الهادي: العقوبات البديلة غير مقبولة في المجتمع

الباحث في علم الاجتماع يرجع عقلية الحبس إلى صراع سلوكات ماضوية مع ثقافة حقوق الانسان يرى الهادي الهروي، أستاذ باحث في علم الاجتماع، أن الحديث عن مدى تقبل المجتمعات للعقوبات البديلة عن سلب الحرية، يجر إلى تناول الموضوع من زوايا متعددة يختلط فيها النفسي بالاجتماعي ويتداخل فيها القانوني مع السياسي. يعتبر الهادي الهروي، أن الدولة عبر خطاباتها الرسمية (وزارة العدل) ما فتئت في كل مرة تتحدث عن المغالاة في الاعتقال واكتظاظ السجون، إلا أن خطاباتها لا تلمس على أرض الواقع، فمبدأ الضمانات والتغريم وغيرهما من العقوبات التي يمكن إنزالها على الأفراد في حال ارتكابهم خطأ أو فعلا معاقبا عليه، لا تجد لها تقبلا من قبل الخصوم، الذين يطعنون في تلك الأحكام البعيدة عن سلب الحرية، بل ويرفعون شكايات إلى المؤسسات المعنية، كما يثيرون في حالات عديدة تظلماتهم عبر الإعلام، ليس لتبيان الضرر العميق الذي تسبب فيه المفرج عنه، ولكن لوصف مصدر الحكم بالابتعاد عن القانون والعدالة والحق وغيرها من المفاهيم الفضفاضة. وهذا بطبيعة الحال، ليس تعميما على كل الأحكام، إذ هناك حالات يكون السجن هو العقوبة الملائمة لمن صدر في حقه لجبر الضرر والردع العام والخاص، لكن الذي يهم في الموضوع الذي نتناوله هو الأخطاء التي يمكن جبرها وتحقيق الردع فيها بنوعيه، بواسطة عقوبات غير السجن. ويضيف أن الجنوح نحو "الانتقام" من الخصم بوسيلة واحدة هي "السجن" يجد مسبباته في مجموعة من السلوكات التي باتت تسيج المجتمع وتحد من قابلية اندماجه في أنماط جديدة مختلفة، وهذه السلوكات مرتبطة بالمتخيل الشعبي والانتقام والتأر وإعادة الاعتبار وغيرها من المفاهيم المرتبطة بهذا المجتمع.ويعزو ذلك إلى اعتبار أن الحبس في المتخيل الشعبي فضاء نجس، مكان لاعتقال العقل والجسد بتحويل الحرية المطلقة التي ينعم بها الفرد في مزاولة حياته بمتعة ولذة، إلى حرية مقيدة ومعيقة لإشباع الرغبات والغرائز والميولات. إن " الحبس" بهذه المواصفات، مجال تباد فيه الكرامة والرجولة وتمحق فيه القيم الإنسانية النبيلة بما يلحقه من عار وذل ومهانة. وبناء عليه، يرغب بالتالي كل إنسان في تحاشي تجربة "الحبس" بالمعنى التقليدي للكلمة واجتناب الدخول إليه، رغم أن الأقوال المأثورة تشير إلى حتمية المرور من التجربة ووصف الحبس ب: "دار الصابون، للي ما صبن اليوم يصبن غدا". ففي المجتمع المغربي كثيرا ما تردد الأفواه عبارة "غادي ندخلك للحبس" بين متنازعين في الشارع وفي الحي أثناء خصام فردي أو جماعي، وبين جارين أو بين أفراد عائلة أو بين متنازعين غرباء، وهو قول بطولي نابع من إجهاد نفسي لتحقيق التفوق وإثبات التميز والسمو وتحقيق الذات. فالمتشاجر الغاضب، خصوصا ممن ينتمي إلى العقلية المخزنية السلطوية العتيقة، الممتلئ بالموروث الثقافي الإقطاعي، يسعى دوما إلى أن يكون هو المنتصر في كل المبارزات والمنازعات والمواقف لأن الانهزام يغرقه في بحر من الدونية والأسى. بناء على هذا التخيل، يضيف المتحدث نفسه، أنه لا ينطلق المتشاجر في منطق دفاعه عن نفسه، من براهين وحجج واضحة ولا يصدر أحكاما موضوعية عن نفسه ونقد ذاتي لتصرفاته وسلوكه ولآرائه الدوغمائية القطعية، بقدر ما يندفع نحو إصدار أحكام قيمة من منطلق انفعالاته وميولاته. إن غضب الفرد الذي يتجسد في أشكال من السب والشتم والكلام البذيء المسيء إلى الأخلاق باعتباره رد فعل غاضب لمهاجمة مصدر غير مرغوب فيه وإيذائه والعمل على إقصائه من الوجود وذلك بالقول : "غادي ندخلك للحبس "، قول يرتبط بالشبكة الاجتماعية التي ينتمي إليها الشخص والطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها عائلته والموروث الثقافي الذي اكتسبه. ويشير الهادي الهروي إلى أن المجتمع المغربي لا زال يعاني من وجود فئة عريضة من الناس تحن إلى أيام السيبة وتمارس سلوكات ونزوات لا إنسانية تظهر بجلاء في استغلالها للناس ومحاربتهم بكل الوسائل، في حالة المعارضة أو الاختلاف أو النزاع، فتداول الخطاب التواصلي عند هؤلاء يعج بمفاهيم الحقد والثأر والانتقام واحتقار الناس وقذفهم بالدونية والوضاعة. كما أن قول "غادي ندخلك للحبس" يتردد في حالات نزاعهم على أتفه الأشياء، خاصة عندما يشعرون بأن مصالحهم مهددة، وسلاحهم في ذلك أنه "ليس من طبيعة القوة أن تواجه بالضعف". و لتأكيد هذه القوة ومهاجمة الخصم لا بد من توظيف آليات الضغط عبر التخويف والترهيب والتعنيف، وكأن الأمر يعكس نوعا من الحرب. فالعبارات التي ترددها أفواه العديد من الناس من كل الشرائح الاجتماعية، هي من مخلفات ورواسب العقلية الإقطاعية والنظام القائدوي الذي نصبه الحكم الكولونيالي حيث كان للقواد ولأعوان الدولة ولأفراد العائلات المخزنية نفوذ قوي وسلطة مطلقة على العباد، لدرجة الزج بهم في غياهب السجون لأتفه الأسباب، بل ما زالت فئة عريضة من الناس ممن تؤمن، توهما، بأنها فوق القانون قائمة، رأسمالها في ذلك نسق من الرموز الوهمية العتيقة، كالانتماء العرقي أو القبلي أو الشريفي أو امتلاك المال والجاه أو الانحدار من السلالات التي تعتقد أن لها وصاية على المواطنين، أو بدعوى "اللي ما عندو سيدو عندو لا لاه". ويذهب الهادي إلى أن هذه الفئة تعاني في الغالب، من انفصام بين الصورة الذهنية المثبتة لاشعوريا، وبشكل ماضوي، والواقع المكيف بقواعد المساطر القانونية ومعايير ثقافة الحداثة وحقوق الإنسان التي بدأت تجرف العديد من العقليات المتحجرة المجبولة على الإساءة للناس والحط من كرامتهم، عقلية فترة الرصاص والمحاكمات الصورية، الغير قادرة على الاندماج في نسق المعايير السامية التي تحث على احترام فضائل المجتمع المغربي وقداسته. لقد رسخت هذه الفئة فكرة حقيرة عن السجن، فتكونت فوبيا للناس منه، علما أن السجن، في ثقافة المجتمعات الديمقراطية المعاصرة، مؤسسة للحفاظ على الحياة المدنية. فإذا كان الأفراد في المجتمعات المعاصرة قد اتفقوا على تدبير شؤون حياتهم عبر مؤسسات خاضعة لقوانين ومعايير ونظم ، فإن السجن يعد مؤسسة ونظاما اتفاقيا تعاقديا وظيفيا بين المجتمع وسلطة القانون بهدف ضمان الأمن والسلام للجميع وترسيخ سلوك الطاعة والانضباط ، وذلك عبر قنوات الرقابة والعقاب المتعددة التي أشار إليها " ميشيل فوكو". ورغم التقدم الذي يشهده المجتمع المغربي في مجال دمقرطة الحياة العامة وتحديث المؤسسات العمومية والانفجار الحداثي الذي غير العديد من القيم البالية ، فإن مبدأ "أنا وبعدي الطوفان" ومنطق "تدمير القرية بغية إنقاذها" ما زال يسكن جماجم العديد من المغاربة. كما أن العمل على تحسين واقع المؤسسات السجنية بكل أنواعها ووظائفها لا زال باهتا، بل إن واقع المؤسسة السجنية ببلادنا ما فتئ يتردى وما فتئت المؤسسات السجنية تعاكس الوظائف التي أعدت من أجلها وتخالف المواثيق والمعايير الدولية المتعارف عليها والخاصة بحقوق السجناء. وقد ذكرت مديرية السجون ومرصد السجون المغربية ووزراء العدل المتعاقبون بالمشاكل المتنوعة التي لا يمكنها إلا أن تزيد من حدة الجنح والانحراف. من هنا لم تعد عبارة: " غدي ندخلك لحبس غادي نربيك" تعني التربية والطاعة والانضباط وإعادة الإدماج، بقدر ما أصبحت تخيف من الوقوع في الانحراف والمرض والإهمال. المصطفى صفر

الهادي: العقوبات البديلة غير مقبولة في المجتمع

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

نصوص قانونية معطلة للحد من اكتظاظ السجون

سجناء حطموا الرقم القياسي في حالات العود

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات