محرومون من ظروف العيش الكريم ويعانون الجفاف والحرمان من مراع خصبة على طول مسافة 400 كيلومتر، بين بوعرفة وزاكورة، على الحدود المغربية الجزائرية، تنتشر قبائل الرحل بطقوسها البدائية. تتنقل بين هذه المناطق صعودا وهبوطا في رحلة قد تمتد لأشهر بحثا عن الماء والمراعي والكلأ لماشيتها. اعتاد أفرادها هذه الحياة رغم قساوة المكان ومناخه الصحراوي، إلا أنه في السنين الأخيرة ازداد وضعهم تعقيدا، بعد أن أجبروا من قبل الجيش على مغادرة الشريط الحدودي المعروف بمراعيه الخصبة. ينتمي الرحل إلى قبيلة آيت عطا الأمازيغية، التي تتفرع عنها عدة فخذات، أهمها آيت خباش، لكن هناك رحلا من أصول عربية، توطدت علاقتهم بالأمازيغ منذ القديم وشكلوا كتلة منصهرة أطلق عليها "الرحل". إنجاز: مصطفى لطفي - تصوير: (عبد اللطيف مفيق) (موفدا "الصباح" إلى الرشيدية) لقاء الرحل ليس بالأمر السهل، كما تم الاعتقاد في البداية، إذ رغم انتشار خيم كبيرة تبعد بمئات الأمتار عن أرفود والرشيدية، فإن قاطنيها ليسوا من الرحل، إذ سيتبين في ما بعد أن أقرب عائلة منهم، تبعد عن أرفود بأزيد من 70 كيلومترا. الطريق إلى الرحل اضطرت "الصباح" إلى الانتقال إلى منطقة "رأس الرملة". تبعد عن أرفود بـ30 كيلومترا، بهدف لقاء فاعل جمعوي من أكبر المدافعين عن قضايا الرحل. بعد أزيد من نصف ساعة، تم الوصول إلى منطقة رأس الرملة، تتراءى لك الكثبان الرملية ممتدة كأنها محيط لا نهاية له، فهذه المنطقة تعد بوابة منطقة "مرزوكة" السياحية، تنتشر بها العشرات من النزل السياحية (أوبيرج) تعج بالسياح الأجانب. بنزل على شكل قصبة فخمة، كان لنا لقاء مع حميد نوغو الملقب بـ"موحا جيوغرافي" بحكم معرفته الواسعة بتضاريس المنطقة. شاب متحمس لقضايا الرحل، مسؤول بارز بـ"جمعية "جميعا من أجل المنطقة"، يزاوج بين نشاطه الجمعوي والإشراف على تسيير النزل. كشف "موحى" عن معاناة كبيرة لرحل المنطقة، فأول صفعة تلقوها، تراجع كبير في مساحات الرعي، ما أثر بشكل سلبي على ماشيتهم، إذ يؤكد موحى أن عناصر الجيش على الحدود مع الجزائر تلقت تعليمات صارمة بطرد الرحل من هذه المناطق، لأسباب أمنية وإستراتيجية، ومن أجل تفادي عودتهم إلى المراعي على الحدود، تم بناء منطقة عازلة، بها خندق عميق عرضه ستة أمتار لمنعهم من أي محاولة تسلل. التعليمات العسكرية لها ما يبررها، يقول موحى، بحكم أن المنطقة شهدت في الفترة الأخيرة تناميا كبيرا في نشاط مافيا تهريب المخدرات والسجائر والعديد من السلع الممنوعة، الأمر الذي دفع الجيش إلى التدخل لوضع حد لهذه الفوضى. الأمية والجهل من أكبر المشاكل التي يعانيها الرحل، حرمان الأبناء من التعليم، ما اعتبره موحى معضلة كبيرة، خصوصا أن الرحل مشهود لهم بإنجاب عدد كبير من الأبناء. بعض المسؤولين بالمنطقة برر حرمان الرحل من التعليم، بأن ثقافة الترحال تعيق أي مبادرة من النيابات التعليمية لتخصيص معلمين ومدارس لهم، لكن موحى، يرفض هذا التبرير، ويعتبر ما قيل حجة واهية. يقول موحى" طرحنا على المسؤولين حلا عمليا من أجل ضمان تمدرس أبناء الرحل، وهو إنشاء مدارس متنقلة، بحكم أن هذه المبادرة لقيت نجاحا بمنطقة بوعرفة وزاكورة، تحت إشراف فعاليات جمعوية بالمنطقة، لكن بمنطقة الرشيدية هناك جهات تعرقل تفعيل هذه المدارس لأسباب مجهولة". بعد صمت لم يتجاوز أربع ثوان، واصل موحى حديثه لكن هذه المرة بحسرة " طالبنا باعتبارنا جمعية للرحل بمساعدتنا على استفادة أبنائهم من التعليم، فأبدوا موافقة كبيرة، بل قرروا الاستقرار بمنطقة واحدة على شكل تجمعات سكنية، لتسهيل الأمر على المسؤولين والمشرفين لإنجاح المدارس المتنقلة، لكن رغم هذه التضحية، لا شيء تحقق، وبالتالي فمصير أبنائهم احتراف الرعي في ظروف مزرية". السياحة أولا ثم الطب بسبب انتشارهم في مناطق بعيدة عن المدن الرئيسية بمنطقة الرشيدية، لمسافات تتجاوز العشرات من الكيلومترات، وجدت هذه الفئة نفسها محرومة من التطبيب والعلاج، إذ يستعين الرحل بالوصفات التقليدية لمواجهة الأمراض الخطيرة، ما قد يهدد حياتهم. أمام هذا الوضع، قررت جمعية "جميعا من أجل المنطقة"، تنظيم قوافل طبية للرحل، إذ لقيت هذه المبادرة في البداية استحسانا كبيرا، وأبدى عدد من الأطباء الموافقة عليها، لكن وقع ما لم يكن بالحسبان، إذ اكتفى بعض الأطباء بعلاج بعض عائلات الرحل في اليوم الأول من القافلة، وخصصوا اليومين المتبقيين من القافلة للسياحة بالمنطقة على نفقة الجمعية، والتي وجدت صعوبة في تسديد نفقاتها، سيما أن عددهم تجاوز 30 طبيبا. عم غضب كبير في صفوف أطر الجمعية، خصوصا أن اكتفاء الأطباء بيوم واحد حرم عائلات عديدة من الرحل من العلاج، وتبين أن الهدف من هذه القافلة الطبية سياحي بامتياز وليس إنسانيا، والنتيجة، توقف القوافل الطبية مؤقتا ما كانت له انعكاسات خطيرة على صحة الرحل. توثيق الزواج والنسب بحكم ثقافة الترحال والرعي وبعدهم عن الحواضر لمسافات طويلة، أهمل الرحل توثيق زواجهم وتقييد أبنائهم في سجلات الحالة المدنية. اقتصر الزواج بينهم على الفاتحة، ولضمان استقرار الأسر، قامت فعاليات جمعوية بحملة من أجل توثيق زواج الرحل وتسجيل أبنائهم في كناش الحالة المدنية. مبادرة انخرطت فيها بشكل جدي وزارة العدل ومسؤولو جماعتي الطاوس وسيدي علي والمصالح الأمنية. أسفرت هذه العملية عن تسوية ملف 25 أسرة، منها ثماني أسر بجماعة الطاوس، و12 حالة بجماعة سيدي علي، وحالتان بالريصاني، وحالة واحدة بجماعات اعرب صباح اغريس والملعب وأرفود، في حين مازال الباب مفتوحا نحو تسوية وضعية العديد من الأسر الأخرى، بسبب بعدها بعشرات الكيلومترات. عائلة من الزمن الغابر قرر موحى "جيوغرافيك" نقلنا للقاء إحدى عائلات الرحل بالمنطقة. تأخرت الانطلاقة لنصف ساعة، لغياب سيارة رباعية الدفع، بحكم أننا سنضطر لقطع مسافة 20 كيلومترا بين الكثبان الرملية. على طول الطريق توجد خيم سياحية فخمة، بها سياح أجانب، فضلوا الغوص داخل الصحراء للاستمتاع بالهدوء والسكينة وجمال الطبيعة. في الطريق وسط الكثبان لا أثر للحياة. يقود موحى السيارة باحترافية كبيرة فأي خطأ في المسار قد يكون مكلفا. بعد نصف ساعة من اختراق الكثبان الرملية، تتراءى خيام الرحل على أرض منبسطة، يميل لونها إلى السواد. في هذا المكان فضلت العائلة الاستقرار. لسوء الحظ لم نجد رب العائلة، بعدما قاد قطيعه رفقة إحدى زوجاته الثلاث وبعض أبنائه إلى مرعى بعيد نسبيا عن خيمتهم. داخل "عشة" بدائية، تتعاون زوجتان على وضع الماء في "قربة" من أجل تبريده يحيط بهما خمسة أبناء أكبرهم يبلغ ثماني سنوات والأصغر سنة. حالتهم تدعو إلى الشفقة، وبثياب متسخة، يتنقلون من مكان إلى آخر حفاة، لكن على وجوههم يبدو تحد كبير لهذا الوضع الصعب. بالنسبة إلى يامنة، (اسم مستعار)، اعتادت هذه الحياة منذ طفولتها، وهذا ما ينتظر ابنيها، حسب ما قالته بلهجة أمازيغية، تطوع موحى لترجمتها، اعترفت بظروف العيش القاسية، فلا مدخول لهم سوى الرعي وبعض الفتات الذي يجود به عليهم سياح بالمنطقة أثناء زيارتهم لهم. يتم تقسيم العمل بين الزوج وزوجاته الثلاث، بين الرعي ورعاية الأبناء، والملاحظ أنه لا وجود للغيرة بين زوجاته الثلاث أو نوع من التمييز في التعامل مع الأبناء، كأننا أمام مجتمع "اشتراكي" مصغر. اضطر الزوج محمد إلى الاستقرار مؤقتا بالمكان بحكم قربه من السياح، فعمد إلى بناء غرفة بالطين، دون أن يتخلى عن الخيمة الشهيرة التي ترمز لهوية الرحل. غادرنا المكان، رغم رفض الأطفال الصغار، الذين تمسكوا بأن نظل معهم، كأننا همزة وصل بين عالمهم البدائي وعالم المدينة الذي يتوقون إليه. برلماني الرحل يتحدر عمر أودي، النائب البرلماني عن حزب اليسار الأخضر، من قبائل الرحل، إذ يعد صوتهم بمجلس النواب. فاز بمقعده البرلماني بعد منافسة شرسة في الانتخابات التشريعية الماضية بأرفود، مع خصوم سياسيين من الطراز العالي ينتمون إلى العدالة والتنمية والاستقلال. حسم الرحل نتائج هذه الانتخابات لصالحه، بعد أن قطعوا مسافات طويلة من أجل المشاركة في واجبهم الدستوري. كشف عمر أنه تقدم بأسئلة شفوية وكتابية إلى سعد الدين العثماني رئيس الحكومة من أجل رفع التهميش والتمييز عن الرحل، إذ طالب بتفعيل المدارس المتنقلة لإنقاذ المئات من أبنائهم من شبح الأمية، وإدراجهم في لائحة المستفيدين من المشاريع الاجتماعية، التي تبرمجها الحكومة بالمنطقة، للرفع من مستواهم المعيشي، مضيفا أنه تلقى تطمينات من رئيس الحكومة بتحقيق جميع هذه المطالب، لكن لا شيء تحقق، فالرحل، حسب قوله، كأنهم مواطنون من كوكب آخر. لكن رغم هذا التقصير الحكومي في حق الرحل، يوضح عمر، فإن الدولة، تتدخل لمناسبات عبر دعم الجمعيات المهتمة بهم في المنطقة، لتشجيعها على تنظيم قوافل طبية وحملات تبرع بالملابس والمواد الغذائية، إلا أن هذه المبادرات، تظل في نظر برلماني الرحل غير كافية، لمحدودية الدعم المقدم للجمعيات، وبالتالي وجب إشراك الرحل في برامج تنموية فعلية، بدل الاقتصار على مبادرات "البر والإحسان". فضيحة الدعم كما قلنا سلفا، يبقى الجفاف أكبر عدو لقبائل الرحل، فغياب مراع، يهدد بنفوق كبير للماشية، لهذا تقدم عدد منهم بطلب مساعدات من الدولة من أجل مقاومة الجفاف الذي خيم على المنطقة لسنوات، وتوهم العديد منهم أنهم سيحصلون على تعويضات تعينهم على حياتهم القاسية، وفي الأخير تبين أن شعارات المسؤولين مجرد وهم. في البداية اعتقد رحل أنه تم إقصاؤهم من مبادرة الدعم، بل منهم من تحدث عن تمييز وعنصرية في التعامل مع ملفاتهم مقارنة مع فلاحي المنطقة، لكن المفاجأة الصادمة، ستظهر عندما تطوع فاعل جمعوي للبحث في مصير ملفاتهم والوقوف على أسباب رفض تمويل أصحابها، ليفاجأ أن الجهات المسؤولة خصصت ميزانية الدعم للرحل بسبب الجفاف، لكنها حولت لفائدة جهات بالمنطقة في ظروف غامضة.