المسرح البلدي للبيضاء… معلمة ينهشها الإهمال

المسرح البلدي للبيضاء... معلمة ينهشها الإهمال بنايته صارت مرتعا للجرذان وبركه الآسنة تنبعث منها روائح كريهة بنايته صارت مرتعا للجرذان وبركه الآسنة تنبعث منها روائح كريهة سياجه صدئ. الأجزاء التي لم يطلها الصدأ علاها الغبار، أو اتخذت منها العناكب ملاذا لنسج بيوتها. أبوابه، أو سياجاته، مغلقة بإحكام. سلاسل متينة وصدئة تحيط بمصراعي البابين الحديديين العملاقين اللذين ينتصبان سدا منيعا أمام كل من تسول له نفسه «التعدي على حرمة» المسرح البلدي للدار البيضاء. موقعه استراتيجي جدا. يقع في قلب العاصمة الاقتصادية، وفي واحد من أكثر شوارعها حركة واكتظاظا. المكان الذي خلف السياجات العالية والصدئة أصبح مزبلة بها الكثير من الأزبال والنفايات، ومستنقعا وبركة آسنة تتجمع فيها مياه الأمطار والمياه التي تتسرب من سقف بناية المسرح البلدي بشارع الجيش الملكي. إهمال ولامبالاة الأعمدة الإسمنتية الضخمة للبناية تبدو عليها آثار الإهمال. بقايا ملصقات إعلانية يشدها غراء أبيض اللون. بقايا الإعلانات الورقية تغلف كل الأعمدة بلا استثناء. اليافطة التي تحمل لفظة «مسرح» بالعربية والفرنسية بدورها علتها الأتربة والغبار. التسمية بالعربية انمحى حرفها الأول وجزء من حرفها الثاني. البابان الجانبيان المؤديان إلى «القبو الفسيح» للمسرح بدورهما مغلقان. الباب الخشبي بدأ يتآكل. الباب الحديدي بدأ الصدأ يزحف على أطرافه وصباغته تقشرت. «الأدهى من كل ذلك أن بناية المسرح البلدي العريق أصبحت مرتعا للجرذان»، يقول ليزيد مجتهيد، صاحب مطعم يقع بمحاذاة المعلمة الثقافية والمسرحية التي نال منها «إهمال ولامبالاة المسؤولين» عن الشأن الثقافي للمتروبول المليوني والمترامي الأطراف، يضيف محدثنا بصوت مرتفع وحاد. حنق الرجل مرده إلى ما يقول إنها «الفاتورة الباهظة للصراع الدائر داخل دواليب مجلس مدينة الدار البيضاء التي نؤديها من مالنا الخاص». يعود ليزيد بذاكرته إلى الوراء قليلا ليؤكد، في حديث مع «الصباح»، أن المسرح تم «إغلاقه قبل حوالي 15 سنة». ولماذا إغلاق معلمة عمرانية وثقافية من حجم المسرح البلدي؟ «أخبرونا أن الغرض من وراء ذلك هو إصلاح مرافق المسرح التي تأثرت كثيرا مع مرور الوقت، مشددين على أن الأمر لن يستغرق وقتا كبيرا»، يجيب مجتهيد. الجرذان السمينة مصدر انزعاج صاحب المطعم ليس هو إغلاق ملاذ مسرحيي وفناني مدينة الدار البيضاء، ولكنه «الجرذان (الطوبات) التي تتكاثر داخل البناية وتتخذ منها جحورا، ومنطلقا لشن غاراتها الليلية على المطعم وترويع الزبائن»، ويستطرد بنبرة أكثر حدة «كايخرجو من تما شي طوبّات كد المشاش، كايتساراو هنا كي ما بغاو، مابقا ليهم غير يلعبو لكورة»، يضيف متهكما. حالة المسرح تتردى أكثر، خلال الفترات الماطرة، ومعها يتبدى الإهمال الذي ينز من أسطح ومنافذ المسرح البلدي للبيضاء. «عندما تتساقط الأمطار، تتسرب من أسطح بناية المسرح، وتتدفق إلى البهو الأمامي، حيث تتجمع لتشكل بركة آسنة تنبعث منها روائح كريهة تنفر المارة وزبائن المطعم». أستاذ مادة المسرح بالمعهد البلدي، بوشعيب الطالعي، أكد هذا الواقع «المزري» الذي أصبح عليه المسرح، قائلا في اتصال هاتفي مع «الصباح»، إنه توجه، أخيرا، إلى مقر المسرح لتصوير ربورتاج تلفزيوني، كانت تنجزه إحدى القنوات المغربية، «لقد شاهدت ما يندى له الجبين، لقد تحول جزء منه إلى بركة مائية كريهة الروائح، والجرذان تصول وتجول هناك بكل حرية». "ضعنا فيه" الطالعي يلقي باللائمة في الوضع الذي آل إليه المسرح البلدي، الذي كان سابقا أكبر قاعة أفراح بمدينة الدار البيضاء قبل تحويله إلى مسرح بعد أن صدر قرار، ممهور بتوقيع وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، يقضي بهدم المسرح البلدي القديم للبيضاء سنة 1984، على منتخبي مجلس مدينة الدار البيضاء، قائلا، بصوت مبحوح، «هؤلاء لا حس ثقافي لديهم، وآخر ما يفكرون فيه هو الشأن الثقافي».«ضعنا فيه»، يعلق الأستاذ المسرحي بحسرة كبيرة، ويسترسل «حتى وإن أظهر المنتخبون بالبيضاء اهتمامهم بالثقافة، من خلال تقديم الدعم المالي، فإن ذلك يظل صوريا». «كيف يدعمون الفرق المسرحية، وهي لا تجد فضاء تمارس فيه هذا الفن النبيل؟» يتساءل الطالعي باستنكار. يتذكر الطالعي أنه على عهد عبد المغيث السليماني، رئيس المجموعة الحضرية للدار البيضاء سابقا، تم تكليفه بإعداد دراسة حول إعادة تهيئة المسرح، و»فعلا قمت بذلك، إذ وضعت دراسة معمقة وشاملة ترسم ملامح تهيئة وترميم المسرح البلدي، من خلال توسيع ركحه وإضافة شرفة داخلية». لكن لماذا لم يتحقق كل هذا؟ «أنا لا أعلم، لقد كانوا في الأول متحمسين لهذا المشروع، لكن بين عشية وضحاها صار الأمر كله في خبر كان»، يرد الطالعي. نقابة المسرحيين «الترميم الذي كان مفروضا أن يكون مؤقتا، طال أكثر مما يلزم»، يقول رئيس النقابة المغربية لمحترفي المسرح، حسن النفالي في حديث هاتفي مع «الصباح». «الهدف كان هو تحويل قاعة الأفراح، نظرا لشساعة مساحتها، إلى مسرح بلدي مؤقت ريثما يتم بناء المسرح البلدي الكبير للبيضاء، لكن شيئا من ذلك لم يتحقق»، يشرح نقيب المسرحيين المغاربة بآسف كبير. وأشار إلى أن النقابة قادت في سنة 2001 سلسلة وقفات احتجاجية أمام مقر المسرح للتنديد «بتأخر إصلاح المسرح، واستمرار إغلاقه»، لكن هذه الاحتجاجات بدورها ذهبت أدراج الرياح ولم تجد آذانا مصغية، محملا المسؤولية في هذا الواقع الذي يعيشه المسرح البلدي للبيضاء «لمجلس المدينة، الذي يتلكأ في انتشال هذه المعلمة من التردي الذي تعيشه». وأوضح أن من اتخذوا قرار تحويل قاعة الأفراح إلى مسرح بلدي «فعلوا ذلك بنية إخراس الأصوات التي انتقدت هدم المسرح البلدي للدار البيضاء الذي كان مقره أمام ولاية البيضاء». "اغتيال معلمة ثقافية" المنتخبون عن مجلس مدينة الدار البيضاء، الممثلون لجناح المعارضة، انتقدوا بدورهم الوضع الذي آل إليه حال المسرح البلدي. وفي هذا الصدد قال المعارض عبد الحق مبشور، عضو المجلس عن الحزب العمالي، إن «المنتخبين الذين تعاقبوا على تسيير المدينة لم يفلحوا إلا في اغتيال هذه المعلمة الثقافية، أما الحديث عن الإصلاح أو الترميم فهو مجرد كلام ليل يمحوه النهار». وكشف، في اتصال هاتفي مع «الصباح»، أن محمد ساجد، عمدة مدينة الدار البيضاء، «لم يسبق له أبدا أن طرح نقطة إعادة فتح المسرح أو تسريع وتيرة إصلاحه ضمن جدول أعمال دورات المجلس»، محذرا في الآن نفسه من أن الوضعية التي صار عليها المسرح «أصبحت تشكل خطرا على مرتادي الفضاءات المجاورة له»، قائلا إن الفضاء المفروض فيه صقل المواهب الفنية لأبناء البيضاء «أصبح مرتعا للجرذان والبرك الآسنة ومصدرا للروائح الكريهة». وانتقد بشدة غياب سياسات تهتم بالشأن الثقافي، وقال «للأسف رئاسة المجلس ليست لديها سياسة أو خارطة طريق واضحة للنهوض بالشأن الثقافي»، مستغربا «حرمان البيضاويين من أثر عمراني وثقافي في قيمة وحجم المسرح البلدي»، معبرا عن أمله في أن «تراجع رئاسة المجلس حساباتها وتولي قليلا من الاهتمام للشأن الثقافي للعاصمة الاقتصادية». وللمكتبة نصيب الإهمال واللامبالاة اللذان ينهشان بناية المسرح البلدي، طالا «حتى المكتبة البلدية التي تحاذيه»، كما تذهب إلى ذلك بعض المصادر. «الصباح» في زيارتها إلى بناية المسرح، عرجت على مقر المكتبة للتأكد من صحة الكلام الذي يدور حول بناية المكتبة التي صارت جدرانا خاوية على عروشها. بمجرد ما هممنا بالدخول إلى مقرها، الذي لا تختلف واجهته كثيرا عن واجهة المسرح، حتى استوقفنا شخص يقول إنه، وزميل كان بجانبه، مكلف بحراسة بناية المكتبة. «فين غادي أخويا؟»، يتساءل حارس المكتبة... «أش من كتوب باقين هنا»، يعلق باستغراب على جوابنا، ثم ينهي الحديث المقتضب بالقول إن الكتب التي كانت هنا تم نقل جزء منها إلى جناح موجود بشارع الجيش الملكي، قرب وكالة تابعة لإحدى شركات الطيران الخليجية. «غالبية الكتب التي كانت هنا تم نقلها إلى كراج (هكذا قالها) في انتظار إصلاح مرافق المكتبة»، التي أصبحت اليوم مغلقة في وجه أبناء الدار البيضاء، في الوقت الذي يتناوب على حراسة بنايتها الخاوية مجموعة من الموظفين. «حوالي عشرين موظفا يتعاقبون على ذلك»، يؤكد صاحب المطعم المجاور ليزيد مجتهيد. ولابد من الإشارة إلى أن «الصباح» حاولت الاتصال بوفاء الصقلي رئيسة قسم الثقافة والتنشيط بمجلس مدينة الدار البيضاء، قصد استطلاع وجهة نظر المجلس حول تحميله مسؤولية تأخير انتشال المسرح البلدي من الوضع المزري الذي أصبح عليه، إلا أن هاتفها كان مغلقا، ولم تكن تجيب سوى علبته الصوتية. محمد أرحمني

المسرح البلدي للبيضاء… معلمة ينهشها الإهمال

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

المغرب يعيش ثورة هادئة وتغييرا سلميا

الباطرونا ونقابة العدالة والتنمية تبحثان عن السلم الاجتماعي

مقالات ذات صلة