيجة، فإن هناك حقائق ومتغيرات ينبغي الوعي بها والتركيز عليها. أولى هذه الحقائق ليس إلا ترتيب الأولويات الثقافية القادرة على تشكيل الوعي العربي وتنمية العقل العربي والارتقاء بالوجدان العربي. والواقع أنه لا تتصور تنمية ثلاثية الوعي والعقل والوجدان بدون مجموعة آليات وأدوات ووسائل في مقدمتها التعليم الجيد المتاح لأكبر عدد من الأفراد، ونشر سلوكيات القراءة والتشجيع عليها في ظل تواضع معدلات القراءة والنشر في العالم العربي، والاهتمام بالثقافة الرقمية التيأصبحت هي لغة العصر وأداة التواصل وأحد مصادر المعرفة، ودعم البحث العلمي، وإنقاذ اللغة العربية من مصير يكاد يكون مقلقا ومجهولا في ظل واقع مؤداه أن نصف أجيالنا الجديدة يتأفف من استخدام لغته العربية والنصف الآخر عاجز عن استخدامها على النحو السليم، وتصويب حركة الانفجار الإعلامي الفضائي الذي يبدو هو الآخر موزّعاً بين تيارين غالبين هما التيار الماضوي العائش في زمن غير زماننا وتيار السطحية المروّج لثقافة اللهو واللذة. لا بد من إخراج إعلامنا الفضائى الذي تجاوز أكثر من ستمائة فضائية من هذا الاستقطاب الحاد، وهو استقطاب انعكس على شبابنا فأسهم في تزييف وعيهم وتشويه وجدانهم. هذه مجرد أمثلة لأولويات ثقافية جديرة بالتركيز عليها في أي مشروع ثقافي عربي، ويمكن بالتالي أن تكون مطروحة في إطار النقاش حول أجندة القمة الثقافية العربية المنشودة. لقد عبر المثقفون في لقاء جامعة الدول العربية عن هذه الأفكار بطروحات ودرجات مختلفة. وضع الدكتور مصطفى الفقي يده على حقيقة جليّة هي أن أخطر الظواهر والتحديات التيتواجه العرب اليوم مثل العولمة وصراع الثقافات والحرب على الإرهاب هى ذات طابع ثقافي بالأساس. هذا يعنى أن الأزمات التي تجتاح العالم اليوم جذورها ثقافية ومواجهتها بالتالي ثقافية، لكن المشكلة أن ديارنا ما زال ينقصها الكثير على صعيد مبادئ وقيم الحداثة. لئن كان تشخيص الأزمة الثقافية العربية، يبدو بهذه الدرجة من الوضوح، فإن السؤال المنطقي التالي يصبح كيف نبدأ ومن أين؟ ربما كان علينا وبصرف النظر عن اختلاف رؤانا وأفكارنا أن نتحلى بفضيلة التواضع. ففي تجارب كثيرة ماضية، كنا نبدأ مشروعاتنا ومبادراتنا بسقف من الطموح وربما الجموح يكاد يلامس السماء، ثم لا تلبث أن تكون النتيجة بالغة التواضع إن لم يكن الفشل. نريد إذن لفكرة مثل الدعوة إلى عقد قمة ثقافية عربية أن تتحلى بالواقعية والتواضع، سواء في ما تطرحه من مبادرات أو في ما ننتظره منها من مخرجات. عن مؤسسة الفكر العربي

هموم الثقافة وأحلامها

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الشباب محبط لأن الدولة تعاني الإحباط

ارتفاعات قياسية في أثمنة الرحلات البحرية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات