“سكيزوفرينيا” الدولة والمجتمع

الانفصام تسرب إلى الدستور الذي يعد تعاقدا من المفترض أن يحسم الخيار المجتمعي في يونيو الماضي (2015)، تبادل شابان مثليان القبل في باحة صومعة حسان بالرباط. تم إيقافهما وبالليل أذيع الخبر في النشرة الرئيسية للقناة الأولى، تعمد فيه التشهير بهما بإظهار وجهيهما وهويتيهما مكشوفتين، وفي اليوم الموالي، التقط شباب بحي الرشاد في منطقة التقدم بالرباط الإشارة بأن الشابين مستباحان، فطبعوا صورة واحد منهما، التي ظهرت في التلفزيون، ونظموا وقفة احتجاجية أمام منزل أسرة المثلي جنسيا، ثم مسيرة تكفره، جابت سوقا شعبيا دون أن يتدخل أحد لمنعهم.والسلطة، التي سمحت بالتشهير بالشاب في إعلام الدولة وسمحت بمضايقة أسرته وهو في السجن، هي نفسها التي ستستفزها واقعة الاعتداء على مثلي بفاس في ليلية رمضانية، ليصدر بلاغ ينبه إلى أن كل "من يتجاوز سلطة القانون والترامي على اختصاصات الدولة التي يبقى لها وحدها حق إيقاع العقاب على المخالفين للقانون، سيتم التعامل معه بالصرامة اللازمة".إذا كانت الواقعتان أعلاه، تكشفان انفصاما، أو على الأقل ازدواجية لدى السلطات، يكشفها أيضا، الترخيص قانونيا للحانات وجني ضرائب الاستهلاك من الخمور، مع الإبقاء على نص قانوني يحرم استهلاكها، فإنه انفصام يوجد مماثل له في المجتمع، وأساسا لدى معتنقي"الإسلام الشعبي"، وهم مواطنون يدعون إلى الاحتكام إلى الشريعة في قضايا الحريات فيعتدون على المثليين ومفطري رمضان، لكنهم يتعاملون بالربا ويمارسون ما قد يعد آثاما بالنسبة إلى الدين.وفي وقت يقول فيه أكاديميون ونشطاء سياسيون وحقوقيون (أنظر الصفحات الموالية)، في تفسيرهم لذلك التناقض والازدواجية، إنه عقيدة وإستراتيجية مقصودة، إذ يتم اللعب على تناقضات المجتمع وتياراته من أجل تبرير أنماط تدبير سياسي غير ديمقراطية، فإنه من جهة أخرى يسائل حقيقة حسم المغرب لاختياره المجتمعي والمسار الذي يريده.وفي هذا الصدد، تكفي العودة إلى عدد من فصول الدستور، الذي من المفروض أنه يؤطر أو يعكس على الأقل طبيعة التعاقد الاجتماعي بالمغرب، للوقوف على أنها نصوص حبلى بالتناقضات، ويجد فيها المحافظ التبرير لممارساته كما يجد فيها المنفتح ما يؤسس لقانونية سلوكاته.ومن ذلك تنصيص التصدير، الذي يعد بمنطوق الدستور نفسه أنه "جزء لا يتجزأ من الدستور"، على "حظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي، مهما كان"، ثم يأتي الفصل الأول، من الدستور نفسه، لينص على أن "الأمة تستند في حياتها العامة على ثوابت جامعة"، أولها، "الدين الإسلامي السمح"، ما يلغي، تقريبا، التصدير الذي يضمن حرية المعتقد.ويتوالى التضارب، لتجد أن من ثوابت المغرب، بموجب الدستور بوصفه أسمى قانون، ينص على أن دولة المغرب في تصدير دستورها "تؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا"، فيأتي، في الفصل 19، مثلا ونص أن "الرجل والمرأة، يتمتعان على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب..."، لكن، يقوض ذلك، مباشرة بالعبارة: "وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة"، وهي ثوابت، نجد أنها "الدين الإسلامي" و"الاختيار الديمقراطي"!ما بات يعرف بـ"سكيزوفرينيا الدولة والمجتمع"، وأسال مدادا كثيرا من قبل المتخصصين والمراقبين، لا يظهر فقط على أن المغرب، دولة ومجتمعا متردد في اختياراته الهوياتية والمجتمعية والقيمية، ما يفتح الباب أمام عدد من الأمور غير المستساغة، بل يسائل حقيقة وجود تعاقد اجتماعي وتوافق بين مكونات المجتمع، التي كلها اليوم، تتواجه على أكثر من صعيد وقضية، وكلها تلوح بشرعية أفعالها بموجب الدستور، فيقول المتشدد إن سلوكاته منسجمة مع أسمى قانون في البلاد، بالقدر نفسه الذي يقول فيه المنفتح إن قناعاته مشروعة بموجب القانون ذاته.امحمد خيي

“سكيزوفرينيا” الدولة والمجتمع

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

السيبة ... حين كان المغرب تحت رحمة القوة

مختصرات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات